كانت سورية الطبيعية قبل تقسيمها حسب اتفاقية “سايكس – بيكو” تسمى (بلاد الشام) تحت حكم الدولة العثمانية قرابة أربعة قرون إلى أن تمَّ انسحاب العثمانيين منها في أعقاب الثورة العربية الكبرى والحرب العالمية الأولى في أكتوبر 1918.
وخلال الحكم العثماني، في العام 1898 قام الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني (غليوم الثاني) قيصر الرايخ الثاني الألماني وملك بروسيا ومعه زوجته بتلبية دعوة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني لزيارة الأراضي العثمانية، وعلى نفقته الخاصة.
بدأت الجولة بإسطنبول ثم ولاية الشام وسنجق القدس ومتصرفية لبنان، حيث زار الإمبراطور مواقع تاريخية ودينية، وألقى خطابات مهمة.
عند وصول الإمبراطور وزوجته ومرافقيه مشارف مدينة دمشق، استقبله فرسان المدينة على خيولهم مرحبين به، مع تقديم بعض الأهازيج ورقصات الرجال الدمشقيين .
مصدر الصورة: أرشيف سورية العثمانية في إسطنبول
وقد شمل برنامج الزيارة الجامع الأموي وضـريح السلـطان صلاح الدين وقصر العظم ومنازل شاميَّة تقليدية.
حيا الإمبراطور الجمهور المحتفي به في ساحة المرجة، وسوق الحميدية وساحة المسكية، ومنها للجامع الأموي الذي أثار إعجابه، ثم أطال الوقوف عند زيارة ضريح صلاح الدين، حيث وصف الإمبراطور الألماني السلطان الراحل بأنه أعظم بطل بين جميع الحكام السابقين، مؤكدا على سعادته بأن يكون في مدينة “الرجل النبيل الذي ارتفعت رتبته بتعليم أعدائه كيف يجب أن يكون الأبطال”.
وسام الحمارة الشاميّة البيضاء
خلال تجوال الضيوف في أحياء دمشق، لمحت الامبراطورة حمارة بيضاء رشيقة، كان قد ربطها صاحبها على رصيف الشارع، وانصرف للتسوق. وطلبت الإمبراطورة من زوجها أن يشتري هذه الحمارة لتأخذها معها إلى ألمانيا. فنقل الزوج رغبتها إلى والي دمشق. رحبَّ عاصم باشا والي دمشق بذلك، وأصدر أوامره للبحث عن صاحب الحمارة لشراء تلك الحمارة.
كان صاحبُ الحمارة تاجراً دمشقياً اسمه “أبو الخير تللو“. ولما أمره الوالي ان يهدي حمارته إلى الإمبراطورة لشدة إعجابها بها.
رفض صاحب الحمارة ذلك العرض وقال للوالي مازحاً، إنَّ هذه الحمارة هي شاميَّة ومن أهل بيته، وأضاف ليخلق جواً مرحاً مع الوالي:
“أنا أفاخر دائما بأنَّ لي حبيبين، الحمارة وحفيدي الصغير “حسني” ولا يمكن أن أفرط بهما.
أصرَّ الوالي على ضرورة تلبية الإمبراطور وزوجته، وأن يطلب ثمن الحمارة أي مبلغ مهما كان، كي يخرج الإمبراطور وزوجته من البلاد ممنونين. اعتذر أبو الخير رغم جميع الإغراءات وبقي مصراً على رأيه بالرفض.
ولما شدّد الوالي إلحاحه كي يُرضي الامبراطور ضيف دمشق، قال له أبو الخير:
“يا افندينا. عندي ستة رؤوس من الخيل تُنسب إلى سلالة الجياد العربية الأصيلة، فإن شئت قدمتها كلها إلى الامبراطور هدية مني إليه، وأما الحمارة فلا يمكن ان أتخلى عنها.
فاستغرب الوالي هذا الجواب وسأله، لماذا كل هذا التمسك بها؟ أجابه بجرأة وصوتٍ جَهوريّ دون خوف:
يا سيدي، إذا أخذوا الحمارة إلى بلادهم، ستكتب صحف الدنيا كلها عنها، وتصبح هذه الحمارة موضع تندر وفكاهة، ويصير الألمان يتحدثون عنها، ويقولون أنَّ إمبراطور ألمانيا لم يعجبه في دمشق إلا هذه الحمارة… وأضاف لتلطيف الجو، وسينسبها إلى عائلة تللو. لذلك فإني لنْ أفرِّط بها ولن أبيعها له، حفاظاً على سمعة دمشق مهما كانت النتائج.
اضطر الوالي نقل هذا الخبر إلى الإمبراطور، فضحك كثيرا وأعجب بالجواب الذي استنبط منه مدى حرص هذا السوري على سمعة بلاده. وكانت النتيجة أنْ أصدر الإمبراطور أمراً إمبراطورياً بمنح صاحب الحمارة (أبو الخير)، وساما رفيعا لوعيه الوطني الرفيع.
لقد تناول أبو الخير هذا الوسام، وسماه “وسام الحمار“.
وقد اشتهرت هذه الحكاية وانتشرت في الجرائد السورية والعربية وتم توثيقها في مذكرات أشهر السياسيين الذين قادوا الثورة السورية ضد المستعمر الفرنسي من الذي كان قد أطبق على سورية عقب انكسار السلطنة العثمانية.
لقد تمَّ استيقاء تفاصيل هذه الواقعة من مجلة المضحك المبكي العدد 1012 الصادر يوم الأحد 9 كانون الأول 1962، حيث استندت المجلة على روايتها من قبل حفيد صاحب الحمارة (حسني تللو) الذي عاصر هذه الحادثة في طفولته.
ملحوظة:
صدرت مجلة المضحك المبكي في دمشق عام 1929، وهي مجلة سياسية كاريكاتورية أسبوعية من أشهر المطبوعات السياسية الساخرة في الوطن العربي، ويمكن اعتبارها هي من أسس الكوميديا السياسيّة على الساحة السورية ( وربما العربية). أصدرها الصحفي حبيب كحالة ( 1898 – 1965). وبعد أنْ درس التجارة والاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت. أنشئ كحالة في بداية الثلاثينات من القرن الماضي مطبعة حديثة بدمشق لطباعة المجلة، وكانت تقع في شارع الملك فؤاد الأول، استمرت هذه المجلة في الصدور إلى عام 1965، وقام “نظام حزب البعث الحاكم حتى اليوم” بإغلاق المجلة وإلغاء ترخيصها عام 1963. كما ألغيت عشرات الأحزاب الوطنية( السياسية والإجتماعية)، وكذلك الصحف والمجلات السورية، ولم تُبق منها سوى المطبوعات الناطقة بخطاب الحزب ومؤسساته لتضييق الحريات المجتمعية.