دمشق جَدَّةُ الحَوَاضِر
إذا ما أراد المرء أن يتناول سيرة مدينة موغلة في القدم والعراقة وتوالي الحضارات التي حلت في ضيافتها، فإنه يقع في حيرة من أمره من أين يبدأ من التاريخ أم من الجغرافية، من الثقافة أم من الأدب أم من الفلسفة أم من الدين إنها دمشق شابة تجاوزت العشرة آلاف سنة،وما زالت تزداد تألقاً كمدينة السحر والجمال.
تقع دمشق في الزاوية الجنوبية الغربية من سوريا وتحيط بها المرتفعات البركانية وسهول حوران من الجنوب، وسلاسل جبال القلمون ولبنان الشرقية من الشمال والغرب، والبادية السورية من الشرق، وهي تطل على ضفاف نهر بردى، وتحيط بها بساتين الغوطة وجبل قاسيون وربوة دمشق.
يقوم جزؤها القديم على الضفة الجنوبية لنهر بردى، ويمتد جزء منها على سفوح جبل قاسيون، بينما تنتشر الأحياء الحديثة في الجانبين الشمالي والغربي للمدينة.
تاريخها
هي العاصمة الثقافية والمدينة التاريخية الأبرز والأقدم عالميا لمكانتها المرموقة في مجالات العلم والثقافة والسياسة والفنون والأدب منذ الألف الثالث قبل الميلاد، مثلما تؤكد مراجع تاريخية.
بعد الفتح الإسلامي، أصبحت المدينة مركز الدولة الإسلامية الأموية قبل أن يتحول الاهتمام إلى بغداد بعد سقوط دمشق بأيدي العباسيين وإنهاء حقبة بني أمية. ومن ذلك الوقت, تداول على إدارتها العباسيون والفاطميون والسلاجقة والأيوبيون الذين انطلقوا منها لتحرير جميع البلاد الإسلامية.
ومن دمشق، بدأ صلاح الدين الأيوبي ثورته التي وَحَّد بها المشرق الإسلامي بعدما امتد نفوذه إلى مصر.
خلال الحرب العالمية الأولي (1914-1918) استعملت الحليفتان تركيا وألمانيا المدينة قاعدة لتحركاتهما العسكرية إلى أن استولت عليها قوات الثورة العربية السورية بمساعدة الإنجليز عام 1918.
أُعلنت دمشق في آذار 1920 عاصمةً للحكومة العربية المستقلة برئاسة الملك فيصل الأول, إلا أنها سقطت بأيدي القوات الفرنسية في تموز من نفس العام لتبدأ حقبة الانتداب الفرنسي حتى استقلت سوريا بشكل كامل عن فرنسا عام 1946.
وشهدت المدينة ازدهاراً وتوسعاً عمرانياً كبيرين منذ ذلك الحين خاصة بعد نكبة فلسطين 1948 وحرب عام 1976
معالمها الرئيسية
من معالمها الرئيسية مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في برزة, والبيمارستان النوري, وهو اليوم متحف العلوم والطب العربي, وحمام نور الدين (زنكي) في البزورية, وهو أقدم حمامات دمشق الكثيرة ويعمل حتى اليوم.
وفيها أيضا مدرسة نور الدين حيث ضريحه, والقلعة ذات الأبواب الأربعة التي اتخذها كثير من الحكام مسكنا لهم مثل نور الدين الزنكي, وصلاح الدين الأيوبي, والملك الظاهر بيبرس, وغيرهم من القادة والعلماء.
ومن معالمها الأخرى أول مجمع للغة العربية بالوطن العربي عام 1919، علاوة عن مراكز العلم والمدارس التاريخية, المتحف الوطني, جامعة دمشق, المكتبة الظاهرية, مكتبة الأسد الوطنية, دار الأوبرا السورية, عدد من المراكز الثقافية العربية في مناطق دمشق, سوق الحميدية, الجامع الأموي, كنيسة حنانيا, قصر العظم, سوق مدحت باشا, قلعة دمشق, متحف دمشق الوطني, التكية السليمانية, الكنيسة المريمية, أبواب دمشق.
دمشق في العصر الحديث
عانت دمشق خلال الحرب العالمية الأولى من ضنك العيش نتيجة المجاعة التي اجتاحت البلاد وموجات الهجرة، فضلاً عن كونها مقر الجيش العثماني. وقد سميت تلك الفترة (سفربرلك).
في 30 سبتمبر 1918 انسحبت القوات العثمانية والوالي العثماني من دمشق مؤذنًة بانتهاء عصر سوريا العثمانية.
وفي اليوم التالي وصلتها قوات من جيش الثورة العربية الكبرى، وبعدها بأيام فيصل بن الحسين، الذي نصّب في دمشق يوم 8/ آذار/ 1920 ملكًا على سوريا (التي كانت تعني كامل بلاد الشام) خلال حفل إعلان الاستقلال وإنشاء المملكة السورية العربية غير أن عهد الاستقلال لم يستمرّ طويلاً، إذ دخلت القوات الفرنسية دمشق بعد معركة ميسلون في 24 ايلول 1920، ومن ثمَّ أعلنت دولة دمشق المصغّرة ضمن خطة الانتداب الفرنسي لتقسيم سوريا إلى دويلات. وفي عام 1922 نقلت عاصمة البلاد إلى حمص ضمن الاتحاد السوري، على أن تبقى دمشق عاصمة إقليم دمشق فقط، وهو ما ألغي عام 1925 بعودة دمشق عاصمة الدولة السورية.
في عام 1925 وصلت الثورة السورية الكبرى -ضد الفرنسيين- إلى دمشق، وتحولت الغوطة إلى إحدى معاقلها الرئيسية، ولعلّ أبرز مرحلة في تلك الفترة أحداث 18 تشرين الأول حين استولى الثوار على أحياء الميدان والشاغور، ووصلوا حتى سوق البزورية وقصر العظم مقر مندوبي المفوضيّة الفرنسيّة العليا، وطردوا جميع عناصر الشرطة واستطاعوا الاستيلاء على ما فيها من أسلحة، وبلغ التماس ساحة المرجة، إلا أن قصف المدينة بالمدفعية الثقيلة من قاسيون أجبر المقتحمين على الانسحاب.
في عام 1936 كانت دمشق شرارة الإضراب الستيني، وبعدها انطلقت منها احتجاجات1939 التي أفضت لنزول وحدات الجيش الفرنسي السنغالية واحتلالها ساحات المدينة. خلال الحرب العالمية الثانية، نشبت معركة دمشق عام 1941 والتي أفضت لسيطرة الحلفاء ممثلين بالجيش البريطاني وقوات فرنسا الحرة على المدينة.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اندلعت من دمشق انتفاضة الاستقلال التي شهدت قصف دمشق للمرة الثانية، ونزول قوات بريطانية فيها، وبشكل عام أدت الانتفاضة لنيل الجلاء.
تطورت المدينة على صعيد الخدمات والتخطيط العمراني وزادت المرافق العامة وغدت أكثر حداثة، وبرزت المشاريع المعمارية الضخمة فيها؛ كما أفضت الهجرة من الريف إلى المدينة والنزوح من الجولان وفلسطين إلى نشوء ضواحٍ سكنية ملحقة بدمشق مثل مخيم اليرموك والحجر الأسود.
وصف القدماء والمحدثين لدمشق
قيل لإسحق بن يحيى الختلي — مِن ولاة دمشق ٢٣٥ﻫ: لِمَ سكنت دمشق وفلحت أرضها وأكثرت فيها الغروس من أصناف الفاكهة، وأجريت المياه إلى الضياع وغيرها؟ قال: لا يطيق نزولها إلا الملوك. وقيل له: كيف ذلك؟ قال: ما ظنكم ببلدة يأكل فيها الأطفال ما يأكله في غيرها الكبار؟ وحق لهذا الوالي أن يقول ذلك، فإن دمشق معروفة منذ القديم بأنها بلدة رفاهية يكاد الفقير يعيش فيها عيش الغني إلا قليلاً، ويتفنن أهلها في مآكلهم ومشاربهم وقصفهم ولهوهم.
وصف المقدسي في القرن الرابع مدينة دمشق بأنها مصر الشام، ودار الملك أيام بني أمية، وثَمَّ قصورهم وآثارهم وبنيانهم خشب وطين، أكثر أسواقها مغطاة، ولهم سوق على طول البلد مكشوف حسن. لا ترى أحسن من حمَّاماتها ولا أعجب من فواراتها، ولا أحزم من أهلها، ومنازلها ضيقة وأزقتها غامة، تكون نحو نصف فرسخ في مثله في مستوى، والجامع أحسن شيء للمسلمين اليوم، ولا يُعلَم لهم مال مجتمع أكثر منه.
وصف ابن جبير في القرن السادس هذه المدينة فقال: «إنها بلد ليس بمفرط الكبر، وهو مائل للطول، وسككه ضيقة مظلمة وبناؤه طيب وقصب، طبقات بعضها فوق بعض، ولذلك كثيرًا ما يسرع الحريق إليه، وهو كله ثلاث طبقات فيه من الخلق ما تجمعه ثلاث مدن؛ لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقًا».
وصفها ياقوت في القرن السادس أيضًا قال: «ومن خصائص دمشق التي لم أرَ في بلد آخر مثلها، كثرةُ الأنهار بها وجريان الماء في قنواتها، فقلَّ أن تمر بحائط إلا والماء يخرج منه في أنبوب، إلى حوض يشرب منه ويستقي الوارد والصادر، وما رأيت بها مسجدًا ولا مدرسة ولا خانقاهًا إلا والماء يجري في بركة في صحن هذا المكان، والمساكن بها عزيزة لكثرة أهلها والساكنين بها وضيق بقعتها، ولها ربض دون السور محيط بأكثر البلد يكون في مقدار البلد نفسه».
وصفها شيخ الربوة — وهو ابن دمشق — أوائل القرن الثامن فقال: «إنها مقسومة ثلاث طبقات؛ قسم مبثوث العمارة في غوطتها، لو جُمِع لكان مدينة عظيمة، ما بين جواسق وقصور وقاعات وإصطبلات وطواحين وحمَّامات وأسواق ومدارس وترب وجوامع ومساجد ومشاهد غير القرى والضياع الأمهات، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد بغيرها أصلًا. والقسم الثاني تحت الأرض منها مدينة أخرى من متصرفات المياه والقنى والجداول ومسارب ومخازن وقنوات تحت الأرض كلها، حتى لو حفر الإنسان أينما حفر من أرضها وجد مجاري المياه تحته مشتبكة طبقات يمنة ويسرة شيئًا فوق شيء. والقسم الثالث سورها وما فيه وحوله من المعمور، وكأنما هي في وصفها طائر أبيض في مرج أخضر، يترشف ما يصل إليه من الماء أولاً فأول».
وصفها ابن فضل الله العمري الدمشقي في القرن الثامن فقال: «إن غالب بنائها بالحجر، ودورها أصغر مقادير من دور مصر لكنها أكثر زخرفة منها، وإن كان الرخام بها أقل دائمًا، فهو أحسن أنواعًا، وإن عناية أهل دمشق بالمباني كثيرة، ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به وتحسن بأوضاعه، وأجلُّ حاضرتها ما هو بجانبها».
وقال ابن بطوطة في هذا القرن أيضًا: «إن أهل دمشق يتنافسون في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد».
ووصفها القلقشندي أوائل القرن التاسع فقال: «إنها مدينة حسنة الترتيب، جليلة الأبنية ذات الحواجز، بُنِيت من جهاتها الأربع، وبها الجوامع والمدارس والخوانق والرُّبط والزوايا والأسواق المرتبة والديار الجميلة المذهبة السقف المفروشة بالرخام المنوَّع، ذات البرك والماء الجاري، وربما جرى الماء في الدار الواحدة في أماكن منها، والماء مُحكم عليها من جميع جهاتها بإتقان محكم».
وعرض لوصفها الظاهري في القرن العاشر بقوله: «إنها مدينة حسنة إلى الغاية، تشتمل على سور محكم وقلعة محكمة، وبها طارمة مشرفة على المدينة فيها تخت المملكة مغطى لا يُكشَف إلا إذا جلس السلطان عليه، وبها جوامع حسنة ومدارس وأماكن مباركة وشوارع وأسواق وحمَّامات وبساتين وأنهر وعمائر تحير الواصف، وبها مارستان لم يُرَ في الدنيا مثله قط، وأما جامع بني أمية فهو أحد العجائب الثلاث، ولقد رأيت في بعض التواريخ أن عجائب الدنيا ثلاث: منارة الإسكندرية، وجامع بني أمية، وحمَّام طبرية، أما الميدان الأخضر وما به من القصور الحسنة فعجيبة من العجائب، وأما مفترجات دمشق فيعجز الواصف عن حصرها».
هذا قليل مما قاله الأقدمون في وصف دمشق.
وصف الأفرنج لدمشق
أما الأفرنج فقدأنصفت بعض أقلامهم دمشق وأشادوا بها، وهم كُثرٌ ومنهم:
الرحّالة الفرنسي «فولني» الذي زارها حوالي سنة ١٧٨٨م، ومما قاله فيها: إن العرب لا يذكرون دمشق إلا معجبين بها، ولا يفتئون يمتدحون خضرة حدائقها، ولطافة نسيمها، وكثرة فاكهتها وتعدد أصنافها، ووفرة مياهها العذبة، وصفاء فواراتها وعيونها، وهي إلى هذا متفردة بوجود أماكن للنزهة في الخلاء وسط الريف والفلاة، وما من مدينة كدمشق تحوي قنوات وسلسبيلات.
وقال «موريس باريس»: إن دمشق عتبة البادية، يجتمع بها على الدوام مائة ألف بدوي إلى ثلاثمائة ألف حضري مسلم، وفيها حلم قديم ينبعث من تحت ظلال أشجارها على شاطئ التيار السريع، وإن دمشق لتستهوي قلوبنا فَتَرق لشيخوختها وفتوتها، وهي تبدي ما أصابها من حوادث الأيام وما لها من سحر خالد، ضامة بين جوانبها تلك الآكام الجرداء. دمشق موطن من مواطن الفكر، ومعهد من معاهد الشعر، وقصر من قصور الروح، فيها يجتمع الغرب والشرق، لا يحاول كلٌّ منهما أن يصرع صاحبه، بل يجنح إلى التفاهم معه والامتزاج به … قال: ولقد حدثتني راهبة شريفة من راهباتنا أن الأسر الإسلامية على غاية من الأخلاق العالية، وأن الإسلام دين يأمر بأمور صالحة.
قال رامبر السويسري: إن دمشق في نظر سكان البادية ومن ينزل في أطرافها الأربعة التي تصهرها الشمس جنة ذات مياه دافقة، وظلال وارفة، وثمار غضة جَنِية.
وصف الشعراء لدمشق
وقد بالغ الشعراء وأكثروا في وصف طبيعتها، وربما بلغ ما مُدِحت به مجلداً برأسه، فمنهم من قال مخاطباً لها:
ولكم أحدث عنك من لاقيته وجميع من سمع الحديث يصدق
والأرض في عرض وطول دائماً لم يحوِ مثلك غربها والمشرق
وفيها يقول البحتري في قصيدته للخليفة المتوكل التي مطلعها:
العيش في ليل «داريا» إذا بردا والراح نمزجها بالراح من «بَردَى»
إلى أن قال:
أما دمشق فقد أبدت محاسنها وقد وفى لك مطربها بما وعدا
إذا أردتَ ملأت العين من بلد مستحسن وزمان يشبه البلدا
يمسي السحاب في أجبالها فرقاً ويصبح النبت في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا واكفاً خضلاً أو يانعًا خضرًا أو طائرًا غردا
كأنما القيظ ولى بعد جيئته أو الربيع دنا من بعد ما بَعُدا
ومن أجمل ما قيل في مدحها قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي، ومنها:
قُمْ ناجِ جِلِّق وانشد رسم مَن بانوا مشت على الرَّسم أحداث وأزمان
هذا الأديم كتاب لا كِفاء له رثُّ الصحائف باقٍ منه عُنوان
الدين والوحي والأخلاق طائفة منه وسائره دنيا وبهتان
ما فيه إن قلبت يومًا جواهره إلا قرائح من «راد» وأذهان
لولا دمشق لما كانت «طلَيْطِلة» ولا زهت بني العباس «بغدان
مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المُصَلَّى أو المحراب مَروان
تغيَّر المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرارٌ وعِبدان
فلا الأذان أذانٌ في منارته إذا تعالى ولا الآذان آذان
آمنتُ بالله واستثنيت جنته دمشق رَوْحٌ وجنات وريحان
قال الرفاق وقد هَبَّت خمائلها الأرض دار لها «الفيحاء» بستان
جرى وصفق يلقانا بها «برَدَى» كما تَلَقاك دون الخلد رضوان
دخلتها وحواشيها زُمُرُّدة والشمس فوق لجين الماء عِقْيان
والحَورُ في «دُمَّر» أو حول «هامتها» حُور كواشف عن ساق وولدان
و«ربوة» الوادِ في جلباب راقصة الساق كاسيةُ والنحر عُريان
والطير تصدح من خلف العيون بها وللعيون كما للطير ألحان
ويقول نزار قباني:
كتب الله أن تكوني دمشقاً بكِ يبدأ وينتهي التكوينُ
علّمينا فقه العروبة يا شا مُ فأنتِ البيان والتبيينُ
إن نهر التاريخ ينبع في الشام أيلغي التاريخَ طرحٌ هجينُ؟
وفي قصيدة أخرى لنزار يقول فيها:
ها هي الشام بعد فرقة دهر أنهر سبعة وحور عين
آه يا شام كيف أشرح ما بي وأنا فيك دائما مسكون
يا دمشق التي تفشى شذاها تحت جلدي كأنه الزيزفون
قادم من مدائن الريح وحدي فاحتضني كالطفل يا قاسيون
أهي مجنونة بشوقي إليها هذه الشام أم أنا المجنون؟