كثير من المؤيدين للأنظمة الديكتاتورية القمعية يتغنون بمناقب الرئيس الذي خطف الدولة والنظام والوطن، ليصبح هو الطبيب الأول والمهندس الأول والمعلم الأول والمحامي الأول والعامل الأول والفلاح الأول، ولولاه لما وُجد الكهرباء والماء والانترنت وكل متطلبات الحياة هو وراء وصولها إلى المواطن، ويذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك بأنه “هبة من الله” و “سقف الوطن وسماؤه”، فمتى انهار هذا السقف انهار الوطن كله، وتداعى لأن الشمس ستحرقه والمطر سيغرقه، لذلك سال على ألسنة البطانة شعار “يعيش القائد إلى الأبد” وشعارات أخرى “الأسد أو نحرق البلد” والأمثلة لا تحصى.
ولكن بعد دخول العالم في عصر الديجتال منذ العقدين الأخيرين، أصبحت لم تعد هذه الخطابات والشعارات مجديَّة، لأن الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان أطلت برأسها من جميع أطراف الدنيا، وبات من ينكرها يصبح مصنفاً ضمن عباءة البرابرة والهمج، مما اضطر الأنظمة المستبدة الطاغية بإلقاء تعليمات جديدة على أتباعهم وأبواقهم وعبيدهم، بأن يخففوا من تقديس القائد الأوحد ويغيروا اللفظ والمصطلح بتقديس الدولة أو الوطن الذي هو في حقيقة الأمر مختزل بشخص الزعيم النادر الفريد الفذ.
وفي نظرة خاطفة، نجد أنَّ الرئيس المصري “السيسي” يسيطر على جميع مقاليد الدولة ويعتقل كل من ينتقده ولو بكلمة، فولد من رحم هذا القمع شريحة إعلامية ودينية وتعليمية وطبية تسبّح بحمده، فلا يتورع أحد المشايخ بتشبيهه بالنبي موسى عليه السلام.
ولكن فيما بعد تأتي التعليمات بأن يجعلوا الثناء والإطراء للدولة والوطن الذي هو قائده، فينبري فريق من البطانة “المرتزقة” لتغيير أسلوبهم ورفع عقيرتهم يتغنَوْن بالوطن والدولة. وينسحب هذا الأمر على ما نشهده في دول الخليج العربي وروسيا وكوريا الشمالية. كلهم أنظمة ترمي عن قوس واحدة. مخادعون ومجرمون وسفاحون بامتياز لتحقيق مآربهم الشخصية والهيمنة الكليّة على مقدرات الدولة بعد خطف الدولة والنظام والوطن.
ما هو مفهوم الدولة – الوطن – النظام؟
الدّولة:
لفظة اصطلاحية تستعمل لوصف جمع كبير من الأفراد، يقطن بصفة دائمة إقليماً معيّناً، ويتمتع بالشخصية المعنوية وبنظام حكومي يكفل صيانة الاستقلال السياسي.
الوطن:
مكان إقامة الإنسان ومقرّه، وإليه ينتمي هؤلاء الأفراد إنْ وُلدوا به أو في الخارج. وعُرّفت الدولة أيضاً: بأنها مساحة من الأرض تمتلك سكان دائمون، إقليم محدد وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعّالة على أراضيها وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى. ويرى العديد من فقهاء القانون الدستوري أنَّ الدولة هي كيان إقليمي يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه.
-
يعرّف المفكر الألماني ماكس ويبر الدولة بأنها منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين الأراضي.
-
وعرّفت موسوعة "لاروس" الفرنسية الدولة بأنها مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة.
-
ويرى "سبينوزا" أنَّ غاية الدولة تتمثل في ضمان الحماية للأفراد، وليس في ممارسة السلطة، بل إنَّ على الدولة أن تضمن الشروط الموضوعية التي تمكنهم من استخدام عقولهم والعمل على تنميتها. ويؤكد أن الحرية هي الغاية الأساسية من وجود الدولة.
-
أما الدكتور علي هادي الشكراوي، يرى أنِّ النظام السياسي هو ترتيب الأمور على نحو معين، لتحقيق هدف محدد.
النظام:
تتركز افتراضات النظام في النظرية العامة للنظم بما يلي:
إن النظام هو مجموعة من الأجزاء المترابطة.
إن أجزاء النظام تتفاعل فيما بينها.
إن كل جزء من أجزاء النظام يمكن أن يتصف بدرجة معينة من الاستقلال عن الأخرى المرتبطة به.
ديفيد إيستون يُعرِّف النظام السياسي بأنه مجموعة من التفاعلات والأدوار التي تتعلق بالتوزيع السلطوي للقيم.
روبرت دال: أنَّ النظام السياسي هو نمط مستمر للعلاقات الإنسانية يتضمن إلى حد كبير القوة والحكم والسلطة.
هارولد لاسويل: عرَّف النظام السياسي بأنه النفوذ وأصحاب النفوذ على أساس مفهوم القوة مفسرة بالجزاء المتوقع.
ماكس فيبر: النظام الحاكم يكون شرعياً عند الحد الذي يشعر مواطنوه أن ذلك النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة.
كمال المنوفي: النظام السياسي هو مجموعة تفاعلات وشيكة معقدة من العلاقات الإنسانية، تتضمن عناصر القوة أو السلطة أو الحكم.
إنَّ ما ورد من آنفاً من التعريفات والإضاءات، ما هي إلا تنظير يُمَكِنُنا أن نتحول إلى مرحلة تطبيقية على أرض الواقع. فلو أسقطنا تلك التعريفات على واحد من أولئك القادة الطغاة الأكثر إجراماً وسفكاً وقتلاً ومروقاً، وهو بشار الأسد لوجدنا أنَّ مفهوم الدولة والوطن بريء منه براءة الذئب من دم يوسف.
لقد كان نتاج الأسد كرئيس نظام استبدادي يخلو من تطبيق أي من تعريفات الدولة والوطن التي سبق الإشارة إليها.
فهل تتمتع الدولة السورية بالاستقلال السياسي؟
هناك ثمة احتلال روسي، إيراني، أمريكي لا يخطئه البصر ولا البصيرة يهيمن على جغرافية الوطن ومفاصل المؤسسات بأسرها.
وهل توافر للوطن المحافظ على الاستقلال الشرعي للقوة؟
إن القوة والأسلحة الموجودة لدى الحكومة مرهونة بيد الرئيس المستبد، في حين أنَّ المتحكم الحقيقي في استخدامها وتوجيهها إلى الأهداف الداخلية والخارجية هما شريكاه المحتلان الروسي والإيراني. فإذا أغارت الطائرات الإسرائيلية مثلاً على الأراضي السورية فيتم الاتصال مباشرة بالجنرالات الروسية هل نرد أم لا؟ بل يكون صاحب القرار في الرد هي القيادة العسكرية الروسية في حميميم.
وهل تمتلك الدولة السيادة داخل الحدود وخارجها؟
نعلم أن الدولة الآن مقطعة الأوصال ففي الشمال هيمنة أمريكية وتركية وفي الجنوب هيمنة إيرانية وفي الوسط والجنوب الهيمنة الروسية.
وهل الدولة لها علاقات وقنوات مع الدول الأخرى؟
إذا كان ما يُسمى برئيس الدولة السورية بشار لم يلتقِ منذ اثني عشر عاماً سوى ببضعة رؤساء ومسؤولين على شاكلته، فأين هذه العلاقات التي تجعلها تتفاعل مع المجتمع الدولي؟!
وهل الدولة تسهر على حماية الأفراد ولا يعنيها ممارسة السلطة؟
أجل تسعى على حماية الأفراد وسعادتهم ورفاهيتهم، فقد قتلت منهم قرابة المليون واعتقلت ما يزيد على تسعمئة ألف وهجّرت أكثر من سبعة ملايين مواطناً، والحبل ما زال على الجرار. إذاً لا تعنيها السلطة وممارستها إطلاقاً وإنما همها الوحيد حماية الأفراد والشعب، والواقع الذي عاشته سورية خلال العقد الأخير ومازالت تحته خير دليل على ذلك.
وهل الدولة تصرف طاقاتها وجهودها لمنح وتحقيق الحرية لمواطنيها؟
بلى! تفعل ذلك فما إن انتفض الشعب السوري بهتافات وشعارات تطالب بالحرية والعدالة حتى واجهته الدولة بأعتى أسلحتها وحاولت إسكات وخنق صوت الحرية الذي لا يمكن لأي مدفع أو صاروخ إسكاته وإنما سيُطلق سراحه رغماً عن أنف من أراد اعتقاله مهما طال الزمن.
خلاصة القول
كثيرة هي تساؤلات المفكرين السياسيين التي تقول:
متى يصبح مفهوم الدولة والوطن يعبرُّ عن مفهوم واحد؟ ومتى يعبرُّ عن شيئين مختلفين؟
فتكون اجابتهم:
إذا كانت الدولة في خدمة مواطنيها، وإذا كان النظام السياسي مختاراً من قبل الشعب، فإن هذه الدولة تمثل الوطن تماماً، وبمنتهى الوضوح نستطيع أن نطلق عليها دولة الوطن.
أما إذا كانت الدولة تضرب وتقتل وتعتقل مواطنيها، وتسرق وتنهب ثروات الوطن، وترسلها إلى الخارج، فهي دولة بوليسية وقحة، بل تتحول من مفهوم الدولة إلى مفهوم النظام السياسي البوليسي والمعادي للوطن والمواطنين أي أن الوطن أصبح مرهوناً لهذا النظام العفن.
وهكذا يصبح الوطن تابعاً لشرفاء الوطن، وليس ملكيَّة للحاكم المُستبد.