في مشهد الأزمة السورية، نجد أنّ أنها أكثر تعقيداً من مثيلاتها في العالم، لأن أسبابها مكوَّنة من أزمات أساسية تتعلق بعقلية النظام الشمولي الحاكم وما أفرزته من سحق لحرية أفراد المجتمع، واقصاء الخبرات التكنوقراطية عن مراكز اتخاذ القرار، تمهيداً لاستنزاف الثروات البشرية والطبيعية لصالح رأس النظام. وكي نصل إلى فهم أعمق للأزمة السورية، أجرينا حواراً مع أحد روّاد علم الإقتصاد والسياسة السوريين، الذي يمكن تكنيته ب(الكائن الاقتصادي – Homo Economicus)، معتمدين على المصطلح الذي أطلقه عالم الاقتصاد جون ستيوارت ميلز (John Stuart Mills) في عام 1836.
نبذة عن “الكائن الاقتصادي د. أسامة قاضي”
-
- هو مستشار اقتصادي وأكاديمي مستقل ذو رؤيه اقتصادية ليبرالية. صاحب فكرة تشكيل التحالف الاقتصادي الدولي “أصدقاء الشعب السوري المعنيُّ بإعمار سورية” حيث ترأّس كل الوفود الرسمية الاقتصادية في المؤتمرات الاقتصادية الخاصة بالثورة السورية في برلين وأبوظبي ودبي وكوريا الجنوبية.
- حاصل على الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد ، وماجستير إدارة الأعمال من الولايات المتحدة الأمريكية. قام بتدريس الاقتصاد والإدارة في الجامعات الأمريكية والإماراتية. عضو جمعية الاقتصاديين الأمريكيين.
- حائز على جائزة دار سعاد الصباح للإبداع العلمي عام 1994.رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية التي أنجزت سلسلة من “الخارطة الاقتصادية لسورية الجديدة”. أشرف على اعداد 34 تقريرًا اقتصاديًّا يخص الاقتصاد السوري، وكذلك أنجز دراسة “الدستور الاقتصادي السوري: مقترحات دستورية”.
- له الكثير من الكتب والمقالات واللقاءات في وسائل الإعلام العربية والعالمية، وله برنامج “وقفة اقتصادية” على قناته اليوتوب يتناول في شؤون الاقتصاد السياسي العربي والعالمي.
- أصدر كتابًا بعنوان “الجذر الاقتصادي للثورة السورية:الواقع الاقتصادي في سورية قبل ثورة 2011”، تحدث فيه عن الأسباب الاقتصادية لاندلاع الثورة السورية، التي تعدّ المحرك الأساسي للهبّات الشعبية التي تضيق ذرعًا بالظلم وأهله، حيث أشار إلى إصرار النظام الاقتصادي السوري على تطبيقه المشوّه لليبرالية الاقتصادية، وكيف تجاهل نظام الأسد التقارير الاقتصادية التي قُدّمت له، خاصة تقرير عن البطالة في سورية قدّمه الدكتور قاضي عام 2005.
- وأصدر الدكتور قاضي كتابًا تحت عنوان “البؤس الاقتصادي السوري: واقع الاقتصاد السوري 2011-2022″، بحث فيه ضياع عَقْدٍ من التنمية في سورية، وآخر مؤلفاته : كتاب “سيناريوهات إعادة الإعمار في سورية: ألمانيا الغربية، فيتنام..أم الشيشان”.
بدايةً دكتور أسامة أشكر لك هذا اللقاء كي نسلط الضوء على بعض النقاط التي يتوق الكثيرون متابعتها بسبب تهالك الوضع الاقتصادي بشكل لم يحدث في العهود التي سبقت، وأستهل لقاءك بسؤال تمهيدي:
ما هو توصيف النظام الاقتصادي في سورية حالياً؟
في ظل الوضع الكارثي السوري لم يعد هناك معنى للحديث عن الاقتصاد كمفهوم مركزي وطني، وتعافيه سيكون صعبًا جدًّا –وإن لم يكن مستحيلًا- بعد انتهاء الأزمة بدون حل سياسي عادل ودولة قانون وعدل وحرية.
إن النموذج السوري بات فريدًا في سمته الاقتصادية والإدارية المفككة واللامركزية وبعنى آخر (سورية أضاعت الاقتصاد كمفهوم مركزي وطني)، إذ انتقل من واقع “الاقتصاد السوري” إلى واقع “اقتصاد النواحي السورية”، وهو أخطر النماذج؛،ما سيجعل مهمة أية حكومة انتقالية قادمة، في ظل أيِّ حلٍّ سياسي أو غير سياسي، غايةً في الصعوبة، فقد بات معظم النواحي والمناطق السورية بمثابة جزرٍ منفصلةٍ غير مرتبطة عضويًّا بأية إدارة وطنية مركزية.
اقتصاديًّا، مشكلة سورية الرئيسية اليوم هي وجود شلل جزئي أو كلي أصاب بشكل متفاوت كل القطاعات الاقتصادية على المستوى الوطني، فقد خرجت السلة الغذائية من يد الحكومة المركزية، وكذلك خرج تقريبًا كل ثروتها النفطية والغازية، وأضاعت سورية أكثر من نصف قوتها العاملة المهنية والمؤهلة، وفي بعض الاختصاصات الطبية والهندسية والنادرة -تقديريًّا- لم يبق إلا أقل من عشرين بالمئة منها، وهذه الخسارة البشرية لا تُقدَّر بثمن. وكذلك خرجت عن السيطرة تقريبًا كل معابرها التي تدرُّ دخلًا لا يستهان به، وتضبط به مستورداتها وصادراتها، والاقتصاد السوري دخل في حالة تفكيكية فوضوية عبثية، انتهى الأمر به للعودة إلى اقتصاد النواحي والمناطق، وحتى إلى مرحلة الاقتصاد العائلي البدائي بهدف أن يبقى الناس على قيد الحياة.
ألا يمكن توصيفه “اقتصاد حرب”؟
في الحقيقة، إنَّ سورية تعيش أسوأ من اقتصاد الحرب، لأنَّ إدارة الاقتصاد في زمن الحرب تبقى تحت سلطة مركزية، وعلى فرض وجود إدارات مستقلة، إلا أنها تكون بعلم السلطة المركزية، وتخضع لقوانين اقتصادية يلتزم بها الشعب، وتكون هناك سلسلة قوانين تقشُّف وقوانين “شد الحزام”، ولكن في الواقع السوري تم تحييد السلطة المركزية لأن القوى المسلحة الشعبية تعاني من اصطفافات متناحرة لا تستطيع معها السلطة الحفاظ على الأمن والاستقرار، بل إن السلطة الحاكمة في سورية تحارب قطاعات عريضة من الشعب، وتعدها خصمها اللدود الذي يستحق القصف بالأسلحة الكيماوية والعنقودية والفوسفورية وغيرها، وتَسلِّط فئة من الجيش على الجمهور ليدمروا البيوت فوق رؤوس أهلها.
وكي أكون واقعياً، أميل لتسمية هذا النوع من الاقتصاد “اقتصاديات نيرون” وهو المثال الوحيد الذي حدث عام 64 قبل الميلاد، أي منذ أكثر من 2000 سنة، عندما جلس المختل عقليًّا، نيرون، يتفرج على حريق سبعة أحياء في روما كي يعيد بناءها بطريقة جديدة، ومن ثم اتهم المسيحيين بارتكاب الجريمة، على عكس دعاية النظام السوري الذي يفخر بإنجازات “حماة الديار” بقصفهم للمباني فوق رؤوس أهلها وللأفران والمشافي وأكثر من 1400 مسجد. يحتاج الوضع إلى ما لا يقل عن خمس سنوات بعد أي حل سياسي، وبعد كبح الآلة القمعية المسلَّطة على رؤوس السوريين، من أجل استعادة دوران عجلة النمو الاقتصادي.
سبق أنْ طرحتم في أوائل 2012 في “مجموعة عمل اقتصاد سورية” مشروع اقتصادي لإنقاذ سورية، فهل ينفع ذلك المشروع اليوم؟
قمنا في مجموعة عمل اقتصاد سورية في شرح تفصيلي لإمكانية النهوض بكل القطاعات الاقتصادية عبر ثلاثة خطط إسعافية لمدة عام واحد ومتوسطة لمدة سنتين وطويلة الأمد لمدة خمسة سنوات، ولكن تلك الدراسة اليوم بحاجة للتجديد والتأكد من أن الحل السياسي هو فعلاً وحدة الأراضي السورية دون تواجد أجنبي.
وهل تم تتنفيذ مشروع 2012؟
كلا، لأنَّ تطورات الأحداث كانت تزداد عنفاً وتخريباً، مما دعانا مابين عامي 2013-2015 كنّا قد طرحنا في مجموعة عمل اقتصاد سورية الخارطة الاقتصادية لسورية الجديدة ،وكتبنا مع مجموعة باحثين وتكنوقراط سوريين 14 أربعة عشر تقريراً اقتصادياً معمّقاً في قطاعات اقتصادية عديدة في النفط والغاز والمياه والكهرباء والقطاع العام والقطاع الصناعي الخاص والإنشاء والإسكان والإحصاء والتشريعات والمالية والزراعة وغيرها لتجيب عن سؤال ماذا علينا أن نقوم به في الستة أشهر الأولى من سقوط النظام كحل إسعافي، وخطة في السنة الأولى وخطة لخمسة سنوات.
إذنْ، لا بدَّ من مشاريع أخرى رديفة لإصلاح العطب المتصاعد؟
نعم، وهذا دعاني مؤخراً لإعداد دراسة حول الدستور الاقتصادي السوري و الإطار المرجعي للحقوق الاقتصادية في الدستور السوري المستقبلي وخاصة الإعلان العالمي الخاص باستئصال الجوع وسوء التغذية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإعلان الحق في التنمية، وقد اقترحت حوالي سبعين مادة دستورية للدستور السوري القادم تؤسس لطبيعة ملامح النموذج الاقتصادي السوري في سورية المستقبل من أجل استثمار الطاقة الكامنة الاقتصادية وتمكين الطبقة الوسطى، ورفع المستوى المعاشي للسوريين ضمن إطار من الحكم الرشيد والشفافية والمسؤولية.
رشحَ أنَّكم وراء فكرة “أصدقاء الشعب السوري المَعنيّ بإعمار وتنمية سورية”، هل يمكن الإضاءة على حيثيات الفكرة وثمارها؟
في واقع الأمر،عندما كنت في عام 2012 في برلين-ألمانيا مدعواً كخبير اقتصادي في ورشة عمل مع مشروع “اليوم التالي” وبينما كنت هناك تواصَلتْ معي الخارجية الألمانية وطُلبَ إليَّ تأجيل عودتي لمقابلة السكرتير الثاني في الخارجية الألمانية. لقد ناقشتُ معه ضرورة أن يكون لدينا خارطة اقتصادية لسورية الجديدة، وطالبته أن يكون لدينا بُعد عربي في المؤتمر، لأنه لا يجوز أن تكون مبادرة غربية فقط دون بعدنا الإقليمي، وقد رشحت دولة الإمارات كونها في ذلك الحين 2012 كانت نموذجاً تنموياً اقتصادياً مميزاً في الوطن العربي، وسوف تعطي أمل للسوريين أن يحذو حذو دبيّ وغيرها من المدن الإماراتية.
هل أنجزتم الخارطة الاقتصادية لسورية الجديدة بعد هذا اللقاء؟
نعم، نتج بعد ذلك اللقاء الممتاز اجتماع مغلق مع ممثلي أكثر من عشرة دول منها أمريكا والإمارات وبريطانيا وألمانيا وغيرها وتم تحديد أول مؤتمر في أبو ظبي في الشهر الخامس 2012، وطلبت دعوة ممثل عن المجلس الوطني السوري الصديق الغالي الأستاذ سمير نشار ليلقي كلمة سورية في المؤتمر،وألقيت أنا الكلمة الاقتصادية وتلوت ما أسميته في حينها “الخطاب الاقتصادي للثورة السورية”، وحضر مؤتمر أبوظبي ممثلين عن أكثر من 40 دولة، وبعدها قمنا بالإعداد للمؤتمر الثاني في دبيّ في شهر نوفمبر 2012 “الاستثمار في سورية المستقبل”.
وطلبت دعوة ممثل عن المجلس الوطني السوري الصديق الغالي الأستاذ جورج صبرا ليلقي كلمة سورية في المؤتمر، وحضره مايزيد عن 200 رجل أعمال معظمهم سوريين بحضور دولي وتعهد في المؤتمر السوريون باستثمار أكثر من 5 مليارات دولار في سورية فور سقوط النظام، وعرضت الإمارات حينها عبر خطاب مؤثر جدا لوزير اقتصادها ،وضع إمكانياتها وخبراتها الاقتصادية في خدمة النهوض الاقتصادي السوري المستقبلي بما فيها رفع سعة إنتاج الطاقة الكهربائية والموانئ الجافة وغيرها من القطاعات. وبعد ذلك جاء أعقب هذا مؤتمر في ألمانيا الغربية وآخر في كوريا الجنوبية.
وماذا بعد الخارطة الاقتصادية لسورية؟
قمنا بعد ذلك بنشاطات فعّالة مع مجموعة خبراء، حيث كنت أنخرط فيها باستمرار، مثلاً حررنا 17 سبعة عشر تقريراً بعنوان “المشهد الاقتصادي السوري”، ودرسنا الحياة المعاشيَّة والموارد الاقتصادية المحلية لمدن صغيرة داخل سورية، ثم حررنا رؤيتنا بخمسة تقارير اقتصادية معمقة في “القطاع الزراعي” كي نضع رؤية أوضح لمستقبل سورية الزراعي من مثل سؤال هل القطن حقاً محصول استراتيجي؟ وماذا عن الغابات والبيئة في سورية؟ وكذلك مستقبل البذور المحسنة والزراعات البديلة وغيرها من المواضيع التي تضع سورية على السكة الاقتصادية الحقيقية.
طبعاً مايصلح عام 2012 لا يصلح لعام 2015، وكذك لايلبي بالضرورة مستجدات عام 2021 وما بعده أيضاً، ولذلك هذه الدراسات تحتاج تحديث بشكل دائم ودراسات مستمرة وحديثة في لحظة تاريخية معينة وأهمها تاريخ عقد الصفقة الروسية الأمريكية لحل الكارثة السورية.
وهل أثمرت تلك المشاريع وهذه المؤتمرات؟
بسبب تغير المزاج العالمي، لم تحقق الاجتماعات إلا ثمرة بسيطة واحدة، متمثلة في الصندوق الائتماني السوري الذي تتبرع له الكثير من الدول من أجل مشاريع البنية التحتية في مناطق خارج سيطرة النظام، ولكن أثرها كان بسيطاً، لأنها معدّة لمرحلة ما بعد انتهاء الكارثة السورية، فضلاً عن الإشكاليات البيروقراطية في دعم المشاريع، فباتت مهمة التجمع ليس نهضة اقتصادية سورية بل مجرد مؤسسة إغاثية.
وللأسف انتهى الدور الدوليّ للدفع باتجاه الحل السياسي الذي حوَّل المسألة السورية إلى قضية إغاثية فقط.
الختام:
الحديث معك، يا سيدي، ذو شجون، ولأنَّ الوقت المحدد بيننا قد انقضى، سأختم هذا اللقاء بتوجيه الشكر على منح “مآلات” هذا الجزء من المعلومات الهامة، وإلى أنْ يتم اللقاء الثاني بعد أسبوع، أتمنى لك السلامة والمزيد من النجاح.