صورة عششت في الذاكرة
قبل أن تنقضي آخر أيام القرن الماضي، وبين رفوف البضائع المعروضة في مخزن الغزالي بمدينة شتورا اللبنانية، لمحت قامة رجل مهيبة، بنطلاٌ من الجينز الأزرق بلون السماء ،ينسدل فوقه قميص أبيض ناصع. ولما التفتَ مغيراً وجهته، لمحت سواد عينيه التي طالما شاهدتها في شاشة التلفاز غاضبة، عاصفة، حنونة … تعبيرات متقلبَّة حسب تراجيديا المسلسل. ولصِغَر سني آنذاك، بقيت أقف جامدة أحدقُّ في بطل تلك المسلسلات التي نحبها. وعندما اقترب مني، ابتسم برقة الأب الحنون يقول:
يا صغيرتي ما بالك تحدقين بي هكذا؟ أنا أخاف من براءة عيون الأطفال لأنها عالم فيه ألغاز لا يفهمها الكبار أحياناً.
ركضت وأنا خجولة منه، وفرحة بعيداً كي ألتحق بأهلي… وأخبرتهم أني شاهدت بأمّ عيني “الحارث بن عبّاد” صديق “الزير سالم”.
ومرت الأيام
ومع مراحل تطور وعييَ عبر السنين، ازدادت معرفتي بأهمية الفنان السوري خالد تاجا الذي برع في الأعمال الدرامية والكوميدية التي جسدت أنماطاً فنية مختلفة،
واشتهر بتماهيه مع الدور وحرصه على اختيار ما يليق بإمكانياته الفكرية كي يجسدها من خلال التمثيل.
ومع مجيء رمضان في هذا العام، يشعر متابعي المسلسلات بالأسى على افتقاد هذا الفنان الذي حمل همَّ الوطن ودعم الثورة السورية ضد نظام الأسد منذ بدايتها عام 2011. وشارك في العديد من الفعاليات والاحتجاجات المناهضة للنظام، حيث كانت أبرز مواقفه:
- دعمَهُ للحرية والديمقراطي.
- طالب تاجا بإنهاء حكم عائلة الأسد وإقامة نظام ديمقراطي في سوريا.
- انتقاده للنظام السوري وانتهاكاته لحقوق الإنسان، حيث وصفها خلال مقابلاته المتكررة بـ “الجرائم ضد الإنسانية”.
- دعوته للتدخل الدولي لحماية المدنيين السوريين من وحشية تعامله مع المتظاهرين السلميين. بطش النظام.
اقتباسات من أهم تصريحاته
“لا يمكننا أن نعيش تحت حكم عائلة الأسد إلى الأبد. يجب أن نثور ونطالب بحريتنا.”
“النظام السوري هو نظام مجرم يجب أن يُحاسب على جرائمه ضد الإنسانية.”
“المجتمع الدولي مسؤول عن حماية المدنيين السوريين من بطش النظام.”
تعرض الفنان خالد تاجا لمضايقات من قبل النظام السوري بسبب مواقفه المناهضة له. فقد رفض مغادرة البلاد. واستمر يجاهر برأيه وهو في دمشق يفضح الواقع الأمني والسياسي في سورية في ظل حكم آل الأسد. وكان السبب في اعتقاله قوله:
إنَّ العدو الخارجي معروف لنا جميعاً، أما العدو الأخطـر فهو العدو الداخلي، قاصداً بذلك النظام ورجاله ومؤسساته الأمنية (بحسب ما روجت مواقع إعلام معارضة).
ولما استشرف الفنان تاجا أنه سيكون أحد ضحايا تغوّل النظام، أوصى بأن يكتب على شاهدة قبره:
“مسيرتي حلم من الجنون، كومضة شهاب زرع النور بقلب من رآها، لحظة ثم مضت”.
شذرات من أيام الفنان الأخيرة
بعد خروج تاجا المعتقل كان وضعه الصحي متردياً، وحسب رواية صديقه وزير الإعلام السابق في نظام الأسد “عدنان محمود” الذي لازمه خلال الأيام التي قضاها تاجا أثناء معالجته في مشفى الشامي بدمشق، وقد رشح عن ذلك الصديق، أنَّ تاجا رفض عرضاً من الملك الأردني عبدالله بن الحسين لنقل خالد تاجا بطائرة إلى الأردن، والتكفل بعلاجه على نفقة الملك، وعند ابلاغ تاجا بهذا العرض استشاط غضباً رافضاً ذلك بشكل قاطع.
آثرت عائلة الفنان أن يتم معالجة الفنان تاجا على حسابهم الخاص في مشفى الشامي حيث تمَّ حجز غرفتين في طابقين متتاليين واحدة في الطابق السفلي لإقامة اخته والعائلة والأخرى في طابق علوي للمريض. ومرور شهر كامل استقرت حالة تاجا الخطرة وأصبح بالإمكان إخراجه من العناية الفائقة إلى غرفته الخاصة. وقد اتخذ هذا القرار من قبل الطبيب المشرف على العلاج في الليلة الأخيرة. وكان في ذلك الوقت الوزير محمود موجوداً في غرفة العائلة، واستأذنهم بالمغادرة دون أن يعلمهم بأنه سيمر على غرفة العناية المشددة. ولكنَّ عائلة تاجا فوجئت بعد زيارة الوزير وخروجه من غرفة تاجا، إعلان الطبيب المسؤول عن وفاة خالد تاجا. وهذا أثار شكوك العائلة بأنَّ ذلك الوزير قد يكون وراء هذه الوفاة المريبة حقاً.
وداعاً يا فقيد السويين
رحل فنان الشعب السوري خالد تاجا في الرابع من نيسان عام 2012 دون تأكيد لسبب الوفاة.
لقد ترك الفنان خالد تاجا بصمته في عالم التمثيل، وكانت أخر مشاركاته الفنية هي مشاهد من مسلسل “الأميمي” قبل أن ينتهي تصوير كامل الحلقات. وكانت هذه اللقطات آخر مشاهد جسدت عبقريته في لعب أصعب الأدوار في تجسيد شخصيات لا يتقن أداءها إلا هو.
كانت مسيرته حافلة بالإبداع الذي جعل نقاد السينما أن يسموه “أنتوني كوين العرب”.