استهلال
ترك الكنعانيون بصمتهم الحضارية الموغلة في التاريخ والذي يصل الى حوالي خمسة آلاف سنة، وإرثهم الغزير المتطور بالنسبة للأمم الأخرى، خاصة نبوغهم في نظم الشعر والقيَّم التي قدمتها ديانتهم بدلالة بقاء لهجتهم (اللغة التي نطقوا بها) في المنطقة المعروفة باسم بلاد الشام (Levent – سورية الطبيعية) قبل تقسيمها حسب اتفاقية سايكس وبيكو). وتفيد الإضاءة على هذا الإرث الكنعاني في تعريف المُهتمّ أنَّ هناك بُعداً ثالثاً في اكتناه تواصُل الحضارات والتُراث واستمراريّتهما حتى يومنا هذا. وقد تمَّ اختيار منصة مآلات الكتابة عن الحضارة الكنعانية الأوغاريتية بغية التصدي لمن يحاول إخفاء هوية السوريين، خاصة أبواق وإعلام الصهيونية العالمية التي بدأت منذ قرنين خليا تزوير وإخفاء كل ما يمت بصلة إلى تبيان حقيقة هذه الحضارة التي ما زالت تشكل الوعي الجمعي لأبناء بلاد الشام ومنها سوريا. فهم لا يريدون إعلام الشعوب الأخرى بأنَّ للدين والفن في بلاد كنعان تأثيراً في الديانة اليهودية والدين المسيحي من خلال مفهوم الألوهة التي تجلَّت في شخصية إيل وبعل وعشتار، ورمزيّة الخصب في الطبيعة مع رمزيّة المطر والماء والورود التي جاءت لتؤسس جوهر الدين والأدب.
إضاءة على تسمية “الكنعانيون”
كان نشوء الحضارة اكنعانية متزامناً من حضارات قائمة حولها آنذاك، وقد اختلفت تسميتها حسب لغة كلّ حضارة ولغتها ولهجاتها. لذلك كان من الضروي سرد ملخص لهذه التسميات لزيادة التعمق في معرفة هوية الكنعانيين.
-
الاسم الأكادي والبابلي: كان (كناجي أو كناخني )، وقد بينته أوابد الرسائل المكتشفة في مصر (تل العمارنة)، وتعني التسمية بلغتهم (اللون الأحمر الأرجواني).
-
الاسم المصري: (بي كنعان) واستعمل للدلالة على المناطق الجنوبية والغربية من سوريا. وهناك اسم آخر استعمله المصريين -قديماً- في عصر الدولة القديمة هو (فنخو) للدلالة على مجتمع كنعاني يعيش مع شعوب بلاد الشام.
-
الاسم الإغريقي: استعملوا اللفظ المصري (فنخو) الذي يلفظ في لغتهم (فويفكس) للدلالة على (فينيقيا )، وعنما يريدون الدلالة على الفينيقيين يستعملون اللفظة (فويفيكن).
-
الاسم الكنعاني: أطلق الكنعانيون على أنفسهم اللفظة السابقة للتعريف عنهم. وقد جاء ذلك في نص الملك (أدريمي) ملك ( الالاخ) التي كانت إحدى الممالك الكنعانية في شمال غرب بلاد الشام قرب أنطاكيا السورية في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد.
-
الاسم الحوري: استعملوا لفظة (كناجي) المشتق من كلمة حورية -أي الصبغة الأرجوانية- التي اشتهر الكنعانيون بصناعتها ونشرها في العالم.
-
الاسم العبري: استعملوا كلمة (كنعان) باللغة العبرية للدلالة على البلاد المشهورة بصناعة أصبغة الأرجوان، وقد اشتقوا هذه اللفظة من الجذر الثلاثي الأحرف (ك ن ع) ويعني بالعبرية انخفض للدلالة أنهم سكان البلاد المنخفضة وهي القريبة من نهر الأردن.
-
الاسم العربي: لا يختلف اللفظ العبري ولكنَّ الجذر الثلاثي (ك ن ع) تعني استقر ورسى، ويقال في العربية كنع الثفال في قعر دُنِّ الخمر (الثفال هو العكر الناتج بعد عصر العنب وتصفيته)، ولما أرادو تسمية شعب كنعان الذين استقروا وركنوا في أراي منخفضة نسبياً أطلقوا هذه التسمية عليهم. ولكنَّ البعض يقولن اللفظة أطلقت لتواضعهم وعدم تعاليهم على من يجاورهم.
-
الاسم الروماني: استعمل الرومان كلمة بوني (Poeni) للدلالة على الفينيقيين الغربيين (القرطاجيين) في شمال إفريقيا.. وهي كلمة تعني أيضاً اللون الأحمر الأرجواني.
لمحات خاطفة
لقد قدَّست الديانة الكنعانية مظاهر الطبيعة والكون من خلال الإله إيل (El, who is considered the chief god in Canaanite religion)، حيث قدمته بصورة (الآب) الذي مُنح عدَّة أسماءٍ وصفات دلّ على التبجيل، وعلى سبيل المثال عُرِفَ باسم (بعل لبنان) و (شميم) – أي سيّد السماوات، وكذلك باسم (بعل حمون) و (بعل صافون) حتى اعتلى ليصبح صاحب العرش وله أبناءٌ الآلهة الذكورٍ والإناث.
مراحل تطور حضارة كنعان
رغم أنَّ الحضارة الكنعانية قلَّما حظيت باهتمام مع أنها كانت واسطة التفاعل بين بلاد ما بين النهرين ووادي النيل اللتين حظيتا على اهتمامٍ كبير. فإذا أردنا انصاف الحضارة الكنعانية لابدَّ أولاً من التمييز بين ثلاث لفظات:
● الفن.
● الدين.
● الديانة.
إنَّ مفهوم الدين يختلف عن الديانة، فالدين هو الاعتقاد بإلهٍ واحد في حين أن الديانة هي الاعتقاد بتعدّدية.
الشاهد على هذا القول ما ورد القرآن الكريم “إن الدين عند الله الإسلام“، وكذلك ما شرحه لسان العرب، حيث أنَّ الديانة هي الإيمان بأكثر من دين واحد في حين الدين هو الإسلام فقط.
لذلك يتوجب علينا أن ندرس العلاقة بين الديانة الكنعانية والفن الكنعاني على أنها “علاقة مُزدَوِجة”، أي أنها:
- أولاً: هي علاقة تجلي: لأنَّ الديانة الكنعانية لولا الفنّ والأدب والنحت لم تكن لها القدرة على الانتشار والوصول إلينا. وهنا يمكن الحديث عن فنّين أساسيين هما الأدب والنحت، وصلنا شيء من الديانة الكنعانية، عقائد وشعائر وطقوس من خلال الأساطير والملاحِم وهما جسر من الأدب الكنعاني. ويشهد على ذلك مما وصل إلينا هو: ملحمة “بعل وعناة وأسطورة أدونيس وعشتروت” ومن النحت “العمارة الكنعانية” التي نراها اليوم في آثار بيوت مدينة “أوغاريت في رأس شمرا”.
-
ثانياً: هي علاقة استدلال: وهي ذات أهميّة كبيرة تكشف العلاقة الجدليَّة التي تجعل الديانة تطغى على سمات الحضارة. واشاهد على ذلك ما قاله الفيلسوف “هيغل“ بأنه عند دراسته مرحلة تطوُّر الشعوب والأمم وجد أنَّ الديانة تطغى على الحضارة حيث تصبح الديانة هي الحضارة. لذلك تتجلّى الديانة في جميع الميادين وعلى رأسها الفنون.
وفي ضوء تلك المصطلحات نجد أنَّه في المرحلة الأولى من عهد حضارة كنعان، بدأ يسود الاعتقاد أنَّ الإلهة (يم -Yam, also known as Yam Nahar)، هي الإلهة الأمّ لأن الماء هو الأمّ الأولى التي خُلق منها هذا الكون. بينما عشتروت أو عشتار فهي إلهة الحب والإخصاب والربيع. وهناك آلهة آخرين مثل شمون – إله الشفاء، والإله رشف – إله الحرب وسيِّد الصواعِق، وشميم إله السماء الأوّل وأديم إلهة الأرض.
رغم أنَّ العلماء لم يعرفوا حتى اليوم تسلسلاً دقيقاً لمراحل الخَلْق والتكوين الكنعانية بسبب تلف بعض الألواح الفخارية، لكنّ ما عُثِر عليه قادهم لمعرفة الحياة وعناصرها الأربع التي كانت ركيزة عقيدتهم، وكان لكل عنصر منها إلهاً خاصاً يمثل تلك العناصر الأربع، وهي ذاتها انتقلت كما هي إلى حضارة الإغريق فيما بعد.
تفاصيل مهمة
في “نظرية الخَلْق الكنعانية” نجد أساطير “بعل” وعلاقته مع بقيّة مجمَّع الآلهة (البانثيون) وضمنها أسطورة التكوين، التي ذكر فيها “ملحمة كرت” و “ملحمة أقهات“، حيث ورد فيها اعتقاد الكنعانيين أنه قبيل بدء تشكل الكون كانت “يم” تُمثل حالة العماء.
ونتيجة لصراع بعل إله الخصب عندما بدأ بتنظيم الكون، انبثقت أُسُس تشكيل الحضارة بعد أنْ طلب من حبيبته “عناة” مساعدته. كما اعتقد الكنعانيون بوجود حياةٍ ثانيةٍ بعد الموت، وخصصوا لها طقوساً جنائزيةً لحماية الميت تحت رعاية الآلهة أثناء احتضاره تمهيداً لانتقاله إلى العالم الآخر.
رمزية الإله “إيل”
اسم “إيل” يعني الإله الأوّل، ويرمز في المُعتقد الكنعاني إلى “الناموس الكوني” الذي يضبط إيقاع الوجود، وبالتالي إيقاع الطبيعة، وأنَّ كل القوى الطبيعية هي أبناؤه، ومنهم على سبيل المثال – البعل، عناة، عشتروت، عشيرة … إلخ.
وهذه الآلهة تجسّد قوى الطبيعة بحيث تبقى أهميّة “إيل” بأنْ يكون الإله الشامل، الموصوف ب (الرحيم). وهو يختلف كثيراً عن يهوه الإله التوراتي اليهودي، لأنَّ يهوه إله قوم فقط في حين أن إيل إله مسكوني عالمي وشامل، وهذه المقارنة بينهما تشير إلى انتقال جذور إيل إلى خارج الحضارة الكنعانية.
وقد تكرَّس اسم “إيل” الذي يرأس البانثيون الكنعاني ليصبح لاحقة في أسماء الكثير من المدن الكنعانية مثل: تعنايل – برقايل – إلخ… وكذلك أصبح بعدها لاحقة لأسماء أشخاص ذكروا في التوراة مثل: إسرائيل – جبرائيل – عمانويل – إسرافيل إلخ. وكذلك في القرآن باللغة العربية: إسماعيل.
يعتبر “إيل” أنَّه نواة التوحيد الذي عاش – دون جدال – مع التعدّدية جنباً إلى جنب. وقد أنتج هذا التوافق، فيما بعد، مبدأ التثليث دون أي اعتراض عليه.
التعدّدية كانت تبحث عن وحدانية مُعيّنة، هذه الوحدانية تجسَّدت ب”إيل”، عِلماً بأنه في الديانة الكنعانية هناك أيضاً صِلة وَصْل ما بين التعدّدية والوحدانية هي التثليث، ويمكن أن نتحدَّث كثيراً في هذا المجال في مقال آخر.
رمزية الإله بعل
عندما نتكلم عن “بعل -ابن الإله “إيل“. وهو يبرز إلهاً للمطر والعاصفة والريح. وفي مرحلة متقدمة أطلقوا عليه اسم “أدونيس” وأضافوا إليه رمزية إله الأرض إلى جانب الصفات الأسبق، كان “بعل” يجسد أحلام الإنسان الكنعاني. ذلك الإنسان الذي كان يشقّ الأراضي الوَعرة كي يبني حدائق وجنائن، ويمخر عُباب اليمّ كي يتاجر ويسافر، حتى أصبح ابناً للإله “إيل”.
وبالنسبة إلى كلمة “اليم” في اللغة الكنعانية تعني البحر والنهر أيضاً حيث كان بعل كان يناضل ضدّهما كي يطوّعهما لإرادته كما هو الإنسان الكنعاني، وقد خلد اسم “بعل” في حياتنا المعيشية، لأننا حتى اليوم ما زلنا نقول أرض بعل بمعنى التي لا تعيش بالريّ، بل على ماء السماء، لأنَّ الكنعانيين لم يعرفوا الأنهر العملاقة كما عرفها جيرانهم في بلاد ما بين النهرين، – دجلة والفرات والنيل – أما أرض كنعان اعتمدت على الأمطار الموسمية والأنهار الصغيرة.
انتهى الجزء الأول من المقال، اضغط لمتابعة الجزء الثاني