مقدمة
تعاقب على حكم سوريا منذ استقلالها عن فرنسا عام 1946 مايزيد على عشرين رئيساً، وقد اختلف أولئك الرؤساء في صفاتهم ومميزاتهم وإمكاناتهم وطريقة وصولهم إلى سدة الحكم، فمنهم من سلك الطرق القانونية، حتى وصل إلى منصب الرئاسة بمباركة مجلس الشعب وأفراد المجتمع، ولسان حاله يقول إن منصبي تكليف وليس تشريف، وإنّ عليّ أن أصل ليلي بنهاري كي أحقق العدالة بين الناس، وأسير بهم إلى بر الأمان، وأحدب على صغيرهم، وأوقر كبيرهم، وأكون خادماً لهم، لأنني رضيت بحمل هذه الأمانة التي تعجز عن حملها الجبال، والصنف الثاني الذي وصل إلى سدة الحكم ، غايته الأساسية إشباع شهواته ونزواته ونرجسيته، لذلك قرر، أن يغتصب تلك الأمانة ولو على دماء الناس وأشلائهم، فاستخدم شتى أنواع الحيل والمكر والخداع، كي يصل إلى طموحاته غير المشروعة.
وقد أصبح كل أولئك في ذمة التاريخ، بعجرهم وبجرهم، ولكن شتان مابين من يُضرب به المثل في العلو والسمو والوطنية والصدق والأمانة والتضحية، ومن ثمّ يُترحم عليه ويُتغنى بسيرته، وبين من يُضرب به المثل في الظلم والطغيان والاستبداد والقتل والسفح.
مسيرة حسني الزعيم
هو حسني ابن الشيخ رضا بن محمد بن يوسف الزعيم، من القواد العسكريين، وُلد حسني الزعيم في حلب سنة 1315هـ/ 1897م، من أصول كرديّة، وكان والِدُه مفتياً في الجيش العثماني. حكم الزعيم سوريا حكمًا مُطلقًا مدة 136 يومًا كما تمَّ تعليمه أثناء دراسته العسكرية في المدرسة الحربية بالأستانة ذات الصيت الشديد الصرامة والإنضباط، وأصبح ضابطًا في الجيش العثماني، واعتقله الحلفاءُ أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم التحقَ بجيش الثورة العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، وكان له نصيباً أنذاك أنْ يحارب العثمانيين في دمشق.
في زمن الانتداب
انضم إلى جيش المشرق الذي أوجدته فرنسا بعد احتلال دمشق وفرض الانتداب الفرنسي على سورية سنة 1920 وصل الزعيم إلى رتبة مُقدم، وكُلف بتشكيل قوات شعبية مسلّحة لمقاومة فرنسا الحرة عند اقتراب جنودها من مدينة دمشق لتحريرها من حكم فيشى سنة 1941، و أعطاه المندوب السامي الفرنسي هنري دانتز مبلغاً من المال للقيام بهذه المهمة، ولكنّ الزعيم فرّ من أرض المعركة عند انهيار صفوف فيشي، آخذاً معه الأموال المخصصة للمقاومة.
أصدرت قوات فرنسا الحرة أمراً باعتقاله، وعثر عليه مخْتَبِئاً في حيّ الأكراد بدمشق. طُرِد من جيش الشرق وحُكم عليه باعتقال مدته عشرون سنة، قضى منها خمس سنوات فقط مُتنقلاً بين سجن الرملة ببيروت وسجن القلعة بدمشق، وعند إطلاق سراحه في الأسابيع الأخيرة من الانتداب الفرنسي، وُضِع قيد الإقامة الجبرية في منطقة الأشرفية في بيروت لغاية جلاء القوات الفرنسية عن سورية. وبعد حين تقدم الزعيم بطلب الانضمام إلى الجيش السوري الذي أُنشِئ في 1 آب 1945، ولكن وزير الدفاع أحمد الشرباتي رفضه بسبب ما ورد في تاريخ ماضي الزعيم من تهم اختلاس وفرار.
العودة إلى الخدمة العسكرية
أصرّ الزعيم على أنه مظلوم وأن تُهمة الفساد قد لفّقت له بسبب مواقفه الوطنية. ويبدو أنّ هذا الكلام أقنع الدكتور محسن البرازي، أمين عام القصر الجمهوري، الذي تدخل لأجله مع الرئيس شكري القوتلي وأقنعه بضرورة الاستفادة من خبرة حسني الزعيم العسكرية. وهكذا عاد الزعيم إلى الخدمة بفضل محسن البرازي، مع الاحتفاظ بقدم رتبته العسكرية، وعُيّن قائداً للّواء الثالث في مدينة دير الزور، وعندما بدأت المظاهرات المطالبة بتسليح الأهالي ودعوتهم للجهاد في فلسطين، قرر القوتلي تعيينه قائداً للشرطة العسكرية، وبعد استقالة وزير الدفاع أحمد الشرباتي في الأسبوع الأول من الحرب، صدر مرسوم جمهوري بتعيين حسني الزعيم قائداً للجيش ورئيساً للأركان العامة في 25 أيار 1948.
أَظهر الزعيم ولاءً مُطلقاً للرئيس القوتلي، وقد دخل ذات يوم على سهيل العشي، المرافق العسكري لرئيس الجمهورية وقال له:
“يوجد شخص واحد فقط في هذا البلد يجب تقبيل قدميه قبل يديه ورأسه، وهو هذا الرجل العظيم – مُشيراً بيده إلى مكتب شكري القوتلي”.
الخلاف مع خالد العظم
قاد حسني الزعيم قوات الجيش السوري في أشدّ معارك حرب فلسطين فتكاً، وحقق انتصارات عسكرية كبيرة قبل أن تُفرض الهدنة الأولى من قبل الأمم المتحدة في 11 حزيران 1948، ولكن علاقة حسني الزعيم لم تكن جيدة مع الزعماء السياسيين، وتحديداً خالد العظم، الذي عُيّن رئيساً للحكومة ووزيراً للدفاع في كانون الأول 1948. كان العظم ينظر إلى الزعيم نظرة شك وريبة، وقد حذّر شكري القوتلي منه وقال إنه خطر على سورية، مضيفاً: قبل أن يتعشى بنا يجب أن نتغدى به.
وصلت هذه الكلمات إلى مسمع حسني الزعيم، مع الانتقادات المتكررة والعلنية التي وجهت إليه من قبل النائب فيصل العسلي، الذي وصفه من تحت قبة المجلس النيابي بالمقامر والمغامر والفاسد، وطالب بتسريحه من الجيش وإحالته إلى القضاء العسكري، وقد انزعج الزعيم من عدم تصدي العظم لهذه الاتهامات، بصفته وزيراً للدفاع ومسؤولاً عن كرامة العسكر. كثر الكلام يومها عن علاقة حسني الزعيم بالعقيد أنطون البستاني، مدير تموين الجيش، الذي أدين بإطعام الجنود سمناً فاسداً، أمر الرئيس القوتلي باعتقاله ولكن الزعيم رفض القيام بذلك واكتفى بوضعه قيد الإقامة الجبرية في مبنى وزارة الدفاع، دون تسريح أو معاقبة.
نظّم حسني الزعيم معرُوضاً ضد النائب العسلي، مطالباً باعتقاله ومحاسبة المسؤولين عن عدم تسليح الجيش قبل إرساله إلى فلسطين، لكن هذا المعروض وضِع في مدينة القنيطرة من قبل مجموعة من الضباط، ورُفع بعدها إلى مكتب رئيس الجمهورية، ولكنّ القوتلي رفض استلامه وقال إنه يجب أن يأتيه حسب التسلسل المتبع رسمياً، أي عبر وزير الدفاع حصراً وليس عن طريق قائد الجيش مباشرة، وقد عاتب الزعيم قائلاً: “أهكذا أصبح الجيش؟ هل أصبح الضباط مثل المخاتير يحررون المحاضر؟”
جاء في معروض الضباط:
“إن الجيش يا صاحب الفخامة في توتر وهياج من جراء ما حدث وسيزداد هياجاً وتوتراً كلما طال التأخير في تحقيق المطالب المذكورة.”
وعندما توجه الزعيم إلى منزل خالد العظم لتقديم المعروض، جعله الأخير ينتظر طويلاً، مما أغضب الزعيم كثيراً وضاعف من نقمته على المدنيين وعلى عهد القوتلي برمته.
الزعيم والولايات المتحدة
تواصل حسني الزعيم مع الميجور “ستيفان ميد”، مساعد الملحق العسكري في السفارة الأمريكية بدمشق، وعقدت بينهما ستة لقاءات سريّة في الفترة ما بين تشرين الثاني 1947 – آذار 1948. لم يُخفِ عنه الزعيم رغبته في القيام بانقلاب عسكري للإطاحة بالقوتلي وفرض نظام عسكري موالِ للولايات المتحدة الأميركية، وكان الزعيم قد لمس سابقاً توتراً في علاقة القوتلي بواشنطن، بسبب رفض الرئيس توقيع اتفاق مع إسرائيل وعدم السماح لشركة التابلاين الأميركية من نقل النفط السعودي عبر الأراضي السورية.
عرض الزعيم على “ستيفان ميد” أن يقوم بضرب الحزب الشيوعي السوري وتمرير اتفاقية التابلاين، مع الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل ووضع نفسه تحت تصرف طاقم السفارة الأميركية وتحدث عن جاهزيته الكاملة للقيام بما يلزم به للإطاحة بالقوتلي وإنهاء الصراع بين سورية وإسرائيل.
أبرق الميجور ستيفان ميد إلى واشنطن قائلاً:
“حسني الزعيم يُريد أن يرى تحالفاً عسكرياً بين بلاده والولايات المتحدة، وهو يقول إنّ وجود حكم قوي ومستقر في دمشق، أو ديكتاتورية، سيكون أفضل للجميع وسيُعطي الولايات المتحدة حليفاً موثوقاً ودائماً في سورية. ويقترح أن يكون هو هذا الحليف المؤتمن.”
الانقلاب: 29 آذار 1949
وجهت عدة إنذارات إلى الرئيس شكري القوتلي لتوخي الحذر من حسني الزعيم، كان أولها من السفارة البريطانية في دمشق، جاءت عن طريق مدير البروتوكول في القصر الجمهوري عصام الإنكليزي في 25 آذار 1949، أي قبل وقوع الانقلاب بأربعة أيام. وكان الإنذار الثاني عبر إدمون حمصي، سفير سورية في لندن، يوم 27 آذار 1949، وجاء الثالث على لسان رئيس الحكومة السابق جميل مردم بك الموجود يومها في مصر، والذي أرسل ابنه زهير إلى القوتلي وحذره من نيّة الزعيم القيام بانقلاب عسكري، ومع كل ذلك، بقي القوتلي متمسكاً بالزعيم ولم يتخذ أي إجراء ضده.
وفي ساعةٍ متأخرةٍ من منتصف ليلة 29 آذار 1949 تحركت قطعات عسكرية من ريف دمشق باتجاه العاصمة السورية، بأمر من الزعيم، كانت تعليماته واضحة: اعتقال رئيس الجمهورية وبسط حُكم الجيش في أنحاء البلاد كافة. وُزّعت الدبابات على مداخل دمشق وقُطعت الاتصالات السلكية واللاسلكية، وأُغلقت جميع المعابر الحدودية مع دول الجوار، وجاء في البلاغ رقم واحد: “مدفوعين بغيرتنا الوطنية مُتألمين بما آل إليه وضع البلد من جراء افتراءات وتعسُّف من يدَّعون أنهم حُكامنا المخلصون لجأنا مضطرين إلى تسلُّم زمام الحكم مؤقتاً في البلد التي نحرص على المحافظة على استقلالها كلَّ الحرص.” مُهر البيان بتوقيع “القيادة العامة للجيش والقوات المُسلحة.”
الاعتقالات
اتجهت مجموعة عسكرية إلى منزل رئيس الجمهورية في منطقة بستان الرئيس، وذهبت مجموعة ثانية إلى قصر رئيس الحكومة في سوق ساروجا ألقي القبض على شكري القوتلي ونُقِل إلى سجن المزة، واعتقل جنود الزعيم خالد العظم وتعاملوا معه بقسوة مُفرطة، فقد ضربوه ورموه من أعلى سلم بيته، وأخرجوه من منزله أمام الناس بشكل مهين، حافي القدمين وهو بلباس النوم.
الحجاز يوم 29 آذار 1949
أَرسل الزعيم مجموعة ثالثة من الجنود للسيطرة على إذاعة دمشق في شارع النصر واعتقال شخصيات بارزة محسوبة على عهد القوتلي، كان من ضمنها مدير الشرطة والأمن العام العقيد محمود الهندي والنائب فيصل العسلي وأمين عام وزارة الدفاع أحمد اللحّام والصحفي وجيه الحفار، صاحب جريدة الإنشاء. وأمَر باعتقال فؤاد الشايب مدير الإذاعة لرفضه إذاعة البلاغ العسكري رقم واحد.
وأخيراً، قام الزعيم بإغلاق القصر الجمهوري واعتقال سهيل العشي، مرافق رئيس الجمهورية.
من داخل مقر قيادة الشرطة في ساحة المرجة، أشرف الزعيم على أدق تفاصيل الانقلاب، بمُساعدة أكرم الحوراني الذي تولّى كتابة جميع البلاغات العسكرية وبثّها عبر الإذاعة، واصفاً عهد القوتلي بأبشع الأوصاف ومُتهِماً رموزه كافة بالخيانة والفساد والتقصير في واجبهم الوطني تجاه فلسطين. نَصح الحوراني بإعدام شكري القوتلي ليلة 29 آذار، ولكنّ الزعيم رفض القيام بذلك خوفاً من ردة فعل الشارع السوري وتداعيات هذا الأمر على قادة الدول العربية المُقربين من القوتلي، وتحديداً الملك السعودي عبد العزيز آل سعود.
عهد الزعيم
فرض حسني الزعيم القوانين العُرفية على سورية، وأَجاز للسلطات الأمنية مراقبة الاتصالات واعتقال أي مشتبه به دون مذكرة توقيف أو محاكمة. وقد بدأ الزعيم حكمه بإلغاء رتبة “الزعيم” في سورية (وهي توازي رتبة “عميد” اليوم) وتدريج مقولة “لا زعيم إلّا الزعيم.” إعجاباً بحكّام أوروبا الأرستقراطيين، صار يرتدي عدسة المونوكل على عينه اليمنى، ويلبس قفازات بيضاء. وأمر بإحضار عصا المارشالية لحملها في المناسبات الوطنية، مثل قياصرة ألمانيا وروسيا.
أمر الزعيم بتعطيل الدستور وإغلاق مكاتب جميع الأحزاب وحلّ المجلس النيابي ابتداء من صباح يوم 1 نيسان 1949، وأوقف مُعظم الصحف اليومية، وأطلق صحيفة سياسية تابعة له اسمها الانقلاب، عُيّن الصحفي منير الريّس في رئاسة تحريرها. وفي بادرة حسن نية تجاه الغرب، رفع حسني الزعيم الحظر المفروض على يهود سورية وأعاد لهم رُخص السوق وجوازات السفر، وأعفاهم من ضرورة الحصول على إذن سفر قبل مغادرة البلاد، مع الإبقاء على قانون منع بيع عقاراتهم، وفي 26 نيسان 1949، اعترفت الولايات المتحدة بشرعية انقلاب الزعيم، وتلتها اعترافات مماثلة من فرنسا وبريطانيا والاتحاد السوفيتي.
الاعتراف بالعهد الجديد
تسارع النواب إلى منزل رئيس المجلس النيابي فارس الخوري، الذي تمارض يوم الانقلاب لتجنُّب ملاقاة الزعيم، وطلبوا منه المشورة حول كيفية التعامل مع العهد الجديد، وكان جوابه الشهير: “لقد اندلعت النيران في البيت، إنّ الواجب والعقل والضمير يفرض علينا أن نتعاون لإخماد النيران أو حصرها قبل أن يشتد لهيبها فتأتي على الأخضر واليابس.” وفي 6 نيسان 1949 أقنع الخوري زميله شكري القوتلي بالاستقالة من منصبه، موجهاً خطابه لا للزعيم بلّ إلى الشعب السوري: “أُقدم للشعب السوري الكريم استقالتي من رئاسة الجمهورية السورية، راجياً له العز والمجد”. على الفور، قام الزعيم بنسخها وتوزيعها عبر كتاب صدر عن مطبعة الجيش بعنوان الانقلاب السوري، وضعه الصحفي بشير العوف بتكليف من الزعيم.
وقد نشرت مجلّة تايم الأمريكية مقالاً مطولاً عن الوضع في سورية، جاء فيه: “مُعظم السوريين يجلسون في المقاهي والأسواق، يشربون الشاي ويدخنون النراجيل، ولا يعنيهم كثيراً التغيير الذي طرأ على حكومتهم مؤخراً. في تاريخهم الطويل ذاقوا طعم حكم الفرس والرومان والمغول والأتراك والفرنسيين، ويبدو أنهم على استعداد لتقبُّل حسني الزعيم أيضاً.”
الزعيم وإسرائيل
تنفيذاً لوعوده السابقة أمام الأمريكان، سارع حسني الزعيم بإطلاق مفاوضات الهدنة مع إسرائيل يوم 5 نيسان 1949. جرت المباحثات تحت إشراف الأمم المتحدة في خيمة نُصبت في منطقة منزوعة السلاح على الحدود السورية – الفلسطينية كان ذلك بعد أسبوع واحد فقط من تسلّمه مقاليد الحكم في دمشق، وخوفاً من أنْ يتهمه أعداؤه بالخيانة، وإصراراً منه على أن يُثبت أنه ليس أقل وطنية من شكري القوتلي، قال الزعيم إن هذه المفاوضات هي مُجرد “استراحة محارب،” وهي لا تعني إنهاء الحرب مع إسرائيل أو التخلّي عن الشعب الفلسطيني.
عقدة المفاوضات سابقاً كانت في موقف القوتلي الرافض لأي تنازل في منطقة الجليل والمُصر على استعادة بحيرة طبريّا بالكامل، وقد ورد هذا الموقف في مُذكّرات وزارة الخارجية السورية المثبتة في سجلات الأمم المتحدة منذ عام 1948. صرّح الزعيم أمام الوزير الأمريكي المفوض بدمشق جيمس كيلي أنّ كلام القوتلي لا يعنيه، وأنه على استعداد للتنازل عن الجليل كاملاً ومشاركة الإسرائيليين بمياه بحيرة طبريّا، مع إعطاء نصفها الغربي لإسرائيل نظراً لحاجتها الماسة للماء في تطوير وتأهيل صحراء النّقب. اتفق الطرفان على خطوط وقف إطلاق النار وأن تكون المنطقة بين الحدود السورية – الفلسطينية منزوعة السلاح تحت إشراف رئيس لجنة الهدنة، الأمريكي رالف بنش وُقّعت اتفاقية الهدنة يوم 20 تموز 1949، وفي كتابه الطريق الذي لم يُسلك عدّ السفير الإسرائيلي إيتامار رابينوفتش أن هذه الاتفاقية كانت “اعترافاً سورياً مبكراً بالدولة العبرية،” قبل أن تعترف بها مصر بثلاثة عقود.
وعند الانتهاء من موضوع الهدنة، عرض الزعيم على الولايات المتحدة مشروعاً متكاملاً لسلام مستدام في الشرق الأوسط، مؤلف من ثلاث نقاط:
-
- عقد لقاء قمة بينه وبين دافيد بن غوريون، يكون إمّا بدمشق أو في تل أبيب.
- التوصل إلى اتفاقية سلام تُنهي الصراع الدائر بين سورية وإسرائيل.
- توطين 300 ألف لاجئ فلسطيني في منطقة الجزيرة مقابل دعم مالي وعسكري من الولايات المتحدة.
علّق نائب دمشق فخري البارودي على هذا المقترح في مذكراته وقال إنّ واشنطن عَرضت على الزعيم 300 مليون دولار لتنفيذ مشروعه ولكنه طلب ما لا يقل عن 400 مليون دولار، وفي ردِّها الأول على عرض الزعيم عدّت وزارة الخارجية الأمريكية أنه كان “إنسانياً في طرحه ورجل دولة في موقفه”، وقد بعث الزعيم برسالة خاصة إلى واشنطن، وطلب إلى إدارة الرئيس هاري ترومان تقديم طلب رسمي إلى الحكومة السورية لإنشاء قواعد عسكرية في الساحل السوري، وقال إنه سيوافق عليه فوراً، بهدف الحدّ من تمادي الشيوعية في الشرق الأوسط، عند سماعه عن كل هذه التنازلات، كَتب وزير خارجية الزعيم، الأمير عادل أرسلان في مُذكّراته اليومية: “صرت أخشى على سورية أن تُباع!”
الزعيم رئيساً للجمهورية
وفي حزيران 1949 أجري استفتاء شعبي في سورية أوصل حسني الزعيم إلى رئاسة الجمهورية بنسبة فاقت 116% من أصوات الناخبين. كُلّف الدكتور محسن البرازي، صديق الزعيم وكاتم أسراره، بتشكيل حكومة جديد ضمّت عدداً من الشخصيات الوطنية، مثل الأمير مصطفى الشهابي الذي عُيّن وزيراً للعدل والشاعر خليل مردم بك الذي سمّي وزيراً للمعارف.
العلاقات مع الدول العربية
جميع الدول العربية تعاملت مع انقلاب الزعيم بحذر شديد، وانتظرت طويلاً قبل الاعتراف به. في 16 نيسان 1949 وصل رئيس الحكومة العراقية نوري السعيد إلى دمشق واجتمع مطوّلاً مع حسني الزعيم في المطار لمعرفة نواياه الإقليمية والدولية. سأله نوري باشا: “هل يقبل عطوفة الزعيم بمشروع الهلال الخصيب الذي كان العراق قد طرحه منذ أشهر؟ وماذا عن تحالف سورية القائم مع الدول العربية المعادية للأسرة الهاشمية في إشارة إلى مصر والسعودية؟” عرض نوري السعيد إقامة وحدة مباشرة بين سورية والعراق، ولكن الزعيم رفض الدخول بأي حلف، وعاد السعيد إلى بلاده خالي الوفاض.
جاء بعده عبد الرحمن عزام باشا، أمين عام جامعة الدول العربية، وعرض ترتيب لقاء بين حسني الزعيم والملك فاروق، أحد أصدقاء شكري القوتلي المقربين الذي كان قد استقبله في مصر بعد نجاج الانقلاب. جرى هذا الاجتماع في القاهرة يوم 21 نيسان 1949، وكان مُثمراً للغاية. أعلن الزعيم من بعده عن الاستمرار في علاقة سورية التاريخية مع مصر، ورفضها الدخول في أي حلف مع الأسرة الهاشمية الحاكمة في بغداد وعمّان. ولشدة تأثره بالملك فاروق، قطع الزعيم علاقات سورية مع العراق والأردن وقال في مؤتمر صحفي يوم 26 نيسان 1949:
“سوف آتي بالملك عبد الله الأول إلى دمشق وسوف أعلق مشنقته في ساحة المرجة.”
اعترفت مصر رسمياً بشرعية الانقلاب وبحسني الزعيم حاكماً على سورية، وتلاها اعتراف مُماثل من السعودية وحده لبنان رفض الانصياع إلى هذا الموقف وظلّ متمسكاً بشكري القوتلي رئيساً شرعياً لسورية.
غدرُ الزعيم بأصدقائه
جاء أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى دمشق فاراً من ملاحقته من قبل الحكومة اللبنانية (رياض الصلح) طالباً اللجوء السياسي من حسني الزعيم والإقامة في كنفه بسوريا لكونهما صديقان حميمان.
كان سعادة طريداً ومُلاحقاً في لبنان بسبب مواقفه المعارضة لعهد الرئيس بشارة الخوري، ورئيس حكومته رياض الصلح، ضرب سعادة في شرعية لبنان، ورأى أنه يجب أن يبقى جزءاً من سورية الكبرى بحسب عقيدة السوريين القوميين، وكان يسعى لإسقاط الميثاق الوطني المُبرم بين الخوري والصلح منذ عام 1943، والذي وزّعت بموجبه مناصب الدولة اللبنانية على أساس طائفي بين المسيحيين الموارنة والمسلمين السنة. وكان يتوسم أن يحتمي عند حسني الزعيم، الذي كان على خلاف كبير مع قادة لبنان بسبب إصرارهم على عدم الاعتراف به وبشرعية حكمه.
أراد الزعيم استخدام أنطون سعادة للنيل من رياض الصلح، فأعطاه اللجوء المطلوب وقدّم له مسدسه الخاص، عربون وفاء وتقدير، وبالتنسيق مع الزعيم، نظّم أنطون سعادة ثورة في لبنان للإطاحة بالصلح والخوري، تكون ممولة من دمشق ومخطّطاً لها من قبل المخابرات السورية، لكنَّ رياض الصلح تواصل مع نظيره السوري محسن البرازي، وأقنعه بضرورة تسليم سعادة إلى القضاء اللبناني، مقابل الاعتراف بحسني الزعيم رئيساً شرعياً على سورية.
في مُذكّراته، يقول السياسي الحلبي “نذير فنصة”، عديل حسني الزعيم ومدير مكتبه:
ذهبت إلى الزعيم أستفسر عن موضوع سعادة، فقال لي: إن هناك ضغطاً عليه من الشّيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية ومن رياض الصلح.
قلت للزعيم: أليس من العار أن تُسلّم شخصاً تعرف أنه سيعدم بعدما منحته الأمان؟ فقال لي: إنهم يطلبون مني أن أدبر قتله هنا في دمشق، وأنا لم أفعل ذلك طبعاً؛ لذا سأسلمه.
طلب نذير فنصة من الزعيم عدم تسليم أنطون سعادة إلى لبنان، مهما كانت الظروف والمغريات، واقترح ترحيله إلى الأرجنتين حيث له قاعدة حزبية وعائلية كبيرة، ولكن الزعيم نكث بوعده وسلّم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية، حيث حُوكم من قبل الفرنسيين الذين يستعمرون لبنان آنذاك، وأعدم في يوم 8 تموز 1949. بعدها بأيام معدودة وصل الرئيس بشارة الخوري إلى دمشق ومعه رياض الصلح، واعترف لبنان رسمياً بحسني الزعيم وشرعية حكمه.
انقلاب على الانقلاب الأول
في الساعات الأولى من 14 آب 1949، وقع انقلاب جديد في دمشق قاده اللواء سامي الحناوي، صديق حسني الزعيم المحسوب على العراق كان الزعيم عائداً من حفل خيري في فندق بلودان الكبير، وقد رتّب الحناوي غياب مرافقه العسكري الملازم أول الشاب عبد الحميد السراج عن منزله الكائن في شارع أبو رمانة، لضمان نجاح الانقلاب.
في مُذكّراته، يصف الضابط فضل الله أبو منصور، وهو من قادة الانقلاب، ما حدث بالتفصيل في تلك الليلة قائلاً:
واصلت قرع الباب بشدة، فإذا بالأنوار الكهربائية تُشع، وإذا بحسني الزعيم يُطل من على الشرفة صائحاً: “ما هذا؟ من هنا؟” أجبته بلهجة الأمر الصارم: “استسلم حالاً، فكل شيء قد انتهى، وإلّا دمرت هذا القصر على رأسك.” فانتفض حسني الزعيم وتراجع مذعوراً، عاجلته بوابل من رشاشتي، إلا أنه دخل القصر وتوارى فيه، ثم نزل من الدور الثاني وهو يرتدي بنطلونه فوق ثياب النوم، وزوجته وراءه تصيح: حسني…حسني…إلى أين يا حسني؟ وقبل أن يتمكن حسني من الرد على زوجته، دنوت منه واعتقلته ثم صفعته صفعة كان لها في أرجاء القصر دوي. قال حسني:
“لا تضربني يا رجل، احترم كرامتي العسكرية.”
وضِع الزعيم في مُصفحة ونُقل إلى منطقة مهجورة بالقرب من مقبرة الفرنسيين في بساتين المزّة، حيث أُلحق به رئيس الحكومة محسن البرازي ومدير مكتبه نذير فنصة، يُضيف أبو منصور:
كان حسني الزعيم في المُصفحة ساهماً تائه النظرات، كأنه لا يُصدق ما يرى ويسمع…كأنه يحسب نفسه في منام مُخيف، ثم قال الزعيم لفضل الله أبو منصور:
“يا فضل، أنا بين يديك، معي ثمانون ألف ليرة، خذ منها ستين ألفاً لك ووزع عشرين ألفاً على جنودك وأطلق سراحي ودعني أهرب إلى خارج البلاد.”
يصف نذير فنصة اللحظات الأخيرة من حياة الزعيم قائلاً:
“كان الزعيم هادئاً في شكل مُذهل ومتمالكاً نفسه، بينما كان البرازي مرمياً على الأرض ومغمياً عليه. وكنت أنا أرتعد لاقتراب شبح الموت مني، فقال حسني الزعيم، موجهاً كلامه لي وللبرازي لا تخافوا، فالإنسان لا يموت سوى مرة واحدة.”
ولكن هدوءه تلاشى عند رؤيته أفواه البنادق الموجهة صوب صدره ورأسه، وصاح:
“أنا حسني الزعيم! أنا الذي جعلت لكم كرامة. تقتلوني بدلاً من قتل هؤلاء الكلاب؟”
أطلق بعدها الرصاص صوب الزعيم والبرازي، وقد استمر زهاء خمس دقائق، داس بعدها الجنود جثثهم بأرجلهم. ويُكمل فضل الله أبو منصور حديثه عن أحداث ليلة 14 آب 1949 قائلاً: “أمرت بنقل الجثتين إلى المصفحة ثم سرت إلى المستشفى العسكري لأضعهما في غرفة الموتى. أغلقت عليهما باب الغرفة واحتفظت بالمفتاح وفي الساعة السادسة صباحاً، استوليت على القصر الجمهوري وختمته بالشمع الأحمر ثم توجهت إلى رئاسة الأركان لمقابلة الزعيم سامي الحناوي.”
جثة الزعيم
إمعاناً بالإذلال، أمر سامي الحناوي بدفن حسني الزعيم في قبر مجهول في قرية أم الشراطيط بريف دمشق، وبعد عودة هاشم الأتاسي إلى الحكم طلب البحث عن الجثة وقال إنه لا يجوز دفن حسني الزعيم بهذه الطريقة، لأنه كان رئيساً لسورية وقائداً لجيشها، عُثر على الجثة في نعش مُكسّر تحت حجارة كبيرة، وتمكنت السلطات من التعرّف عليها من سروال بيجامة الزعيم وآثار رصاصة في خاصرته كان قد أصيب بها في زمن الانتداب، نُقل بعدها جثمان الزعيم إلى مقبرة الدحداح في دمشق وأقيم له قبر أنيق، يليق برئيس جمهورية سابق.
إنجازات الزعيم
على الرغم من قصر فترة حكمه ، إلا أن حسني الزعيم قام بإنجازات عدة، منها استدعاء خبراء من فرنسا لجر مياه نهر الفرات إلى حلب، وتوسيع مطار دمشق وجعله مطاراً دولياً، مع إصدار قانون التجارة والقانون المدني وسنّ دستور عصري يُعطي المرأة السورية حق الانتخاب والترشح للمجلس النيابي. وكان موضوع حقوق المرأة السياسية قد طُرح في سورية منذ عام 1920 ولكن أحداً من السياسيين لم يجرؤ على فرضه بالطريقة التي قام بها حسني الزعيم.
قالوا في الزعيم
اختلفت الأقوال في حسني الزعيم، فبعضهم عدّه أرعن ومتهوّراً، وقال آخرون إنه كان رجل دولة بحق، رائداً ومُجدّداً في أفعاله.
أول من أفصح عن رأيه الصريح بالزعيم كان وزير خارجيته الأمير عادل أرسلان، عبر سلسلة مقالات نُشرت في جريدة الحياة في صيف عام 1949. رأى الأمير عادل أن حسني الزعيم كان يُريد عقد الهدنة بأسرع وقت لكي يسحب الجيش السوري من الجبهة لقمع المعارضة الداخلية وبسط حكمه العسكري في دمشق.
أمّا المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم من جامعة أوكسفورد، فقد وصف الزعيم بالقول:
”بِالرَّغْمِ من عيوبه الشخصية، كان رجلاً جدّياً في طرح الإصلاح الاجتماعي والتطور الاقتصادي، وكان يعد السلام مع إسرائيل وحلّ قضية اللاجئين ضرورياً لتحقيق تلك الأهداف.”
وفي كتابه الشهير لعبة الأمم، عدّ موظف الاستخبارات الأمريكي “مايلز كوبلاند” المهندس الحقيقي لانقلاب 29 آذار 1949 أنه أخطأ التقدير في اختيار حسني الزعيم لقيادة سورية، وصرح لزميله “ستيفان ميد” بالقول:
“إنَّ هذا الفعل ينمّ على غباء شديد من طرفنا، كان من المفترض عدم تورُّط بعثتنا الدبلوماسية مع هذا الرجل!”
وقد جاء هذا الكلام في كتابه الصادر سنة 1970، أي بعد زوال حكم حسني الزعيم بأكثر من عشرين سنة.
العائلة
تزوج حسني الزعيم من نوران باقي وهي سيدة حلبية من عائلة معروفة، ولهُ منها بنت واحدة فقط ولدت بعد مقتل أبيها بأشهر.