المقدمة
شهدت الأزمة السورية تطوراً في المواقف والسياسات المختلفة التي اتخذتها الأطراف الإقليمية والدولية، حيث برزت ثلاث لاءات أساسية حول التعامل مع النظام السوري. جاءت هذه اللاءات من كل من النظام السوري وحليفته إيران، والدول الأوروبية، والولايات المتحدة، وكانت تمثل نقاطاً محورية شكلت مسار الأزمة وأثرت في علاقات الدول مع سوريا. فما أسباب ظهور هذه اللاءات؟ وكيف تفاعلت مع بعضها لتخلق ديناميات صدامية زادت من تعقيد الأزمة السورية؟
خلفيات ولادة اللاءات الثلاث
- لاءات الأسد وإيران: تمسك النظام السوري وإيران بمواقف صارمة تجاه التدخل الأجنبي وتغيير النظام، رافضين أي تسوية تتضمن تنازلات سياسية كبيرة أو تمس النظام الحالي.
- اللاءات الأوروبية: تضمنت رفض التطبيع الكامل مع دمشق، وفرض العقوبات الاقتصادية، واشتراط تحقُّق تغييرات سياسية ملموسة قبل المشاركة في إعادة الإعمار.
- اللاءات الأمريكية: اتسمت بالموقف الصارم الذي يشدد على عدم رفع العقوبات وعدم المساهمة في إعادة الإعمار طالما بقي الأسد في السلطة، مع التأكيد على أن الحل السياسي يجب أن يكون وفقاً للقرارات الدولية.
تباينت مواقف الأطراف بين التمسك بــــ (لاءآتها) ومحاولات تعديلها مع تعقد الأزمة. كانت اللاءات بمثابة خطوط حمراء تتصادم عند كل محاولة للتفاوض أو إقرار تسوية سياسية، مما جعل المواقف أكثر تصلباً مع مرور الوقت.
التحولات الأوروبية المفاجئة تجاه الأزمة السورية
في خطوة غير مسبوقة، نشرت مجلة “المجلة” تقريراً يعرض وثيقة أوروبية سرية توضح تحولاً ملحوظاً في موقف الاتحاد الأوروبي تجاه النظام السوري. جاءت الوثيقة كنتيجة لإعادة تقييم أوروبية شاملة للسياسات المطبقة منذ اندلاع الحرب السورية، في ظل التطورات الإقليمية الأخيرة، لا سيما تزايد أعداد السوريين العائدين إلى بلادهم إثر تصاعد التوترات بين إسرائيل وحزب الله.
وفقاً لما ورد في الوثيقة التي اطلعت عليها “المجلة“، قرر الاتحاد الأوروبي التخلي عن “اللاءات الثلاث” الرئيسية التي كانت تُعرقل أي تقارب مع دمشق. هذه اللاءات تشمل:
- لاء التطبيع: منعت السياسات الأوروبية السابقة أي شكل من أشكال التطبيع الرسمي مع النظام السوري، شرطاً لتحقيق تغييرات سياسية واسعة النطاق في البداية. إلا أن الوثيقة الأوروبية الجديدة توصي بتخفيف هذا الشرط، إذ ترى أن الحوار المباشر قد يكون السبيل الأجدى لدفع مسيرة الاستقرار في سوريا.
- لاء رفع العقوبات: كانت العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا أحد أهم أدوات الضغط التي استخدمها الاتحاد الأوروبي لفرض تغيير سياسي. لكن في ضوء الأوضاع الإنسانية المتدهورة والحاجة الماسة لدعم المدنيين، توصي الوثيقة بالبدء في دراسة تدريجية لرفع العقوبات عن بعض القطاعات الإنسانية الحيوية، وتسهيل دخول الإمدادات والمواد الأساسية لتخفيف الأزمة.
- لاء إعادة الإعمار: اشترطت أوروبا لسنوات استبعاد أي مشاركة في إعادة إعمار سوريا، لكن الوثيقة الجديدة تعتبر أن دعم إعادة تأهيل البنية التحتية أصبح ضرورة استراتيجية لضمان استقرار المنطقة ككل. تتناول الوثيقة أيضاً أهمية مشاركة الاتحاد الأوروبي في مشاريع إعادة التأهيل، وتحديداً في المناطق التي تشهد عودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين من لبنان، بما يعزز الجهود الأوروبية في التعامل مع ملف اللاجئين ويقلل من تدفق الهجرة نحو القارة.
تفصّل الوثيقة الأوروبية خطوات ملموسة لبدء التنفيذ، من بينها تعيين مبعوث أوروبي خاص لسوريا تكون مهمته الانخراط بشكل مباشر مع دمشق، والعمل على تنسيق سياسات العودة الطوعية للاجئين بالتعاون مع المؤسسات الأممية والدول المعنية. هذه الخطوة، التي تشارك فيها إحدى الدول العربية، تمثل علامة فارقة في التوجه الأوروبي، حيث سيعقد هذا المبعوث اجتماعات مع المسؤولين السوريين للتوصل إلى خطة عودة مستدامة، وتعزيز الاستقرار الاجتماعي في المناطق المستهدفة.
وفي ظل عبور أعداد متزايدة من السوريين واللبنانيين إلى سوريا، تعتبر الوثيقة الأوروبية أن تعزيز الدعم الأوروبي للمساعدات الإنسانية، بالتوازي مع توفير الظروف الأساسية للاجئين العائدين، هو خطوة لا يمكن تجاهلها. فالوثيقة تشير إلى أن الأزمات المستجدة في لبنان، والانفجار الأخير للتوترات الإقليمية، يفرض على الاتحاد الأوروبي النظر بجدية إلى مسؤولياته ودوره في تجنب تداعيات إنسانية وسياسية سلبية، سواء في سوريا أو على مستوى الحدود الأوروبية نفسها.
هذه التفاصيل، تُسلط الوثيقة الضوء على تحول استراتيجي يُعدّ الأول من نوعه منذ بدء الأزمة، ويؤشر إلى احتمال نشوء مسار جديد للتعامل مع دمشق.
الوثيقة السورية الموجهة إلى الدول العربية
كردٍّ على المبادرة العربية التي طُرحت العام الماضي، قدمت دمشق وثيقة رسمية للدول العربية توضح رؤيتها للمعايير التي تراها مناسبة للتقارب. ووفقاً للمجلة، فقد تسلم وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي الوثيقة التي عُدّت أساساً لنقاشات جديدة، وهو ما يشير إلى محاولة سورية للاستفادة من التغيرات الإقليمية لتعزيز موقفها.
مقصد المقال
استشراف تداعيات التحولات الأوروبية ومستقبل الأزمة السورية في ظل المتغيرات الدولية
في خضم التحول الأوروبي المفاجئ، وثيقتان أوروبيتان صدرتا مؤخراً لتضعا حجر الزاوية نحو إعادة صياغة التعامل مع الملف السوري، ما يثير جدلاً واسعاً حول مغزى هذا التحول وتوقيته الحساس. إذ تأتي هذه الوثائق على مشارف عودة متوقعة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض -وقد حصل ذلك أثناء كتابة المقال- ، وهو ما قد يقلب التوازنات والمعادلات الأوروبية بشأن سوريا رأساً على عقب.
أولاً: التحدي الداخلي أمام الاتحاد الأوروبي
قد تثير هذه الوثيقتان نقاشاً حادّاً داخل الأوساط الأوروبية نفسها، خاصة بين الدول التي تتبنى موقفاً صارماً تجاه دمشق والدول التي ترى ضرورة التعامل معها بواقعية. فبينما تقود بعض الدول مثل فرنسا وألمانيا هذا التوجه الجديد، تبدي دول أخرى تخوفاً من تبعات أي تقارب مع النظام السوري، لا سيما في ضوء الضغط الشعبي والمواقف التي تطالب بالاستمرار في محاسبة النظام على انتهاكات حقوق الإنسان. هذا الانقسام الداخلي قد يعيق سرعة التنفيذ ويضع السياسة الأوروبية تجاه سوريا في مسار متضارب يزيد من التعقيد بدلاً من تحقيق التقدم.
ثانياً: إمكانية تصاعد الدور الروسي والإيراني
مع انفتاح أوروبا على الحوار مع دمشق، من المحتمل أن تفسح هذه السياسة الجديدة المجال لتعزيز الدور الروسي والإيراني في المنطقة. فروسيا وإيران قد تَعتَبران هذا التحول الأوروبي انتصاراً غير مباشر لاستراتيجياتهما في سوريا، ما سيزيد من فرص تقاربهما مع دمشق وفرض نفوذهما بطرق أكثر فاعلية. وفي هذا السياق، قد يصبح التنسيق الروسي-الأوروبي محوراً أساسياً لمستقبل التسويات، فيما قد تتناقص تدريجياً فرص الولايات المتحدة في التحكم بتفاصيل الشأن السوري.
ثالثاً: معضلة قدوم ترامب وإمكانية “قلب الطاولة”
في حال عودة ترامب إلى الرئاسة، يتوقع الكثيرون أن يُغيّر قواعد اللعبة بشكل جذري. فقد سبق أن اتخذ ترامب موقفاً متشدداً من التدخلات الدولية المحدودة وسعى للتركيز على سياسة “أمريكا أولاً“، وهو ما قد يدفعه إلى إعادة فرض عقوبات مشددة على سوريا، وربما الضغط على الحلفاء الأوروبيين للانسحاب من أي مسار جديد للتطبيع مع دمشق. العودة إلى سياسات ترامب قد تكون لها نتائج سلبية على أي تقدم محتمل في التفاهمات الأوروبية – السورية، وقد تؤدي إلى تعقيد المشهد وإعادة فرض العزلة على دمشق بضغط أمريكي.
رابعاً: موقف النظام السوري وتوقع رد الفعل
من الجانب السوري، ينظر النظام إلى هذه التحولات بترقب كبير، فمن المحتمل أن يختار التعاون النسبي مع الدول الأوروبية في ظل احتياجه لدعم إنساني واقتصادي، خاصة فيما يتعلق بعودة اللاجئين وإعادة الإعمار. ومع ذلك، يبقى النظام حذراً من تقديم أي تنازلات سياسية كبيرة في ظل دعمه المستمر من إيران وروسيا. لذا، قد يحاول النظام الاستفادة من الانفتاح الأوروبي بقدر الإمكان، دون الالتزام بتغييرات ملموسة تؤثر على بنيته السياسية. وقد يتردد في اتخاذ قرارات استراتيجية قبل اتضاح توجهات الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة ترامب، لتجنب اتخاذ خطوات قد تضر بمصالحه على المدى البعيد.
سيناريوهات متوقعة
بناءً على هذه المعطيات، يبدو أن أمام الأزمة السورية عدة سيناريوهات، تتراوح بين استمرار الجمود في حال رفض الأطراف تقديم تنازلات، أو الدخول في مرحلة جديدة من التفاهمات المؤقتة التي تُبنى على توافق أوروبي محدود دون تفعيل أمريكي قوي. وفي حالة نجاح التحول الأوروبي بتجاوز الضغوط الأمريكية المحتملة، قد نشهد دعماً ملموساً للمسار الإنساني وإعادة الإعمار، في ظل عودة تدريجية لبعض اللاجئين. أما في حال اصطدمت السياسات الأوروبية بعودة ترامب، فقد تعود الأزمة السورية إلى مربع المواجهة، حيث تتعزز الانقسامات، وتبقى الحلول السياسية بعيدة المنال.
ويبقى السؤال الذي يحتاج إلى الإجابة عنه: هل سيأتي يوماً يُورِّثُ بشار الأسد سوريا لابنه "حافظ" كما فعل حافظ الأب؟