المشهد السوي
في ظل الظروف المعقدة التي مرت بها سوريا خلال العقد الأخير، أصبح العيش المشترك موضوعاً ملحاً لاستعادة التماسك الاجتماعي وبناء مستقبل مستقر. في نقاشاتي مع شخصيات بارزة مثل د. سمير التقي، الأستاذ بهنان يامين، والأستاذ ياسر أشقر، برزت فكرة محورية أكدها د. التقي، وهي الحاجة الملحة لإصلاح التصدعات التي أصابت مفهوم التعايش المشترك. هذه التصدعات لم تكن وليدة اللحظة، بل تراكمت على مدى عقود من الحكم الشمولي الذي أحكم قبضته على سوريا لأكثر من ستين عاماً. ومع تعمق الأزمة، استغل نظام بشار الأسد هذا العطب كسلاح لزرع الفتن وتقسيم المجتمع، مما جعل مفهوم التعايش المشترك يبدو كحلم بعيد المنال، بعد أن كان واقعاً معاشاً.
اليوم، يعيش معظم السوريين حالة من الشك تجاه إمكانية تحقيق العيش المشترك، وهو الأمر الذي يُعدّ حجر الزاوية لبناء مجتمع يضم جميع أطياف الشعب السوري، متجاوزين الانقسامات العرقية والدينية والسياسية. في الحقيقة، من خلال النقاشات المستمرة مع مختلف الأطياف والمستويات المجتمعية خلال مدة الثورة، ظهرت بعض الجدالات الإشكالية حول الفرق بين مفاهيم العيش المشترك، الديمقراطية، والمواطنة، وهو ما دفع “منصة مآلات” لتسليط الضوء على هذا الموضوع ومحاولة تقديم إضاءة جديدة لفتح آفاق التفاهم واستعادة التماسك المجتمعي.
الفرق بين العيش المشترك والديمقراطية والمواطنة
-
العيش المشترك:
التعايش يعني في اللغة: العيش على المودة والألفة، أما كمصطلح: هو حالة العيش المشترك المرهون بتوفر العلاقة الودية بين أفراد الوطن مع احترام خصوصية كل مجموعة منهم فكرياً ودينياً وعرقياً مهما اختلفت هذه الخصوصية ما دامت هويتها الأساسية هي المواطنة. فما دام المواطن يمتلك القدرة على التفكير والنظر في أمور الحياة، فلا مندوحة من اختلاف الفكر والمواقف ووجهات النظر . وتعتبر التعددية مبدأً مشروعاً لأنه مكنون في طبائع البشر وفي اختلاف عاداتهم. وهذا الأمر حرصت الشرائع السماوية والوضعية على التعامل معه وفق قواعد عامة مشتركة يصونها -عادة- دستور وقوانين الدولة.
إن تحقق التعايش السلمي والاحترام المتبادل بين مختلف الأطياف الاجتماعية في المجتمع، يكون الديدن الذي يضبط العلاقات بين الأفراد، ويهدف إلى تحقيق بيئة اجتماعية متوازنة ومستقرة.
-
الديمقراطية:
تعريف الديمقراطية
بإيجاز، الديمقراطية تعني حكم الشعب من أجل الشعب. وأصل المصطلح إغريقي، وهو يعني “سلطة الشعب”. ويتحقق بوجود نظام حكم يستند إلى مبدأ أن السلطة تنبع من الشعب وله الحق في ممارستها بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال انتخاب ممثلين عنه.
- الخصائص الأساسية للديمقراطية:
- سيادة الشعب: الشعب هو مصدر كل السلطات، وله الحق في تحديد مصيره السياسي.
- الحكم الرشيد: يتم اتخاذ القرارات السياسية من خلال حوار مفتوح وشفاف، مع ضمان حقوق الأقلية.
- الانتخابات الحرة والنزيهة: يتم إجراء انتخابات دورية لانتخاب ممثلي الشعب، ويضمن القانون حرية التعبير والتجمع والتنافس الانتخابي العادل.
- فصل السلطات: يتم تقسيم السلطات إلى تشريعية وقضائية وتنفيذية، بهدف تحقيق التوازن والحد من استبداد السلطة.
- حماية حقوق الإنسان: تضمن الديمقراطية حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس أو الرأي السياسي.
- المساواة أمام القانون: الجميع متساوون أمام القانون، ولا يوجد أي تمييز على أساس أي نوع من أنواع التمييز.
أنواع الديمقراطية
- الديمقراطية المباشرة: يشارك الشعب مباشرة في اتخاذ القرارات السياسية، مثل الاستفتاءات.
- الديمقراطية غير المباشرة (النيابية): ينتخب الشعب ممثلين عنه يتولون اتخاذ القرارات نيابة عنهم.
أهمية الديمقراطية:
- ضمان الحريات: الديمقراطية هي أفضل ضمان للحريات الأساسية للإنسان.
- التنمية المستدامة: تساهم الديمقراطية في تحقيق التنمية المستدامة من خلال الشفافية والمساءلة.
- الاستقرار السياسي: تساهم الديمقراطية في تحقيق الاستقرار السياسي من خلال الحوار والتفاهم.
- العدالة الاجتماعية: تسعى الديمقراطية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال توزيع عادل للثروة والفرص.
-
المواطنة
المواطنة: ركيزة أساسية لبناء المجتمعات، لأنها هي العلاقة القانونية والسياسية التي تربط الفرد بدولة معينة، مما يمنحه حقوقاً وواجبات محددة. وهي أكثر من مجرد جنسيّة لكونها تعكس الانتماء إلى مجتمع معين والمشاركة في بناء مستقبله.
أركان المواطنة:
- العنصر المدني: يشمل الحقوق والحريات الأساسية كالحق في الحياة، الحرية الشخصية، ملكية الممتلكات، والمساواة أمام القانون.
- العنصر السياسي: يتعلق بالمشاركة في الحياة السياسية، كحق التصويت والترشح للانتخابات، وتولي المناصب العامة.
- العنصر الاجتماعي: يرتكز على الشعور بالانتماء والولاء للوطن، والمساهمة في تطوير المجتمع.
أهمية المواطنة:
- التماسك الاجتماعي: تعمل المواطنة على توحيد المجتمع وتقوية الروابط بين أفراده.
- الاستقرار السياسي: تساهم في بناء مجتمعات مستقرة وديمقراطية.
- التنمية المستدامة: تشجع المواطنة على المشاركة في عملية التنمية وبناء مستقبل أفضل.
- حماية الحقوق: تضمن المواطنة حماية حقوق الأفراد وحرياتهم.
- الحق في الحياة.
- الحرية الشخصية
- المساواة أمام القانون
- حرية الرأي والتعبير
- حرية التجمع والتظاهر السلمي
- حق التصويت والترشح
- حق التعليم
- حق العمل
- حق الحصول على الرعاية الصحية
تحديات المواطنة في العصر الحديث:
- الهوية المتعددة: مع تزايد الهجرة والتنوع الثقافي، يواجه مفهوم المواطنة تحديات في تحديد الهوية الوطنية.
- التطرف: يشكل التطرف والإرهاب تهديداً للمواطنة ويهدد التماسك الاجتماعي.
- تراجع المشاركة السياسية: يعاني العديد من المجتمعات من تراجع المشاركة السياسية، مما يؤثر على جودة الحياة الديمقراطية.
تفكك العيش المشترك في سوريا اليوم:
كما ذكرنا آنفاً، منذ بداية الأزمة في سوريا، تفكك مفهوم العيش المشترك بشكل ملحوظ نتيجة السياسات القمعية التي اتبعها نظام الأسد ضد الشعب. بدلاً من تبني سياسة تشمل جميع السوريين، لجأ النظام إلى نشر الفتنة الطائفية بين مختلف الطوائف والأقليات الدينية، مما ساهم في تفتيت بنية المجتمع. هذه السياسات ساهمت في إشعال العداوة بين المكونات المختلفة، مما أدى إلى فقدان الثقة بين أفراد المجتمع السوري.
من بين الأدوات التي استخدمها النظام السوري لتعزيز هذا التفكك، كان ترويج الدعاية التي تزرع الخوف بين مختلف الطوائف، بالإضافة إلى استغلال النخب السياسية والاجتماعية لترسيخ النفوذ والسيطرة على مؤسسات الدولة. تم تهجير النخب المجتمعية والمعارضين، مما أدى إلى إفراغ سوريا من العديد من الشخصيات الوطنية التي كانت قادرة على قيادة المجتمع نحو العيش المشترك السلمي.
الأدوات اللازمة لنشر مبادئ العيش المشترك:
- التعليم والتوعية:
يجب أن يكون التعليم أحد الأدوات الأساسية في تعزيز مفاهيم العيش المشترك. المناهج الدراسية يجب أن تُركز على قيم التعددية، والتسامح، والمواطنة، ليكون الجيل الجديد قادراً على فهم أهمية احترام التنوع.
- إعادة بناء الثقة بين الطوائف:
يتطلب العيش المشترك إعادة بناء الثقة بين مختلف المكونات السورية. يمكن تحقيق ذلك عبر فتح قنوات الحوار والتعاون بين زعماء الطوائف والمجتمعات المحلية (مصدر 5).
- تعزيز المجتمع المدني:
يجب دعم منظمات المجتمع المدني لتكون وسيطاً بين الحكومة والمواطنين، وداعماً لنشر ثقافة التعايش السلمي والتعاون بين الأطياف المختلفة.
- دور نخب المعارضة الوطنية:
تقع مسؤولية نشر الوعي بأهمية العيش المشترك على عاتق نخب المعارضة السورية. يجب أن يتبنى هؤلاء القادة الوطنيون مبادئ الوحدة الوطنية ونشر قيم التسامح والتعاون عبر برامج إعلامية وتوعوية متخصصة.
خارطة طريق تحقيق العيش المشترك بين السوريين
- مرحلة المصالحة الوطنية بما يتوافق مع ثوابت الثورة السورية:
يجب أن تكون المصالحة الوطنية بين مختلف الفئات السورية الخطوة الأولى لتحقيق العيش المشترك. يشمل ذلك فتح قنوات الحوار بين كل أطراف المعارضة وبعض الشرفاء من المؤثرين على الحكومة، وبين الطوائف المختلفة لضمان الاستقرار الاجتماعي.
- مرحلة إعادة بناء الثقة المجتمعية:
يجب التركيز على إعادة بناء الثقة بين السوريين، سواء في الداخل أو الخارج، من خلال برامج توعوية وندوات مشتركة تسهم في تعميق الفهم المتبادل بين الجميع.
- مرحلة توسيع دعم النخب في المغتربات:
السوريون في الخارج يلعبون دوراً حاسماً في نقل قيم العيش المشترك من خلال نشاطاتهم في مجتمعاتهم الجديدة. يتطلب الأمر تفعيل دورهم في دعم الحوار الوطني وتقديم رؤى تسهم في تحقيق الاستقرار.
- مرحلة بناء المؤسسات الديمقراطية:
يجب أن تكون هذه المرحلة الأخيرة، حيث يتم بناء مؤسسات ديمقراطية تضم كافة مكونات المجتمع على أسس من العدل والمساواة، لضمان استدامة العيش المشترك في المستقبل.
خلاصة القول:
يجب الخروج من حالة ” الخطوة بين العجز والإرادة”، لأنَّ العيش المشترك في سوريا يتطلب جهداً جماعياً لإعادة بناء الثقة والروابط الاجتماعية بين مختلف مكونات المجتمع السوري. تجاوز الأزمة الراهنة يتطلب منا تبني قيم التسامح، والتعاون، وتعزيز المجتمع المدني، لضمان استدامة العيش المشترك وتحقيق السلام والازدهار لسوريا. يجب أن يكون التعليم، والحوار، والمصالحة الوطنية جزءاً أساسياً من هذه العملية لضمان النجاح على المدى الطويل.