توطئة
من يتعاطى مع كتب التراث العربي والإسلامي ويعاقرها يجد أنها حملت لنا بين طياتها حضارة ثرية متنوعة فذَّة فريدة، لا يوجد علم من علوم المعرفة إلا وتعاورته وكان لها سهم فيه، من طب إلى فلسفة إلى شعر إلى قانون إلى دين إلى فيزياء إلى فلك ….على الرغم من شح الأدوات المتاحة -آنذاك التي يمكن أن تساعد في خوض تلك البحار من ضروب المعرفة، والذي يلفت الانتباه حقا وبدهشة أثناء الوقوف عند سير وترجمات حياة بعض علمائنا ومفكرينا القدماء، يجد أنهم كانوا يجمعون المجد من أطرافه، من خلال إتقانهم لمجموعة من العلوم في الوقت ذاته، في حين أن واقعنا اختلف كثيرا عما كانوا عليه. فبتنا نجد تخصص التخصص، أي أن الطبيب يختص بعضو ثم بجزئية من العضو، ودارس الأدب يختص بأدب عصر من العصور، وعلم التاريخ كذلك وهلم جرا…
بيد أن عصرنا الحديث والمعاصر لا يخلو من بعض النوابغ الذين حاكوا أجدادنا العظماء، ونعم تلك المحاكاة، فتَقلَّبوا بين فنون المعرفة وصنفوا الكتب الكثيرة الشهية المتباينة الألوان. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر عباس محمود العقاد والدكتور طه حسين والدكتور عبد الكريم اليافي و الدكتور عبد السلام العجيلي… وهذا الأخير سيدور مقالي في فلكه.
نبذة عن حياته
عبد السلام بن ويس العجيلي (1 كانون الثاني 1918- 5 نيسان 2006). طبيب وأديب وسياسي سوري من الرقة، يعدّ أحد أهم كُتّاب القصة القصيرة في سورية والوطن العربي. تنوع نتاجه الأدبي بين القصة والرواية، وبرع في الشعر الساخر وكان أحد مؤسسي تجمع عصبة الساخرين الأدبية. تطوع في جيش الإنقاذ وخاض حرب فلسطين سنة 1948، وفي عهد الانفصال تسلّم حقائب وزارية عدة منها الثقافة والإعلام والخارجية. تُرجمت أعماله إلى لغات أجنبية واعتمدت بعضها كنصوص أدبية في المناهج التربوية السورية.
يصف العجيلي طبيعة نشأته قائلا:
“ولدت في الرقة، بلدة صغيرة، أو قرية كبيرة، على شاطئ الفرات بين حلب ودير الزور، من الناحية الاقتصادية كان أغلب أهل الرقة، وأسرة العجيلي منهم، يعيشون حياة نصف حضرية بأنهم كانوا في الشتاء يقيمون في البلدة فإذا جاء الربيع خرجوا إلى البادية يرعون فيها أغنامهم وينتقلون من مراعي الكلأ حتى أوائل الخريف، وقد عشت هذه الحياة في صباي فأثرت فيّ كثيراً وقبست منها كثيراً فيما كتبت….
متى ولدت؟ لم يكن في الرقة في تلك الأيام سجلات ثابتة للمواليد، ويبدو أني ولدت في أواخر تموز سنة 1918 أو 1919 وأنا أصرّ دوماً على التاريخ الأول رغم أن الأغلب هو صحة التاريخ الثاني”.
ولد عبد السلام العجيلي في مدينة الرقة لعائلة عشائريّة ميسورة الحال. نشأ في بيئة بدوية تعود أصولها إلى الموصل وحاز على الشهادة الابتدائية سنة 1929، قبل أن ينتقل إلى حلب لإكمال دراسته. ولكنّه توقّف عن التعليم لعارضٍ صحي وعاد إلى مدينته وقضى فيها أربع سنوات يقرأ ويطالع الأعمال الأدبية بأنواعها المختلفة. عاد إلى حلب سنة 1938 ودخل مدرسة التجهيز الأولى التي نال منها الشهادة الثانوية، ثم سافر إلى دمشق ليدرس الطب في الجامعة السورية. وعند تخرجه سنة 1945، كان أول طبيب في الرقة وافتتح فيها عيادة خاصة ظلّ يعمل بها حتى أيامه الأخيرة.
نشاطه السياسي
بدأ عبد السلام العجيلي نشاطه السياسي باكراً. وفي سنة 1947 انتُخب نائباً عن الرقة في مجلس النواب، نظراً لشعبيته العريضة في المدينة. كان أصغر النواب سناً، واستمر عمله في المجلس ثلاث سنوات، لغاية وقوع انقلاب حسني الزعيم وحل البرلمان في 1 نيسان 1949. وعند صدور قرار تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية شهر تشرين الأول من العام 1947، تطوّع النائب العجيلي في جيش الإنقاذمع زميله أكرم الحوراني نائب حماة للقتال في فلسطين. عُيّن في فوج اليرموك الثاني تحت قيادة أديب الشيشكلي وخدم في منطقة الجليل الأعلى من شمالي فلسطين. وكان أحد ثلاثة أطباء في جيش الإنقاذ.
شارك العجيلي في معركة تل العزيزيات وفي الهجوم على بلدة جدين الذي باء بالفشل. وكان المسؤول عن مرافقة الجرحى إلى دمشق للإشراف على معالجتهم في مستشفيات العاصمة. وعند دخول القوات النظامية السورية الحرب في 15 أيار 1948، انسحب العجيلي من جيش الإنقاذ وعاد إلى عيادته الطبية في الرقة.
أول أثر أدبي
وفي سنة 1948 وتزامناً مع مشاركته في حرب فلسطين، أصدر العجيلي أول مجموعاته القصصيّة بعنوان بنت الساحرة عن دار مجلّة الأديب البيروتيّة. حقّق الكتاب نجاحاً فورياً وفازت إحدى قصصه “قطرات الدم” بمسابقة مجلّة الصباح السورية التي كان يُصدرها الصحفي عبد الغني العطري تتألف بنت الساحرة من عشر قصص قصيرة، وفيها لجأ العجيلي الى استعراض ثقافته اللغوية الواسعة أمام القرّاء، مستعملاً مفردات قاموسية لم تكن شائعة آنذاك. ومن بنت الساحرة انطلق العجيلي نحو احتراف الكتابة، إضافة لعمله الطبي والإنساني الذي لم يتخلَّ عنه يوماً في حياته.
تراثة الأدبي
كان مقصدي في عنوان المقال “عبد السلام العجيلي والضلوع في الأعمدة الثلاثة”، هو التأكيد على أنَّ شخصية هذا الأديب استوعبت الكثير من الخبرات في مجالات مختلفة الجوهر. ويمكن الإضافة أنه برع في تقديم مشاعره التي أثرت على كتاباته بما رآه في أسفاره، وتحديداً بعد زيارة فرنسا سنة 1951. فكتب حكايات من الرحلات ودعوة إلى السفر وخواطر مسافر وفي سنة 1962.
أصدر كتابه الشهير المقامات، وهو عبارة عن مجموعة نصوص ومقامات ساخرة. كما شارك الكاتب أنور قصيباتي في روايته ألوان الحب الثلاثة سنة 1970. من ناحية أخرى جمع ما ألقاه من أدب الرثاء في كتاب وجوه الراحلين. وبرع في الشعر الساخر وهو ما دفعه إلى الانضمام إلى تجمع “عصبة الساخرين الأدبية”.
ظلّ العجيلي بعيداً عن السياسة في مرحلة الخمسينيات. ولكنه أيّد الوحدة السورية المصرية عند قيامها سنة 1958. بيد أنّه سرعان ما تراجع عن موقفه بسبب الدولة البوليسية التي ظهرت في سورية، وقرارات التأميم الصادرة عن الرئيس جمال عبد الناصر في تموز 1961.
عارض انقلاب الانفصال من حيث المبدأ. وعدّ أنَّ الوحدة كان يجب تطويرها وتصحيح أخطائها ،بدلاً من فضّها بهذا الشكل العنيف الذي قال إنه لا يخدم مصلحة أحد إلا إسرائيل.
وبعد انقطاع عن عالم السياسة منذ حلّ المجلس النيابي سنة 1949، عاد وزيراً للثقافة والإرشاد القومي في حكومة الدكتور بشير العظمة سنة 1962-في عهد حكومة الإنفصال برئاسة الدكتور ناظم القدسي. وكانت تلك الفترة تتسم بعودة الديمقرطيَّة إلى سوريا، ولكن لسنوات قليلة.
وأسندت إليه لاحقاً وزارة الإعلام. وعند شغور حقيبة الخارجية. أسندت إليه بالوكالة قبل إسنادها إلى جمال الفرا حافظ على حياده السياسي قائلاً:
“لم أنتسب لأي حزب سياسي حفاظاً على حريتي في التفكير وفي التصرف”.
وفي عهده في وزارة الثقافة افتتح مسرح أبي خليل القباني بدمشق، برعاية من رئيس الجمهورية ناظم القدسي.
طلب إليه الرئيس تسلّم وزارة الإعلام مجدداً في حكومة خالد العظم الخامسة والأخيرة في أيلول 1962. لكنه اعتذر للرئيس عن توليها مصرحاً أنه يفضّل العودة إلى الطبّ والكتابة.
تراثه الأدبي خلال حياته
من أبرز ما تركه لنا هذا الأديب البار لوطنه وشعبه من أعمال أدبية رفيعة:
- بنت الساحرة دمشق 1948.
- ساعة الملازم بيروت 1951.
- حكايات من الرحلات بيروت 1959.
- الخائن بيروت 1960.
- رصيف العذراء السوداء بيروت 1961.المقامات بيروت 1962.
- قلوب على الأسلاك بيروت 1974.
- فصول أبي البهاء دمشق 1986.
- فلسطينيات عبد السلام العجيلي مجموعة مقالات، دمشق 1994.
- ادفع بالتي هي أحسن مجموعة مقالات، لندن 1997.
- أحاديث الطبيب بيروت 1997.
- خواطر مسافر دمشق 1997.
- مجهولة على الطريق مجموعة قصصية، لندن 1997.
- ذكريات أيام السياسة الجزء الثاني مذكرات، بيروت 2000.
- أجملهن بيروت 2001.
- ذكريات أيام السياسة الجزء الأول مذكرات، بيروت 2002.
- حب أول وحب أخير سعاد وسعاد بيروت 2003.
- جيش الإنقاذ دمشق 2005.
شهادات وآراء في الدكتور العجيلي
الدكتور حسام الخطيب:
كان رجالاً وليس رجلاً واحداً إلا أنه لم يكن أمة في رجل، فبسبب تعدديته إلى جانب بروز حضوره الشخصي، وذاتيته الأدبية وتمسكه بممارسة مهنة الطب، ظل دائماً عدة رجال في رجل متميز ،يتمتع بحرية الحركة ورحابة المزاج.. هؤلاء الرجال هم: عبد السلام البدوي، عبد السلام القروي، عبد السلام المدني، عبد السلام الطبيب، عبد السلام القومي، عبد السلام العالمي.
الشاعر نزار قباني:
العجيلي أروع بدوي عرفته المدينة، وأروع حضري عرفته البادية. المستشرق الألماني هانز فير: إن أكثر الروائيين العرب يكتبون حسب أساليب الروائيين الغربيين، أما عبد السلام العجيلي فميزته أنه عربي في فكره، وأدائه وأسلوبه وأصالته.
الكاتب وليد إخلاصي:
خرج العجيلي من عمق الصحراء السورية، نقياً كذرات الرمل فيها، وقد تحولت إلى تربة أزهر العلم في طياتها، ليصبح طبيباً يداوي الجراح والألم، وما لبثت روحه أن تفتقت عن حكواتي قدره أن يشهد على عصره.
وفاة الدكتور العجيلي
توفي الدكتور عبد السلام العجيلي في 5 نيسان 2006. وأُطلق اسمه على أحد أحياء مدينته. وافتُتحت قاعة باسم عبد السلام العجيلي في المركز الثقافي في مدينة الرقة. وفيه عرضت أعماله ومجموعة من صوره. وأقامت مديرية الثقافة في الرقة ملتقى سنوياً بعنوان “ملتقى عبد السلام العجيلي للإبداع والروائع.
ولكم أحسسنا بالأسى لمفارقته التي كانت أسبق من تاريخ تدمير الرقة من قبل نظام الأسد بعد ثورة الشعب السوري عام 2011. وبذلك خسرنا نطاسياً كان همُّه تجسيد القروح الإنسانية أدبياً، -لو أنه عاصر تلك الأحداث- لكانت كتاباته عنها تؤرخ جرائم آل الأسد بأسلوب يتميز بسرعة الإنتشار، ودخوله في كينونة من عاصر هذه الأحداث وكذلك الأجيال القادمة. ولكنَّ الله قضى أن تسبق وفاته هذه الفترة، وقضاء الله حقْ.