المقدمة
ترأست “عشتار” ألوهية الوجود الأنثوي في شجرة الآلهة الكنعانية، حيث تلازم ورود اسمها كلما ذكر إله الذكورة “إيل“، وكذلك لا يمكن أن تذكر الإله “بعل” من دون أن تذكر الإلهة “عناة“. كما تذكر الإلهة “عشتروت” كلما ورد ذكر الإله “أدونيس“. وهذا يدلُّ على أنَّ هذه الديانة كانت (ثنائية). وقد لخصت أسماء هاته الإلاهات رمزية الأمومة الأنثوية في الوجود بأسمائهن المختلفة. ومن الملاحظ أنَّ الديانة الكنعانية ركزت على (الثنائية) وليس (التثليث) الذي جاء فيما بعد كمفهوم مختلف تماماً.
رمزية الثنائية وتكريس المساواة
رمزية الثنائية أعطت المرأة الكنعانية جوهر وجودها في الحياة وحقّها في التساوي مع الرجل، فهناك إله وهناك إلهة قرينة له. ومن المعروف أن “عشيرة” هي أمّ سبعين إلهاً وإلهَة، وهنا يكشف عن وجود تراتبية البانثيون الكنعاني الحافل احتوائه على خادمات أو كاهنات المعبد، الأمر الي يلخص ما سُمّيَ بـ (البغاء المُقدَّس). ويذهب المؤرِّخون إلى اعتبار البغاء المقدّس خطوة مُتقدّمة، إذ في اعتقادهم أن المرأة أو الفتاة التي تبذل طهارتها في سبيل الإله إنما تشارك البعلة في الأنوثة الكونية، وهذا يفسر مفهوم الخصب الكوني.
وعندما نتعرض إلى مفهوم الخصب الكوني، لا بُدَّ من ذكر الرمزيات الأخرى المرتبطة بهذا المفهوم:
رمزيّة المطر في الديانة الكنعانية
لم يستعصِ على الكنعانيين تفسير وجود الماء كعنصر أساسي لوجود الحياة، وكان عليهم الإجابة فقط على السؤال: إلى من ينتمي هذا الماء؟
وببساطة أجاب الكنعانيون بأن المطر هو ماء السماء. ذلك الماء المُقطَّر (الطاهر) الذي لم يتلوَّث بغبار أو بطين الأرض، وأنه ما دام سماوياً، لا بُدَّ أنْ ينتمي إلى الإله إيل والإله بعل. في حين أنَّ اليهودية كانت ترى أن الأرض هي ملك إلههم “يهوه“، لكنَّ الكنعانية تنظر إلى الماء سماوي وأنه مُلك إيل أو البعل.
ولابد من الإيضاح أنَّ كل الديانات والأديان عَرَّفت الماء بأشكال متقاربة رغم اختلاف المصطلحات الدينية. على سبيل المثال، يبدأ سَفْر التكوين ، الإصحاح الأول، الآية 2 بالقول:
“وَكَانَتِ ٱلْأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ ٱلْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ ٱللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ ٱلْمِيَاهِ.”.
أما في الديانة الإسلامية، يذكر القرآن الكريم في (سورة الأنبياء: الآية 30):
“وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ”
ولكن في الديانة الكنعانية جاءت رمزيّة الماء مختلفة لأنَّ البحث عن الماء كضرورة لاستمرار الحياة، كان السبب الذي دفع الكنعانيين إلى الهجرة من الجزيرة العربية نحو أرض الميعاد أو أرض كنعان. قد يعترض البعض على القول أنَّ الكنعانيين كانوا موجودين في هذه المنطقة أصلاً ولم ولم يأتوا إليها مهاجرين من الجزيرة العربية!
مداخلة لا بُدَّ منها: أصول الكنعانيين
هناك نظريات مُتعدِّدة، وكانت النظرية التقليدية الشائِعة التي تبناها المؤرِّخون تفترض أنَّ الكنعانيين ساميون أتوا إلى هذه البلاد بهجراتٍ موسمية سعياً وراء المطر، والمطر حسب المعتقدات الكنعانية هو الذي أنبت (شجرة الآلهة الكنعانية). وهذه الفكرة منسوجة في أساطيرهم، وقد تكرر ورودها في ملاحمهم. ولكن الكثيرين من علماء الأنثروبولوجي و الأركيولوجيا لهم رأي آخر بنوه على مستجدات التنقيب العلمي الحديث، حيث وجدوا أنه لولا المطر، ولولا توفر الأنهار والبحار والأمطار في بلاد كنعان، لما استطاعوا أنْ يبتدعوا الأبجدية لأن المطر يُعلّم الإنسان الكلام، أي يُعلّم الإنسان الإصغاء، وبالتالي يُعلّمه التكرار.
رمزيّة الورد في الديانة الكنعانية
في التاريخ البشري نجد أنَّ للورد رمزيتان مختلفتان، الأولى دينية والثانية دنيوية. الرمزية الدينية لم تكن حكراً على الكنعانية، بل وردت في معظم الديانات القديمة والأحدث أيضاً. وعلى سبيل المثال في:
-
الحضارة السومرية:
عرفت الصلاة الوردية عند السومريين باسم “الزقورة” وهي عبارة عن بناء هرمي ضخم تُقام عليه طقوس دينية تتضمن تلاوة الأدعية وتقديم القرابين، حيث كان يُعتقد أن الزقورة تُقرّب المسافة بين الإنسان والآلهة.
-
الحضارة المصرية القديمة:
عرفت الصلاة الوردية عند المصريين القدماء باسم “الصلوات اليومية” يمارسونها خمس مرات في اليوم. تضمنت هذه الصلوات تلاوة التعاويذ وتقديم القرابين للآلهة. وكان يُعتقد أن الصلوات اليومية تُحافظ على النظام الكوني وتُبعد الشر عن الإنسان.
-
الحضارة الهندوسية:
عرفت الصلاة الوردية عند الهندوس باسم “المانترا” وهي عبارة عن جملة أو كلمة مقدسة تُتلى بشكل متكرر. وتُستخدم المانترا في التأمل والصلاة، التي تُساعد على التركيز وتُقرّب الإنسان من الإله.
-
الحضارة البوذية:
عرفت الصلاة الوردية عند البوذيين باسم “التأمل” وهو عبارة عن ممارسة تُساعد على التركيز على الحاضر والتخلص من الأفكار السلبية. يُمارس التأمل بشكل خاص في الأديرة البوذية. يُعتقد أن التأمل يُساعد على الوصول إلى حالة من السلام الداخلي والسعادة. وتذكر نصوصهم المقدسة أنَّ بوذا وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة انهمرت السماء عليه بالورود لتصعد روحه بسلام.
-
الحضارة اليونانية القديمة:
عرفت الصلاة الوردية عند اليونانيين القدماء باسم “الترانيم” وكانوا يمارسونها في المعابد لتقديم الشكر للآلهة أو طلب المساعدة منها. وكانت الترانيم تُؤدّى غالباً مع الموسيقى والرقص، لاعتقادهم أنها تُسعد الآلهة وتُقرّبهم من الإنسان.
-
الحضارة الرومانية القديمة تأثرت بالديانات السورية الكنعانية:
عرفت الصلاة الوردية عند الرومان القدماء باسم “الصلوات العامة” يمارسونها في الأماكن العامة لتقديم الشكر للآلهة أو طلب المساعدة منها. وكانت الصلوات العامة تُؤدّى غالباً من قبل الكهنة، حيث كان يُعتقد أن الصلوات العامة تُحافظ على سلامة الدولة وتُبعد عنها الشر.
-
الديانة المسيحية “يسوع” سوريَّ المولد:
عرفت الصلاة الوردية عند المسيحيين باسم “مسبحة الوردية” وهي عبارة عن مسبحة تُستخدم لتلاوة صلاة الوردية. تتكون صلاة الوردية من خمسة أجزاء، كل جزء يتضمن تأمل أحد أسرار المسيح. يُمارس المسيحيون صلاة الوردية بشكل خاص في شهر تشرين الأول، لأنها تُقرّب المسيحي من الله تعالى وتُساعده على التأمل في أسرار المسيح. وجاء في النصوص الكنسيَّة أنَّ القدِّيسة تيريزيا عندما لفظت أنفاسها وعدت المؤمنين بأنها ستمطر عليهم مطراً من ورد،. لذلك المسيحيون ما زالوا حتى اليوم يُصلون للسيدة مريم العذراء (الصلاة الورديّة).
-
الدين الإسلامي:
لا توجد الصلاة الوردية عند المسلمين على النحو الذي عليه في الديانات الأخرى، رغم أنها تمارس بشكل طقسي عند استعمال “السبحة” وهي عبارة عن مسبحة تُستخدم لحساب عدد التسبيحات والدعوات. ويستعمل مصطلح الوردية أو الأوراد لتسمية الأذكار والأدعية التي يكرروها مع عدِّها بحبات المسبحة. وهو ما يفعله المسيحيون أيضاً في صلاتهم الوردية. ويُستحب استعمال عطور الورود والتطيب بها أثناء أداء هذا الطقس، لأنَّ رمزيّة الورد في الدين ترمز إلى النِعَم والفضائل.
أما في الديانة الكنعانية:
تُعلمُنا أسطورة أدونيس وعشتروت أنَّ الخنزير البري عندما انقضّ على أدونيس وأرداه قتيلاً، هرعت عشتروت لكي تنقذه من الموت تدوس بقدميها على الأشواك وعلى الورد الأبيض الذي تلوَّن بدماء عشتروت فغدا أحمراً. وهذا أعطى للورد رمزيّته الدنيويَّة وأصبح رمزاً للأنثى والحب الجسدي والروحي، وكذلك رمزاً للجمال والأناقة لأن الوردة باستدارتها، وبلونها، وبعطرها توحي بالكمال. وقد اشتقت من هذا الطقس رمزية أخرى وهي:
رمزيّة الأرجوان في الديانة الكنعانية
يعتبر الأرجوان بأنه لون الملوك والآلهة. لذلك اخترعوه ومن ثم أصبح عادة موروثة عند الكنعانيين. وقد تمَّ الحصول على الأرجوان من صَدَفةِ الموريكس -بالعربية “المريّق”- وتُنسَب إلى “ملكارت” إله صور.
وقد اكتشفت هذه الصَدَفة على شاطئ صور. وهي التي جعلت اليونانيون يطلقون اسم “الفينيقيين” على الكنعانيين لأن كلمة فينيقيا تعني البلاد الحمراء أو الرجال الحمر نسبةً إلى الأرجوان الذي كان الفينيقيون يتاجرون به وينشرونه إلى ما وراء البحار.
******** ***** ********
انتهى الجزء الثاني، وسيتبعه إفاضات أخرى من “إرث الحضارة الكنعانية في بلاد الشام “
اضغط الرابط إذا رغبت في قراءة الجزء الأول