تمهيد لا بُدَّ منه
يغيب عن الكثيرين أنَّ أصول مفهوم “أرض الميعاد” موجود في التوراة -الكتاب المقدس لليهودية- قبل ظهور المسيحية بقرون. ففي سفر التكوين، نجد الله يعد إبراهيم بأن يمنحه أرض كنعان (التي تُعرف تاريخياً بفلسطين) كموطن له و لنسله. بيد أنَّ المسيحيين الإنجيليين “البروستانت” في بريطانيا، لعبوا دوراً هاماً في التأكيد على أهمية “أرض الميعاد” في اللاهوت المسيحي. فهم يعتقدون أنّ وعد الله لإبراهيم ينطبق أيضاً على المسيحيين، وأنّ عودة المسيح مشروطة في استعادة اليهود لأرض الميعاد. لذلك كان المسيحيون البروستانت أول من دعا إلى ضرورة استعمار الديار الفلسطينية بذريعة أنَّ المسيح الذي سيعود ثانية للحياة على الأرض، سيجد أنَّ المسلمين يحكمون مسقط رأسه في فلسطين، وبالتالي يجب عليهم اخلاء هذه البقعة من ساكنيها الحاليين، تمهيداً لعودة المسيح، لأنَّ أصوله كانت من أصلاب اليهود في جبل صهيون. ومع تنامي الغزوات الصليبية لتلك الأراضي بأشكال مختلفة عبر مئات السنين، نشر البريطاني الإنجيلي “لورنس أوليفانت” كتابه “أرض جلعاد عام (1887)، ليقلّب مواجع الشتات من اليهود كي يجدوا لهم أرضاً تجمعهم وهي فلسطين.
ومن الإنصاف أنْ نشير إلى أنّ هناك تنوعاً في التفسيرات الإنجيلية لأرض الميعاد، فمنهم من يرى أنّها تشير إلى فلسطين التاريخية فقط، بينما يرى آخرون أنّها تشير إلى مكان روحي أو مجازي.
ادعاءات أوليفانت و هرتزل
من هو لورانس أوليفانت؟
لورنس أوليفانت (1829-1888) كاتب ودبلوماسي بريطاني عاش في القرن التاسع عشر.
- ولد في إنجلترا لعائلة ثرية.
- درس القانون في جامعة أكسفورد.
- عمل دبلوماسياً في بريطانيا العظمى وخدم في سفاراتها في الولايات المتحدة واليابان.
- سافر إلى الشرق الأوسط في ستينيات القرن التاسع عشر وكتب عن تجاربه في كتابه “حياة في الأرض المقدسة” (1880).
- اشتهر بكتاباته حول الشرق الأوسط ودعوته إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين.
أفكاره:
- تأثر أوليفانت بالصهيونية المسيحية، وهي حركة دينية تؤمن بأن عودة اليهود إلى فلسطين ستحقق نبوءة الكتاب المقدس.
- دعا إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين في كتابه “**أرض جلعاد” (1887).
- اعتقد أن الدولة اليهودية ستكون دولة مزدهرة ومثالًا للعالم.
نشاطه:
- أسس جمعية “أرض جلعاد” لتعزيز الاستيطان اليهودي في فلسطين.
- ساعد في تأسيس مستوطنة “روش بينا” في الجليل عام 1882. وبعد أن أخفقت هذه المستعمرة في البقاء أول مرة، تم تجديد بناؤها في سنة 1982 على أراض عربية (ارض قرية الجاعونة الفلسطينية) بعد احتلالها من قبل الصهاينة ليسكنها المهاجرين المحتلين، بعد أن اجبروا أهلها العرب على مغادرتها تحت تهديدهم القتل.
وفاته:
توفي أوليفانت عام 1888 عن عمر يناهز 59 عامًا. ودفن في جبل هرتزل في القدس.
من هو ثيودور هرتزل؟
هو كاتب مسرحي وصحفي نمساوي-مجري، يُعتبر مؤسس الصهيونية السياسية الحديثة.
- ولد في بودابست/المجر (1860)، لعائلة يهودية ثرية.
- درس القانون في جامعة فيينا.
- عمل صحفيًا في فيينا وباريس.
- اشتهر بكتابته لمسرحية “الغيتو” (1894) التي تتناول معاناة اليهود في أوروبا.
- عمل محرراً في صحيفة “نويه فرايه برسه –Neue Freie Presse” في فيينا.
أفكاره:
- تأثر هرتزل بمعاداة السامية المتزايدة في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر.
- ألَّف كتاب “الدولة اليهودية” (1896) الذي دعا فيه إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين.
- عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897.
- أسسالمنظمة الصهيونية العالمية – The World Zionist Organization. وبدأ بالسعي للحصول على دعم الدول الكبرى لإنشاء دولة يهودية.
نشاطاته:
- يُعتبر هرتزل من أهم الشخصيات في تاريخ اليهود الحديث، رغم أنه شخصية مثيرة للجدل، لكنْ يُشيد به البعض لقيادته الحركة الصهيونية. وهناك من ينتقده بشدة بسبب آرائه حول اليهودية والدولة اليهودية.
- لعب دورًا رئيسيًا في تأسيس الحركة الصهيونية. وساعد في تمهيد الطريق لإنشاء دولة إسرائيل عام 1948.
وفاته:
توفي هرتزل عام 1904 عن عمر يناهز 44 عامًا. ودفن في جبل هرتزل في القدس.
لن نستفيض في هذا المقال بذكر محاولات زعماء المنظمة الصهيونية في إقناع العديد من قيادات العالم حول مشروعهم باستعمار دولة فلسطين، ونجاحهم في تحقيق مبتغاهم في عام 1948، ومآلات الأحداث الدامية التي ارتكبوها منذ نكبة فلسطين وحتى حدوث ما سميَّ ب(طوفان الأقصى) في السابع من تشرين الأول 2023، الذي كان سابقة في مواجهة المقاومة الفلسطينية للمحتل الإسرائيلي في عقر كيانه. ومن سياق ردود الفعل الإسرائيلي على أحداث طوفان الأقصى، سنتناول حروب الإعلام التي رافقته لأهميتها كسلاح قوي، يخدم كل الأطراف المشاركة.
معركة الكلمات والصور وَثقَّت مجريات المعارك
في خضم الصراعات الجيوسياسية المعقدة التي تجتاح الشرق الأوسط، يلعب الإعلام دوراً محورياً كأداة قوية بيد الأطراف المتنازعة. لم تكن أحداث طوفان الأقصى الأخيرة استثناءً من هذه القاعدة، حيث تبلورت حرب إعلامية شرسة بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية، كل طرف يسعى إلى بسط سيطرته على الرأي العام وتوجيه تصورات العالم حول ما يجري على الأرض.
أهمية الإعلام كسلاح قوي
الإعلام، في العصر الرقمي، أصبح سلاحاً لا يقل ضراوة عن الأسلحة التقليدية. تستطيع الصورة والخطاب المرئي أن تشكل وعيّ الجماهير وتحدد مسار النقاشات السياسية والاجتماعية. خلال أحداث طوفان الأقصى، سعت الأطراف المتصارعة إلى استغلال وسائل الإعلام لتبرير مواقفها وتعزيز دعمها الداخلي والخارجي.
بالنسبة لإسرائيل، كانت استراتيجيتها الإعلامية ترتكز على تبرير الإجراءات العسكرية بوصفها دفاعاً عن النفس ضد “الهجمات الإرهابية”. استخدمت وسائل الإعلام الإسرائيلية منصات متعددة – مثل الهاسبارا- لتقديم روايتها للأحداث، مستندة إلى تصريحات المسؤولين والصور التي التقطتها الكاميرات الخاصة بهم. وقد لوحظ أنَّ معظمها كان عبارة عن لقطات لجنود اسرائيلين يجوبون بين ركام الدمار وهم يطلقون العيارات النارية في الهواء دون أن تلتقط الكاميرات تلك المعارك الضروس التي قام بها رجال المقاومة.
أما الخطابات المُتلفزة كانت تلوِّح بالتهديدات، وتُرَدد لسان حال القادة في إسرائيل الذين أرادوا تهدئة الشارع الإسرائيلي بالنوايا التي ثبت فشلها يوماً بعد يوم.
على سبيل المثال، صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي قائلاً:
"نحن ندافع عن مواطنينا ضد الهجمات الإرهابية، ولن نتوانى عن استخدام كل الوسائل المتاحة لحمايتهم".
هذا النوع من التصريحات كان يهدف إلى كسب تعاطف ودعم المجتمع الدولي من خلال تأطير العمليات العسكرية كإجراءات دفاعية مشروعة.
فشل الإعلام الإسرائيلي في تبرير حرب الإبادة
رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها إسرائيل في المجال الإعلامي، إلا أنها واجهت تحديَّات كبيرة في تبرير ما اعتبرته المقاومة الفلسطينية والمجتمع الدولي على حد سواء حرب إبادة ضد المدنيين. لم يتمكن الإعلام الإسرائيلي من إخفاء صور الدمار الهائل والضحايا المدنيين، التي كانت تتناقلها وسائل الإعلام العالمية، مما أضعف موقفها وأثار موجة من الانتقادات الدولية.
أما ما صدر عن المقاومة الفلسطينية من الصور ومقاطع الفيديو التي نشرتها كانت على قدر كبير من التأثير. أظهرت هذه المواد الوجه الحقيقي للمعاناة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني تحت وطأة العمليات العسكرية الإسرائيلية. على سبيل المثال، أظهرت بعض الفيديوهات المروعة أطفالاً يبكون بجانب جثث آبائهم المدمرة، ما أدى إلى تعاطف واسع النطاق مع القضية الفلسطينية وتكذيب الرواية الإسرائيلية.
نجاح الإعلام الفلسطيني في نقل الحقيقة
استفادت المقاومة الفلسطينية من تطور وسائل الإعلام البديلة ومنصات التواصل الاجتماعي لنقل وقائع الأحداث بشكل مباشر وسريع. بثت مقاطع مُصوَّرة وصور توثق الاعتداءات والجرائم ضد المدنيين، مما ساهم في حشد دعم واسع من قبل الجماهير العالمية. أصبحت هذه الوسائط أدوات فعالة لتحدي الرواية الرسمية الإسرائيلية ونقل الحقيقة بشكل مباشر دون وساطة.
من بين التصريحات البارزة، قال أحد الناطقين باسم المقاومة الفلسطينية:
"نحن نواجه آلة عسكرية ضخمة بأبسط الوسائل، ونستخدم الإعلام لكشف الحقيقة وإظهار معاناتنا للعالم".
هذا التصريح يعكس الاستراتيجية الإعلامية للمقاومة في استخدام الوسائط البديلة لفضح الممارسات الإسرائيلية وكسب التأييد الدولي.
تأثير الإعلام الفلسطيني تجاوز الحدود
أدت حِرَفيَّة الإعلام الفلسطيني ومصداقيته في تحشيد الرأي العام في العديد من البلدان الغربية، مما أدى إلى تنظيم مظاهرات واحتجاجات واسعة النطاق ضد حكومات تدعم إسرائيل بالمال والسلاح.
الجامعات الأمريكية:
شهدت الجامعات الأمريكية سلسلة من الاحتجاجات والتظاهرات التي قادها الطلاب دعماً للقضية الفلسطينية. على سبيل المثال، في جامعة كاليفورنيا، نظم الطلاب اعتصامات ومسيرات تضامنية، مطالبين إدارات الجامعات بسحب استثماراتها من الشركات التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي. وأعرب الطلاب في جامعة هارفارد عن تضامنهم من خلال تنظيم ندوات وحملات توعوية لزيادة الوعي بشأن الوضع في فلسطين. وحدث مثل ذلك في العديد من الولايات الأخرى.
الشارع الأوروبي:
في أوروبا، شهدت مدن كبرى مثل لندن وباريس وبرلين تظاهرات ضخمة ضد السياسات الإسرائيلية. رفع المتظاهرون شعارات تندد بالعدوان الإسرائيلي وتدعو إلى وقف الدعم العسكري والمالي لإسرائيل. في لندن، جابت المظاهرات شوارع المدينة، وشارك فيها آلاف الأشخاص، بما في ذلك ناشطون حقوقيون وأعضاء من الجاليات الفلسطينية.
أستراليا:
في أستراليا، نُظمت مظاهرات حاشدة في سيدني وملبورن، حيث تجمع الآلاف للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني والمطالبة بإنهاء الدعم العسكري لإسرائيل. استخدم المتظاهرون وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الصور والفيديوهات التي توثق هذه المظاهرات، مما ساهم في زيادة الضغط على الحكومة الأسترالية لمراجعة سياساتها.
لماذا لم تقوم مظاهرات في الدول العربية على غرار باقي الدول؟
رغم أن قضية فلسطين تُعد من القضايا المحورية في الوجدان العربي، إلا أن التفاعل الشعبي معها يختلف من دولة إلى أخرى ومن فترة زمنية إلى أخرى. عدم قيام مظاهرات واسعة النطاق في بعض الدول العربية، على غرار ما حدث في الدول الغربية، يمكن أن يعزى إلى عدة أسباب، منها:
الأوضاع السياسية والأمنية:
- في العديد من الدول العربية، تعاني الشعوب من أزمات سياسية وأمنية واقتصادية، مما يجعل الاهتمام والتركيز منصباً على القضايا الداخلية بدلاً من القضايا الخارجية.
- في بعض الدول، قد يكون هناك تضييق على حرية التعبير والتجمع، مما يمنع المواطنين من تنظيم مظاهرات والتعبير عن مواقفهم بحرية.
الضغوط الحكومية والقمع:
بعض الأنظمة العربية قد تقوم بقمع المظاهرات أو التحركات الشعبية التي قد تُعتبر تهديداً للاستقرار الداخلي. أي محاولة للتظاهر قد تُقابل بعنف من قبل قوات الأمن.
الخوف من الاعتقال والملاحقة الأمنية يجعل الكثير من المواطنين يترددون في المشاركة في المظاهرات.
الاهتمامات المحلية:
الشعوب في بعض الدول العربية منشغلة بقضاياها المحلية مثل البطالة، الفقر، الفساد، والنزاعات الأهلية، مما يضعف الاهتمام بالقضايا الإقليمية رغم أهميتها.
حكومات عربية خذلت شعوبها:
بعض الحكومات العربية قد تكون لها علاقات وثيقة مع إسرائيل أو مع الدول الداعمة لها، مما يجعلها أقل تحفيزاً للسماح بمظاهرات مناهضة لإسرائيل.
السياسات الخارجية لبعض الدول العربية قد تكون مبنية على التحالفات الدولية التي تتجنب فيها المواجهة المباشرة مع الدول الغربية الداعمة لإسرائيل.
الوعي الإعلامي والتأثير الثقافي:
الإعلام في بعض الدول العربية قد لا يمنح تغطية كافية أو منصفة للأحداث في فلسطين، مما يؤدي إلى ضعف التفاعل الشعبي.
في المقابل، يمكن أن تكون هناك حملات إعلامية موجهة تقلل من أهمية التظاهرات أو تعزز من سياسة الحياد تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
الانقسامات الداخلية:
الانقسامات الداخلية بين الفصائل السياسية والاجتماعية في بعض الدول العربية قد تحول دون تنظيم حركات احتجاجية موحدة لدعم فلسطين.
على الرغم من عدم حدوث مظاهرات كبيرة في بعض الدول العربية، إلا أن هذا لا يعني غياب الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية. فالدعم قد يتجلى بأشكال أخرى مثل التبرعات، النشاط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والضغط على الحكومات بطرق غير مباشرة. الدعم العربي للقضية الفلسطينية مستمر ومُتجذِّر، لكن الظروف المحيطة تؤثر بشكل كبير على كيفية التعبير عنه.
ختاماً
تعكس أحداث طوفان الأقصى الصراع الأعمق بين السرديات المتنافسة في الإعلام، حيث يسعى كل طرف إلى استخدام القوة الناعمة لتشكيل الرأي العام وتوجيهه. أظهرت التجربة أن الكلمة والصورة يمكن أن تكونا أسلحة قوية بيد من يحسن استخدامها، وأن الحقيقة، مهما حاول البعض طمسها، تجد دائماً طريقها إلى الظهور بفضل الإعلام الحر والمستقل. هذا الصراع الإعلامي المستمر يؤكد على أهمية الإعلام كأداة حاسمة في الحروب الحديثة، حيث لا يُحسم الصراع في ميادين القتال وحدها، بل أيضاً في ساحات الإعلام والمعرفة.
واسخلاصاً: يبرز عند السوريين الذين يتابعون هذه الأحداث تساؤلات عديدة، منها:
- لماذا لم تُحْدث مآسي الشعب السوري الأثر ذاته في العالم بالمقارنة مع نتائج أحداث غزة؟
- ألا يكفي استشهاد قرابة مليون ضحية من الأبرياء لأنْ يهزَّ مشاعر مجتمعات العالم؟
- ما هو تأويل انكفاء العالم عن محاسبة الأسد وجرائمه باستعمال السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة التي دمرت مسكن الملايين وشردتهم؟
- ما هي الأسباب وراء ذلك؟ أهو فشل معركة الإعلام في الثورة السورية؟ أم تفكك المعارضة؟ أم بقاء الفتنة سيطرة على الموقف لغايات تتوافق مع المصالح الدولية؟
- ألا يكفي ثلاثة عشر عاماً كي نصحو ونزيل تلك الأسباب مهما كانت، شريطة ألا نحني رقابنا كي نعود كالعبيد لنشارك الطاغية في استبداد ذواتنا؟
وإلى أن نتفق على ايجاد أجوبة عن هذه التساؤلات، يستحسن أن أقول “ولله في خلقه شؤون!!!”