مقدمة
منذ أكثر من عقد من الزمان، يتصدر اسم نيافة المطران مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، مطران حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس، قوائم المفقودين في خضم الأزمة السورية. لم يكن اختفاؤه في 22 أبريل 2013 حادثاً عابراً، بل مثل نقطة سوداء في سجل الصراع، وألقى بظلاله على الوجود المسيحي في الشرق، وعلى مفاهيم العدالة والمسؤولية في منطقة تعاني من ويلات الحرب.
من القامشلي إلى كرسي المطرانية: سيرة حافلة بالعطاء
وُلد مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم في مدينة القامشلي السورية في 18 أغسطس 1948 لعائلة فاضلة ومؤمنة. تلقى دراسته الابتدائية في المدارس السريانية، ثم تابع دراسته الثانوية في ثانوية النهضة السريانية. كان منذ صغره شغوفاً بالمعرفة واللاهوت، مما دفعه إلى الالتحاق بمعهد مار أفرام الكهنوتي في زحلة بلبنان عام 1962. تخرج من المعهد عام 1967 بدرجة “جيد جداً” في اللاهوت والفلسفة، مما كان إيذاناً ببدء مسيرة علمية وروحية متميزة.
بعد تخرجه، عُيّن سكرتيراً في مطرانية الموصل بالعراق بين عامي 1967 و1973، حيث أظهر تفانياً كبيراً في الخدمة الكنسيَّة. لم يكتفِ بذلك، بل أكمل دراساته العليا في المعهد الحبري المشرقي في روما بإيطاليا، حيث حاز على شهادة الماجستير في التاريخ وبكالوريوس في الحق الشرقي. كما أمضى سنتين دراسيتين في إنجلترا، وكتب أطروحة الدكتوراه عن القبائل العربية النصرانية في بلاد ما بين النهرين قبل الإسلام، مما يدل على اهتمامه العميق بالتاريخ المسيحي والمشرقي.
مطران حلب: مسيرة مهنية غنية بالمآثر
في 4 مارس 1979، سيم المطران يوحنا إبراهيم مطراناً على حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس، وحاز على لقب “غريغوريوس” بحسب التقليد السرياني. على مدار أكثر من ثلاثة عقود في هذا المنصب، لم يكن مجرد رجل دين، بل كان قائداً روحياً، ومثقفاً، ورائداً في العمل المسكوني والحوار بين الأديان.
أبرز مآثره ودوره المهني:
- الدور المسكوني والحواري: كان المطران يوحنا إبراهيم شخصية محورية في الحوار المسيحي-الإسلامي والمسكوني. شغل عضوية اللجنة المركزية في مجلس الكنائس العالمي (WCC) بين عامي 1980 و1998، وعضوية اللجنة التنفيذية للجنة الإيمان والنظام في مجلس الكنائس العالمي منذ عام 1990. كما كان مستشاراً للجنة الشعوب والأديان في روما منذ عام 1987، وعضوًا في اللجنة العالمية للحوار الأرثوذكسي – الأرثوذكسي، واللجنة العالمية للحوار الشرقي الأرثوذكسي-الكاثوليكي منذ عام 1983 (مؤسسة برو أورينتي). هذه المشاركات المتعددة عكست إيمانه الراسخ بأهمية بناء الجسور بين الثقافات والأديان.
- الجانب الفكري والثقافي: كان المطران مثقفاً بارزاً، أتقن عدة لغات، وترك خلفه مكتبة ضخمة تضم أكثر من عشرين ألف كتاب. أسس دار ماردين-الرها للنشر في حلب عام 1977، والتي عنيت بنشر المئات من الكتب في المواضيع المسيحية والتاريخية، مما ساهم في إثراء المكتبة العربية والسريانية. من أشهر مؤلفاته “قبول الآخر” الذي صدر عام 2006 بمناسبة احتفال حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، ويعكس رؤيته المتسامحة وقناعته بالعيش المشترك.
- الدور الاجتماعي والإنساني: سعى دائماً للتخفيف من معاناة شعبه، خاصة في أوقات الشدة. عزز الأوقاف الكنسية بعقارات مختلفة لدعم صندوق الأبرشية، وأسس مستوصفين: دار شفاء مار أفرام ودار شفاء مار جرجس، لتقديم الرعاية الصحية للمحتاجين.
- رسالة الوحدة والصمود: خلال بداية الأزمة السورية، دعا المطران يوحنا إبراهيم المسيحيين إلى عدم الهجرة، مؤكداً على ضرورة الصمود في وجه التحديات، وحمل جميع الأطراف مسؤولية تفاقم الوضع. كانت رسالته تتمحور حول أهمية الوحدة الوطنية والعيش المشترك، إيماناً منه بأن الأوطان تُبنى بالمصالحة لا بالانقسام.
حادثة التغييب الغامضة
في 22 أبريل 2013، وبينما كان المطران يوحنا إبراهيم برفقة مطران الروم الأرثوذكس على حلب، بولس يازجي، في مهمة إنسانية نبيلة لتحرير كاهنين مخطوفين (الأب ميشيل كيال والأب ماهر محفوظ) بالقرب من حلب، تعرضا للاختطاف. لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحادث، ولم تُكشف تفاصيل واضحة حول مصيرهما أو الجهة الخاطفة. تراوحت الاتهامات بين فصائل مسلحة مختلفة وتنظيم الدولة الإسلامية والنظام السوري، في ظل صمت دولي أثار استغراب عائلة المطران والكنائس الشرقية.

المراجع الكهنوتية: صرخة استنكار ومطالبة بالعدالة
منذ اللحظة الأولى لتغييب المطران يوحنا إبراهيم والمطران بولس يازجي، لم تتوقف المراجع الكهنوتية، محلياً وعالمياً، عن التعبير عن صدمتها واستنكارها لهذه الجريمة النكراء. البطريركية السريانية الأرثوذكسية، برئاسة قداسة البطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني (وسلفه مار إغناطيوس زكا الأول عيواص)، أصدرت العديد من البيانات والتصريحات التي تدين حادثة الاختطاف وتطالب بالكشف عن مصيرهما. وقد أكدت البطريركية مراراً على أن هذا العمل يمثل اعتداءً على الكنيسة وعلى الوجود المسيحي في الشرق، وتحديًا للقيم الإنسانية جمعاء.
كما كان لـمجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي يضم تمثيلاً واسعاً لمختلف الكنائس في المنطقة، دور بارز في إبقاء القضية حية. فقد أصدر المجلس بيانات دورية، خاصة في الذكرى السنوية للاختطاف، يجدد فيها المطالبة بكشف الحقيقة ويحث المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية على بذل المزيد من الجهود. هذه البيانات لم تقتصر على التنديد فحسب، بل أكدت على مكانة المطرانين كرموز للعيش المشترك والحوار.
على الصعيد العالمي، تابع الفاتيكان القضية بقلق بالغ، حيث أعرب قداسة البابا فرنسيس مراراً عن تضامنه مع عائلتي المطرانين والكنائس المتضررة. كما أن العديد من الكنائس الشقيقة حول العالم، ومنظمات حقوق الإنسان، لم تدخر جهداً في تسليط الضوء على هذه المأساة، معتبرين أن استمرار تغييب المطرانين هو وصمة عار على جبين الإنسانية، ويتطلب تحركاً جاداً وعاجلاً من قبل جميع الأطراف المعنية. هذه المواقف الكهنوتية تعكس ليس فقط الاهتمام بمصير رجال الدين، بل أيضاً بالقلق العميق على مستقبل التنوع الديني والثقافي في المنطقة.
مطالبات بالعدالة ورفض لطيّ الملف
منذ لحظة اختفائهما، لم تتوقف المطالبات بالكشف عن مصير المطرانين. عائلة المطران يوحنا إبراهيم ولجنة متابعة ملف اختطافه ترفضان بشكل قاطع طي الملف، مؤكدين أن الحقيقة الكاملة هي الهدف الوحيد، ورافضين أي “أنصاف روايات” أو “مسكنات وقت”. بيانات متتالية صدرت عن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية ومجلس كنائس الشرق الأوسط، وعن عائلة المطران، تندد بالصمت الدولي وتجاهله لهذه المأساة، وتؤكد أن قضية تغييب المطرانين ليست مجرد حادثة فردية، بل هي رمز لمعاناة الوجود المسيحي في الشرق، وتأثير الصراعات على النسيج الاجتماعي للمنطقة.
انعكاسات التغييب على المشهد السوري
غياب المطران يوحنا إبراهيم، ورفيقه المطران بولس يازجي، يمثل خسارة كبيرة للمسيحيين في سوريا والمنطقة بأسرها. فقد كانا صوتاً للاعتدال والحوار، ورمزاً للصمود في وجه الأزمات. إن استمرار تغييبهما يسلط الضوء على هشاشة الوضع في سوريا، حيث لا يزال المدنيون، بمن فيهم رجال الدين، عرضة للاستهداف والتغييب. كما أنه يعكس تحديًا كبيراً أمام أي جهود مستقبلية للمصالحة الوطنية، ما دامت قضايا العدالة والمفقودين معلقة دون حلول واضحة.
إن قضية المطرانين المغيبين هي نداء مستمر للمجتمع الدولي للتحرك وكشف الحقيقة، ليس فقط من أجل عائلتيهما وكنيستيهما، بل من أجل العدالة الإنسانية التي يجب أن تسود حتى في أحلك الظروف.
المصادر:
- مطرانية حلب وتوابعها للسريان الأرثوذكس: “السيرة الذاتية للمطران المُغَيَّبْ”: http://t.ly/Dky9g
- الذاكرة السورية: “الشخصيات | يوحنا إبراهيم”: http://t.ly/W56Qf
- مجلس كنائس الشرق الأوسط: “في الذكرى السنوية الحادية عشرة على اختطاف مطراني حلب”. تاريخ النشر: 22 أبريل 2024:t.ly/7u1ZD
- عنب بلدي: “لغز تعاجز عنه الجميع.. تسع سنوات على اختفاء مطراني حلب”. متاح على: http://t.ly/99KIg
- الوكالة الوطنية للإعلام (NNA): “عائلة المطران إبراهيم ولجنة متابعة ملف اختطافه: لن تغلق هذه القضية مهما طال الزمان”. تاريخ النشر: 22 أبريل 2025: http://t.ly/3cFFm
- Vatican News: “عقد وعام على اختطاف مطراني حلب يوحنا إبراهيم وبولس يازجي”. تاريخ النشر: 23 أبريل 2024: t.ly/hGF-p
- بهنان يامين: مفهوم المواطنة مقابل مفهوم الاقليات- أبريل 19, 2020