حدث في سورية، صباح يوم من أيام العام 1932، عندما هرع جماعة من عشائر البدو في تل الحريري قرب مدينة البوكمال، ليدفنوا ميتاً لهم في حفرة بالتراب، فجأة بانت عينان واسعتان تحدقان بشكل مرعب لوجهٍ كان مدفوناً هناك. فزعت الجماعة، وهرعت تبلغ السلطات الفرنسية التي كانت تستعمر سورية آنذاك. فسارع الضابط الفرنسي “كوبان” للكشف على هذا المشهد. وبدوره قام بإخبار متحف اللوفر بأهمية ذلك الاكتشاف (مملكة ماري).
أرسلت الحكومة الفرنسية على الفور، بعثة للتنقيب يرأسها العالم “أندريه بارو”، فاكتشفوا وجود مملكة ماري مطمورة تحت التراب.
مملكة ماري
سنقدم هنا تلخيصاً لما جاء في تقرير عالم الآثار الفرنسي “جان كلود مارغرون”.
الموقع الجغرافي:
تقع مملكة ماري القديمة، تل الحريري اليوم، على الضفة اليمنى لحوض الفرات السوري الأوسط على مسافة 10كم تقريباً إلى الشمال من بلدة البوكمال، وذلك في نقطة التقاء استراتيجي وجغرافي بين بلاد الرافدين في الشرق وبلاد الشام في الغرب وبلاد الأناضول في الشمال والخليج العربي جنوباً. ويشكل الجسم الرئيسي للموقع تلاً دائريَّ الشكل، قطره 1900م وارتفاعه 15م.
البعد الزمني:
ورد اسم مملكة ماري في النصوص الرافدية القديمة، في قائمة الملوك السومريين، مقراً للسلالة العاشرة بعد الطوفان. وخمّن الباحثون وجودها في مكان ما بين ضفتي الفرات السوري والعراقي حتى اكتشفت المدينة بالمصادفة عام 1933، عندما كانت مجموعة من البدو تدفن أحد موتاها في التل، فعثرت على تمثال يحمل كتابة مسمارية؛ مما دفع إلى بدء التنقيب في الموقع، وفي نفس عام الاكتشاف (1933) من قبل بعثة فرنسية من متحف اللوڤر بإدارة أندريه بارو A.Parrot، بتفويض من سلطة الانتداب الفرنسي في ذلك الحين، الذي كشف في أكثر من عشرين موسم تنقيب عن أوابد معمارية مهمة، مثل القصر الملكي الكبير العائد إلى الألف الثاني ق.م، وفيه الأرشيف الملكي الضخم، ومعبد «نيني – زازا» ومعبد «عشتار» والعديد من التماثيل واللقى الأخرى.
تابع التنقيب في موقع مملكة ماري بين أعوام 1979- 2004، جان كلود مارغرون J.C.Margueron، وتتالت في عهده مكتشفات جديدة منها القصر الشمالي الصغير ومشاغل المدينة والسويات الأقدم فيها. ومنذ عام 2005 يدير التنقيب باسـكال بترلان P.Butterland.
تبين أنَّ مملكة ماري مرت عبر تاريخها بعدة مراحل، بين بداية الألف الثالث ق.م حتى منتصف القرن الثامن عشر ق.م تقريباً.
مخطط مملكة ماري:
المرحلة الأولى (الأقدم):
تم بناء (نواة المدينة الأولى- Ville I). تمَّ الشروع في بنائها في عصر السلالات الباكرة، الألف الثالث ما بين أعوام 2900-2650 ق.م. وقد اختير موقعها على طريق التجارة العالمية الكبرى، (أي طريق الحرير كما سميَّ لاحقاً)، وافترشت المدينة الأراضي الزراعية الخصبة جوار نهر الفرات، الذي جُرَّت بعض مياهه عبر قنوات شُقّت بين النهر والمدينة، واستُخدمت في الري أو في النقل المائي. ورغم أن هذه المدينة كانت مدفونة بعمق تحت أنقاض المدن اللاحقة، فقد تعذر الكشف عن معظم أجزائها، ولكن التنقيبات أظهرت أنها كانت مدينة قوية ومحصنة أحاط بها خندق دائري، حماها من الفيضانات، محاط بسور داخلي بسماكة ستة أمتار حماها من الأعداء. كانت إحدى بوابات المدينة تؤدي إلى شارع يصل إلى القسم الأعلى من مملكة ماري، حيث وجدت بعض المنشآت المخصصة للأعمال الحرفية مثل مشاغل السباكة والنسيج وصناعة الفخار والصدف، إضافة إلى بعض المنازل السكنية، غير أنه لم يُعثر من هذه المرحلة على أي معابد أو قصور، وكانت القطع الفنية الأخرى نادرة. ويبدو أن هذه المدينة قد هجرت نحو قرن من الزمن ولأسباب مجهولة.
المرحلة الثانية (الزقورات بجانب القصر الملكي / عصر المدينة الثانية – Ville II):
تعود إلى عصر السلالات الباكرة الثالث والعصر الآكادي، بين 2550- 2200 ق.م.، حيث نشأت هذه المدينة من جديد على أنقاض المدينة الأولى وفق هندسة تنظيمية حديثة، لم تكن معروفة من أي موقع معاصر آخر، مستفيدة من النظام الدفاعي للمدينة الأولى. توزعت الأبنية فيها بانتظام ، وربطتها شبكة شوارع رئيسية وفرعية متكاملة إلى جانب نظام دقيق للتعامل مع المياه والأمطار، سواء من خلال التصريف أم التخزين. وقد تم رَدم خندق المدينة الأولى وأُقيم عليه سور دفاعي، كافٍ لتوفير الحماية اللازمة عن المدينة، وظهرت طرقات كبرى تنطلق من مركز مملكة ماري وتلتقي على شكل شبكة العنكبوت، وهناك الأحياء السكنية والأحياء ذات الأنشطة الأخرى المتنوعة.
-
المعابد:
حظيت المعابد بالاهتمام الأول وشُيدت في قلب المدينة وفق طراز معماري متميز. وقد كُشف في وسط المدينة عن ستة معابد، اثنان منها لم يكتمل بناؤهما، وهما معبدا «شمش» و«عشتاروت»، وهناك معابد «نينهورساع»، «سيدة الجبال» Ninhursag، و«نيني زازا» و«داجان» ومعبد «عشتار» غربي مملكة ماري، إضافة إلى المعبد الأقدم وهو بقايا الزيقورة المسماة الكتلة الحمراء Massif Rouge نسبة إلى اللَّبِنْ الأحمر الذي دل عليها، تقع إلى الجهة الشرقية المرتفعة من المدينة. ثم هناك ما أُسمي بـ«السور المقدس» Enceinte sacrée المجاور للقصر الملكي. عثر في معبد عشتار على تمثال “لمجي ماري، ملك ماري”.
احتوت بعض المعابد على نصب من الأحجار السوداء Betyl إشارة إلى الإله المعبود ومصاطب جلوس مع العديد من التماثيل التي نُحتت بأشكال التعبد لتبارك أصحابها، ومنها تمثال الملك إيكون – شاماغان Ikun-Shamagan وهو أكبر تمثال وُجد في مملكة ماري، وتمثال المغنية أورنينا الشهيرة، أورنانشِه Ur-Nanshé اللذان وجدا في حرم معبد نيني – زازا Nini-zaza
في حين عُثر في حرم معبد عشتار على تمثال لَمجي ماري Lamgi Mari، ملك ماري، وقد تم بفضل الكتابة التي حملها على كتفيه معرفة مملكة ماري.
-
القصور:
كما وُجد القصر الملكي الذي شُيِّد في قلب المدينة المرتفعة وحمل صفات فريدة في العمارة الشرقية جعلت منه قصراً ومعبداً في الوقت نفسه. ولا شك في أن القصر (المعبد) هو الأهم والأكثر ضخامة من نوعه حتى اليوم، وهو الأكثر إبداعاً وتجديداً من الناحية الفنية والعمرانية في مملكة ماري.
-
التماثيل:
كما عثر على تمثال الحاكم “إيبيه ـ إيل Ebih – Il” عثر عليه في معبد عشتار ويعود تاريخه إلى 2400 ق.م (متحف اللوفر).
دلت التماثيل على تطور كبير لمدرسة فنية متميزة في النحت. وقد صُنعت التماثيل من الحجر الكلسي، وهي إما عامة لا على التعيين أو خاصة لأشخاص محددين؛ فنُحِت الرجال وقوفاً حفاةً، اليدان مضمومتان إلى الصدر في وضعية التعبد، النصف الأعلى عارٍ، والنصف الأسفل يغطيه مئزر على شكل جلد الخروف (كوناكس Kaunakes) واللحية طويلة ولكن من غير شارب، أما النساء فقد ارتدين لباساً يستر الكتف الأيمن وقبعة على الرأس (بولوس Polos)، وجُعلت العيون بالصدف أو المواد الأخرى مثل حجر اللازورد المستورد من الهند. وهناك التماثيل النصفية والوجوه والتماثيل الزوجية وهي الأولى من نوعها في سورية.
وكذلك عثر على بعض اللوحات النذرية المنفّذة بالنحت البارز ذات الموضوعات الميثولوجية مثل الولائم والمصارعة والمشاهد الحربية والحيوانات الخرافية، والعديد من اللوحات التي نفّذت موضوعاتها عن طريق التطعيم بالأحجار النادرة، وهذا من أكثر الفنون أصالة في ماري، كاللوحة المستطيلة التي قُسّمت إلى حقول ثلاثة ونفّذت من الصدف والعاج واللازورد والذهب، وأظهرت مشاهد للمتعبدين والمتعبدات والآلهة في مراسم «الزواج المقدس» التي كانت من أهم التقاليد الدينية في مملكة ماري.
مراسم «الزواج المقدس» التي كانت من أهم التقاليد الدينية في ماري– من مواقع مختلفة
ومن اللقى الفريدة في القصر الملكي ما أصبح يُعرف بكنـز أور Le trésor d’Ur الذي وجد في جرَّة، وضم خرزة عليها كتابة قرئت من بعض الباحثين على أنها هدية من ملك أور إلى ملك ماري، كما ضمّ الكنـز صورة نسر برأس أسد وتمثالاً برونزياً لآلهة عارية وآخر من العاج لآلهة عارية أيضاً ومشابك وأساور وغير ذلك من المواد المنفذَّة من البرونز والفضة والذهب، وهناك الأواني الحجرية ومسامير التأسيس والأختام الأسطوانية ومجسمات البيوت وغيرها.
كما عثر على تمثال راهبة ترتدي قبعة على الرأس (بولوس) في معبد (نيني ـ زازا) في مملكة ماري ويعود تاريخه إلى الألف الثالث ق.م.
أما الوثائق الكتابية من هذه المرحلة كانت نادرة في هذا العصر.
عاشت مملكة ماري الثانية نحو ثلاثة قرون، وكانت لها علاقات متبادلة مع مملكة «إبلا السورية» المعاصرة،
وتذكر نصوص إبلا أنَّ «مدرسة الكتبة» في مملكة ماري، كانت تعلّم كتبة إبلا.
كما تشير النصوص إلى حملة عسكرية من قبل إبلا ضد مملكة ماري في عهد ملكها ابلول – إيل. ولماري علاقات مع ممالك إيمار (تل مسكنة) وكيش في بلاد بابل وأور في بلاد سومر وغيرها. وتشير النصوص إلى أن ماري دُمّرت من قبل الحاكم الآكادي نارام سين في أثناء حملته العسكرية إلى المناطق الواقعة إلى شمال الإمبراطورية الأكادية وغربها.
المرحلة الثالثة والأخيرة (تمثلها المدينة الثالثة Ville III):
وتعود إلى عصر الشاكَّّاناكّو Shakkanakku وإلى العصر العموري بين أعوام 2200- 1760ق.م، عندما وصلت إلى الحكم أسرة محلية أطلق عليها السومريون تسمية الشاكاناكو، وتعني الحاكم العسكري، وكانوا خاضعين لسلطة أور الثالثة الذين قاموا بتعيينهم وتصاهروا معهم، ومنهم (ابيل – كن) الذي أشارت نصوص مملكة ماري إلى أن ابنته قد تزوجت من ابن (أورنامو) ملك أور. وقد بُني معبد جديد هو «معبد الأُسود» حيث وُضعت على جانبي مدخله تماثيل الأُسود. وكذلك بُني قصر صغير آخر. ومن أهم مكتشفات هذه المرحلة بعض التماثيل، ومنها تمثال إيشتوب – إيلوم Ishtup-Ilum وبعض المشاهد الجدارية للقصر الملكي المشار إليه، وعثر من هذه الفترة على بضع مئات من الرقم الكتابية.
لكن بعد موته لم يستطع ابنه الحفاظ على ماري إذ تمكن زمري – ليم Zimri-Lim، وبمساعدة ملوك حلب (يمحاض) من استعادة عرش يحدون – ليم، وفي عهده بلغت ماري أوج ازدهارها.
يعد القصر الملكي الكبير، قصر زمري – ليم، الذي تم تحسينه ليصبح من أشهر قصور الشرق القديم، حتى إن ملك أُغاريت طلب توسط ملك يمحاض ليهيئ له زيارته والاطلاع عليه. ولا تأتي أهمية القصر من ضخامته وحسن تنظيمه وحسب، ولكن من الآثار التي وُجدت فيه أيضاً. مساحة القصر 2.5 هكتار، أبعاده 300*120م، وفيه أكثر من 300 غرفة وباحة، بُني من اللّبن والقرميد على أساسات حجرية. أحاط بالقصر سور دفاعي سماكته ثلاثة أمتار، وبلغت سماكة القسم الإداري خمسة عشر متراً، حيث سكن الملك وعائلته. وقد وصف عالم الآثار (جان كلود مارغرون) هذه الآبدة العظيمة أنها وبحق «درة العمارة الشرقية».
تعد الرسوم الجدارية (الفريسك) أهم ما اشتهر به قصر زمري- ليم، وهي رسوم نُفذت بعدة ألوان على خلفية من الملاط الكلسي، وتنتمي إلى مراحل مختلفة من عمر القصر، وأهمها المشهد الذي يصور تتويج زمري- ليم ملكاً. وقد عُثر في المدينة الثالثة لمملكة ماري على أفضل التماثيل ومن بينها تمثال «ربة الينبوع»،
وهو قطعة فريدة نُحتت بالحجم الطبيعي وتمثل امرأة (آلهة) ترتدي ثوباً مهدَّباً وتُشاهد على الثوب أسماك هابطة وصاعدة تسبح في مياه تفيض من إناء تمسكه الإلهة بكلتا يديها. وهناك التماثيل البرونزية، منها الأُسود التي وُجدت على أبواب معبد دجن Dagan، إضافة إلى الأختام الأسطوانية والأواني الفخارية وغير ذلك.
إن الكشف الأكثر أهمية في هذا القصر هو الأرشيف الملكي الذي كُشف بين أعوام 1935-1939 وضمَّ نحو العشرين ألف لوحة كتابية، فعُدَّ مكتبة تنافس أكبر مكتبات الشرق القديم. وساعد على تصحيح تاريخ الألف الثاني كله، وأضاف معلومات سياسية وعسكرية ودينية واقتصادية بالغة القيمة العلمية والتاريخية.
تمت دراسة هذا الأرشيف في البداية من قبل عالم الآشوريات الشهير جورج دوسان G.Dossin، ثم تناوب على دراسته باحثون مختلفون منهم موريس بيرو M.Birot وجان ماري دوران J.-M.Durand الذي استخدم هذا الأرشيف بطريقة مسيئة.
مما دفع المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى المطالبة بعودته من فرنسا، التي نُقل إليها منذ اكتشافه مملكة ماري، لوضع ضوابط دراسته على نحو علمي نزيه.
بقيت مملكة ماري في عصرها الثالث مملكة قوية ومستقلة إلى أن بدأت تسطع في المشرق قوة الحاكم البابلي الكبير حمورابي، الذي تشير النصوص إلى أنه وبعد أن تحالف مع ماري ضد الممالك الرافدية عاد وانقلب عليها وهاجمها بـ 20 ألف جندي واحتلها ثم دمرها وحرق قصرها بعد نهبه في عام 1759 ق.م. بعدها لم تستطع هذه المملكة النهوض من كبوتها ومتابعة حياتها بالوتيرة السابقة نفسها؛ لكن كُشفت فيها منشآت سكنية بسيطة لبعض الناجين من الدمار أو أناس أتوا بعد الكارثة، وانتقل قسم من أهلها إلى مملكة «عانة» المجاورة وعاصمتها ترقا (تل العشارة).
ثم سكنت المدينة حامية عسكرية آشورية، ويُعتقد بأن البابليين، الكلدانيين، قد خلفوا الآشوريين في ماري ثم أتى بعدهم السلوقيون، الذين بسقوطهم في منتصف القرن الثالث ق.م غابت الحياة عن ماري إلى أن جاءت حادثة حفر القبر لتكشف عنها.
تعليق كاتب المقال:
يقال: (لكل زمان دولة ورجال)
زمان مملكة ماري مضى بعد أن أضاف للهوية السورية صفحة مشرقة أيام قبل أنْ كانت أمم العالم تحاول أن تقوى على المنافسة في ساحات المعرفة البشرية.
أما أبنية ماري، ما زالت تتكشف عظمتها مع تقدم أعمال التنقيب فيها. لقد حافظت معرفة الإنسان السوري وابداعاته في هذه المملكة منذ 4000 عام على أنْ تُخلد منجزاته إلى الأبد لذلك سماها علماء الآثار ب(الأوابد).
أما رجال ذلك الزمان، خرجوا في عصرنا ليُستَنطَقوا من خلال تماثيلهم والرُقم الطينية ولوحات الفسيفساء، وتوزعوا على أهم المتاحف العالمية، وعدد من متاحف سوريا، كي يقصوا حكاية أسطورة ترويها هندسة القصور والمعابد وألوان الفسيفساء والكساء الأنيق الذي يُميِّزُ أهل مملكة ماري.
الصلوات والابتهالات الدينية في معابد ماري احتلت أهم صالات الأوبرا في عالم الموسيقى اليوم. لقد أدهشت ألحانهم وقصائدهم الدينية كل من يتذوق الموسيقى والأناشيد الصوفية.
أربعة ألف سنة حاضرة اليوم في وجدان السوريين ونطاسيي المعرفة في العالم.
حقاً أقول أنَّ مملكة ماري استطاعت الإضاءة على تاريخ سورية كلها في الألفين الثالث والثاني ق.م.