مقدمة
من أراد الغوص في بطون كتب التراث العربي للوقوف عند القامات السامقة والمميزة التي ساهمت بتشييد صروح الحضارة الإنسانية منذ قرون خلت، سيدهش ويصاب بالذهول لما يقع عليه من شخصيات سواء من ناحية الكم أو المضمون والمحتوى، وذلك بسبب شح الأدوات المعرفية والتقنيات التي كانوا يفتقرون إليها آنذاك.
فنحن في هذه الأيام نحصل على فيض من المعلومات المتنوعة بساعات قليلة ودون أن نبذل ذلك الجهد، وإنما يكفي أن نضغط زراً ما كي تتدفق المعلومات، أما أجدادنا فكانوا يتجشمون عناء السفر من أجل الحصول على معلومة واحدة، ومع ذلك صنف بعضهم مئات الكتب التي نعجز الآن عن مضاهاتها ومن ذلك على سبيل الذكر لا الحصر العلامة السيوطي الذي ناهزت كتبه الستمئة كتابا.
وثمة أمر آخر يثير الانتباه والعجب في سير وترجمات علمائنا القدماء وهو أنهم كانوا يتبحرون في علوم شتى ويضطلعون بها، وكأن أوقاتهم وأيامهم تختلف عن أيامنا في طولها وقصرها، فعندما تقرأ مثلا أن ابن سينا قرأ وتفقه وصنف وألف في الطب والمنطق والأدب والشعر والرياضيات… لا تكاد تصدق كيف جمع بين هذه العلوم قاطبة ،وبرع فيها، وكذلك سار على الطريق ذاتها الفارابي وابن النفيس والقائمة تطول… ويكاد يكون هذا النهج في التعاطي مع العلوم عُرفا وعادة وتقليداً ونعم هذه الظاهرة.
ولو انتقلنا إلى عصرنا الحديث لوجدنا أن الاختصاصات قد قزمت المعرفة الشاملة، وصار أصحاب الأقلام حبيسي زاوية لا يكادون ينفكون عنها، حتى بتنا نرى أن الاختصاص تشرذم وتشظى إلى اختصاصات، فعالم الطب يعالج عضوا فقط من أعضاء الإنسان كالعين أو الأذن أو البطن….والباحث في اللغة العربية، مختص بالنحو، أو الشعر وهكذا…
وقلما نجد في العصر الحديث من يجمع بين اختصاصين، وإذا ماوجدنا فإننا نشير إليه بالبنان، وتشرئب إليه العينان.
ومن الشخصيات النادرة في زماننا التي استطاعت أن تجمع بين أطراف العلم وتسير على خطى وسنن علمائنا القدماء بل ربما بزّت بعضهم، الدكتور عبد الكريم اليافي. وقد حرصت على تذكير الجمهور العربي بذا الرجل المبدع من خلال منصة مآلات.
نشأته وحياته
ولد عبد الكريم اليافي في مدينة (حمص) سنة 1919م، وتلقى دروسه الابتدائية في مدارسها الرسمية، وكان خلال ذلك يتردد إلى أئمة هذه المدينة فيدرس عليهم القرآن والحديث وقواعد اللغة العربية.
وفي سنة 1935م نال شهادة الدراسة الثانوية -فرع الرياضيات-، فكان الأولَ في سورية. ثم انتسب إلى كلية الطب في (جامعة دمشق)، فدرس فيها سنتين، ثم توقَّف عن متابعة الدراسة فيها بسبب إيفاده إلى فرنسا، فسافر أواخر سنة 1937م والتحق بـ(جامعة السوربون) ودرس الرياضيات والعلوم الطبيعية والفيزياء، ونال الإجازة في العلوم الرياضية والطبيعية سنة 1940م. وحالت الحرب العالمية الثانية دون عودته إلى الوطن، فانتسب إلى (كلية الآداب) بـ(جامعة السوربون) ودرَس علم المنطق وعلم النفس وعلم الاجتماع والأخلاق، وحصل على إجازة الآداب سنة 1941م، ثم الدكتوراه في الفلسفة سنة 1945م.
ولما عاد اليافي إلى سورية عُين مدرّسًا في ثانويات حمص، ثم انتقل سنة 1947م إلى دمشق وانضم إلى هيئة التدريس في (كلية الآداب – قسم الفلسفة) بجامعة دمشق، فدرَّس في هذه الكلية – وفي غيرها من كليات الجامعة – علمَ الاجتماع، وعلم الجمال، وفلسفة العلوم، والمنطق، وتاريخ العلوم، وأصول تدريس الفيزياء والكيمياء، وعلم النفس، والإحصاء الحيوي.
أبرز مشاركاته
وفي سنة 1974م سُمّي اليافي خبيراً أولَ في علم السكان لمركز الديمغرافية في معهد العلوم الاجتماعية بالجامعة اللبنانية في بيروت، وظل يشغل هذا المنصب سنتين، عاد بعدها إلى جامعة دمشق. وعُين رئيسًا لهيئة (معجم العماد الموسوعي في اللغة والعلوم والفنون والأعلام).
خلال تولي الدكتور اليافي العديد من المناصب الهامة، كانت له زيارات كثيرة زار فيها العديد من الدول ممثلاً سوريا بحضوره المتميز بالحصافة والدبلوماسية المحفوفة بالأدب والتألق. وهذه بعض الصور التي توثق ذلك.
انتُخب الدكتور عبد الكريم اليافي عضوًا عاملًا في
في 2 أيلول 1976م خلفًا للدكتور سامي الدهان، وصدر مرسوم تعيينه في 30 كانون الأول 1976م، وأقيمت حفلة استقباله بتاريخ 5 أيار 1977م.
شارك الدكتور اليافي أعضاء المجمع في أعمال (لجنة ألفاظ الحضارة)، و(لجنة المخطوطات وإحياء التراث)، و(لجنة اللغة العربية والأصول)، و(لجنة المصطلحات)، و(لجنة تنسيق المصطلحات وتوحيدها)، و(لجنة مطبوعات المجمع ومخطوطات دار الكتب الظاهرية)، و(لجنة مشروع تعريب الرموز العلمية للمرحلة الجامعية في مواد الرياضيات والفيزياء والكيمياء.
• توفي الدكتور عبد الكريم اليافي يوم السبت في 12 شوال 1429هـ الموافق 11 تشرين الأول 2008م.
أهم آثار د. اليافي
أولًا: الكتب
- 1. تمهيد في علم الاجتماع، الجامعة السورية، دمشق، ط3، 1957م، جامعة دمشق، ط4، 1964م.
- 2. كتاب في علم السكان، دمشق، 1959م، مطبعة جامعة دمشق، 1966م، 1991م.
- 3. المجتمع العربي ومقاييس السكان، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1963م، دمشق، ط2، 1966م.
- 4. دراسات فنية في الأدب العربي، جامعة دمشق، 1963م، 1972م، مكتبة لبنان ناشرون، 1996م.
- 5. تقدم العلم: الفيزياء الحديثة والفلسفة، دمشق، 1964، دار طلاس، دمشق، 2004م.
- 6. دراسات اجتماعية ونفسية، مطبعة جامعة دمشق، 1964م.
- 7. شموع وقناديل في الشعر العربي، جامعة دمشق، 1964م.
- 8. العلم والنزعة الإنسانية (ترجمة)، دمشق، 1964م.
- 9. فصول في المجتمع والنفس، دمشق، 1974م.
- 10. جدلية أبي تمام، دار الجاحظ للنشر، بغداد، 1980م.
- 11. معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، دمشق، 1982م.
- 12. معجم مصطلحات التنمية الاجتماعية والعلوم المتصلة بها، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1983م.
- 13. بدائع الحكمة: فصول في الجمال وفلسفة الفن، دار طلاس، دمشق، 1999م.
- 14. شجون فنية: بحوث في علم الجمال التطبيقي، دار طلاس، 2000م.
- 15. الشيرازيون الثلاثة ومقالات أخرى، المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، 2000م.
- 16. حصاد الظلال (ديوان شعر)، وزارة الثقافة، دمشق، 2001م.
- 17. حوار البيروني وابن سينا، دار الفكر، دمشق، 2002م.
- 18. مباهج اللغة والأدب: دراسات لغوية أدبية علمية، وزارة الثقافة، دمشق، 2003م.
ثانياً: المقالات
نشر الدكتور عبد الكريم اليافي قرابة 70 مقالًا في (مجلة التراث العربي)، و(مجلة آفاق الثقافة والتراث)، و(مجلة الآداب)، و(مجلة الآداب العالمية)، و(مجلة الأديب)، و(مجلة الثقافة-مدحة عكاش)، و(مجلة المعرفة)، و(مجلة عالم الفكر).
مقتطفات من أعماله
نقتطف من كتابه دراسات فنية في الأدب العربي تحت عنوان “الجمال” الآتي :
من صفات الجمال التي حللها الفيلسوف “كانط” في كتابه” نقد الحكم ” أنه موضوع إمتاع خالص، ويتضح معنى ذلك عند التفريق بين الشيء الجميل والشيء الشهي أو اللذيذ، وبينه وبين الشيء الجيد أو النافع.
فقد نحكم على شيء فنقول شهي أو لذيذ إذا أمكن أن يجلب لذة وسروراً، وقد نحكم عليه فنقول جيد أو نافع إذا استطاع أن يسد عوزاً أو يقضي مأرباً، ولكنا في حكمينا هذين إنما نصدر عن مطمع أو لبانة فليس كلا الحكمين مبرأ ولا نزيهاً؛ لأن اللذيذ والنافع يلائمان رغباتنا ويرضيان ميولنا، بيد أن الحكم الصادر عن الذوق الفني مجرد من هذه الشوائب حاصل في حالة تأمل محض.
قد نتوق إلى قطف الثمر الشهي للتذوق وإلى هصر الزهر العبق للثم، ولكنا إذ ذاك أو أغراض غير مبرئين من أوشاب الرغبات، وبالعكس يكون حكمنا نزيهاً إذا نظرنا إلى صورة رسمتها يد صناع تمثل ثمراً أو زهراً تمثيلاً فنياً فتملّينا هذه الصورة وآثرنا صنعتها على ما دلت عليه في الطبيعة.
خلاصة القول
كان الدكتور اليافي منهلاً دفاقاُ بالمعرفة الواسعة في شتى المجالات، ومن ابداعه أنه قدَّم معاصرة لمخزون أجيال السَلَف لمعايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة وتسخيرها لخدمة الإنسان ورقيّه.
جسد هذا النطاسي الجليل توارى التراب، أما منهل معرفته ما زال ينساب في جداول تروي العقول العطشى كي يستمر تدفق نسغ المعرفة في أجيال الخَلَف.