رُبَّ ضارة نافعة
هذا المثل العريق يحمل في طياته حكمة عميقة، ويعبّر عن إيماننا بأن لكل حدثٍ، مهما بدا سيئاً أو مؤلماً، حكمة إلهية قد لا ندركها في البداية.
في 18 ديسمبر/كانون الأول 2024، شهدت مدينة حماة السورية حادثة مؤسفة تمثلت في اعتداء مسلح على مطرانية حماة للروم الأرثوذكس. وقد أفادت تحقيقات الشبكة السورية لحقوق الإنسان في لاهاي، إنه في يوم الأربعاء الموافق 18 كانون الأول/2024، تعرضت مطرانية حماة وتوابعها للروم الأرثوذكس، الواقعة في مدينة حماة، لاعتداء مسلح نفذته عناصر مسلحة دخلت إلى ساحة المطرانية محاولة نزع الصليب، ثم إطلاق الرصاص على جدران الكنيسة. وكانت الشبكة قد وثقت سلسلة من الانتهاكات في محافظة حماة منذ سيطرة إدارة العمليات العسكرية على محافظة حماة في 5 كانون الأول/2024، شملت القتل خارج نطاق القانون، تدمير المنازل، الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة. وفي الحادثة الأخيرة المشار إليها أعلاه- أظهرت الشهادات التي جمعتها الشبكة من نشطاء محليين وشهود عيان تورط عناصر تتبع لتنظيم أنصار التوحيد في نسبة كبيرة من هذه الانتهاكات، إلى جانب جهات أخرى لم يتم تحديدها بشكل دقيق حتى الآن.
تنظيم أنصار التوحيد وهو جماعة جهادية مسلحة تنشط في النزاع السوري، وتُعتبر امتداداً لتنظيم “جند الأقصى” الذي تم تفكيكه من قِبل فصائل المعارضة وهيئة تحرير الشام. تأسس التنظيم في عام 2017 بعد إعادة تجميع بقايا عناصر “جند الأقصى”، ويعتمد أيديولوجية سلفية جهادية، ويعمل بقيادة المدعو خالد خطاب.
رغم متابعة السلطات الانتقالية للحادثة، وتفاعل قيادة شرطة محافظة حماة مع البلاغات التي قدمتها المطرانية، تظل المسؤولية الكاملة لوقف هذه الانتهاكات التي تُعد انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان، وفق المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (ICCPR). وكذلك تعتبر انتهاكاً ل”قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 75/258” الذي يعزز ثقافة السلام والتسامح لحماية المواقع الدينية.
دلالات بداية انفراط تحالف فصائل المعارضة المسلحة
هذا الحدث، الذي أتى في خضم مرحلة انتقالية دقيقة، يُبرز التحديات الكبيرة التي تواجه سوريا في إعادة بناء نسيجها الاجتماعي وتعزيز مفهوم المواطنة والعيش المشترك. إن النظام السوري، خلال 54 عاماً من السيطرة، عمل على تشويه هذه المفاهيم عبر نشر الانقسامات وتعزيز ثقافة الاستبداد، مما يجعل من الضروري العمل على رفع مستوى الوعي المجتمعي لاستعادة قيم التعايش السلمي.
تداعيات الاعتداء على مستقبل سوريا خلال الفترة الانتقالية
يرى المراقبون السياسيون أنَّ هذا الاعتداء على المطرانية يمثل تحدياً خطيراً يهدد استقرار المرحلة الانتقالية، ويمكن تلخيص التداعيات المحتملة كما يلي:
- إضعاف السلم الأهلي: الاعتداءات على دور العبادة تُعمّق الانقسامات بين مكونات المجتمع السوري، وتُفاقم من مشاعر الخوف والتوجس بين الطوائف.
- تشويه مفاهيم المواطنة: استمرار مثل هذه الأحداث يعكس الفجوة الكبيرة التي خلّفها النظام في ترسيخ مفهوم المواطنة القائمة على الحقوق المتساوية للجميع.
- تقويض شرعية السلطات الانتقالية: عدم قدرة السلطات على حماية المواقع الدينية والمدنيين يعزز الشكوك حول قدرتها على قيادة المرحلة الانتقالية بفعالية.
- توظيف الحادثة من قبل الأطراف المتطرفة: تسعى الجماعات المتشددة إلى استغلال مثل هذه الحوادث لتأجيج الكراهية وتعزيز خطابها المتطرف.
مواقف الفصائل وردود الفعل المتوقعة
- الفصائل الوطنية المعتدلة: من المتوقع أن تسعى هذه الفصائل إلى التنديد بالحادثة، مع التأكيد على أهمية حماية النسيج الوطني.
- الجماعات المتطرفة: قد تحاول الجماعات المتشددة استخدام الحادثة لتبرير أجنداتها العدوانية، ما يزيد من التحديات الأمنية.
- ردود الفعل الشعبية والدولية: يُتوقع أن تكون هناك إدانات واسعة من المنظمات الحقوقية والدول الراعية للسلام، إلى جانب دعوات لوقف هذه الانتهاكات وحماية التنوع الديني.
رفع مستوى الوعي المجتمعي بمفهوم المواطنة والعيش المشترك
للتصدي للآثار السلبية لهذه الأحداث وضمان عدم تكرارها، يجب التركيز على رفع مستوى الوعي المجتمعي بما يلي:
- إعادة بناء مفهوم المواطنة:
- إطلاق حملات توعوية تهدف إلى تعزيز قيم المواطنة الحقيقية، التي تقوم على احترام الحقوق والواجبات دون تمييز.
- إدخال برامج تعليمية تُعزّز ثقافة العيش المشترك في المدارس والجامعات.
- معالجة آثار الاستبداد:
- تقديم الدعم النفسي والاجتماعي لإعادة تأهيل المجتمع السوري بعد عقود من غسل الأدمغة ونشر الكراهية.
- إشراك المفكرين والقادة المجتمعيين في عملية استعادة القيم الوطنية وتعزيز الثقة بين المكونات.
- تعزيز الحوار المجتمعي:
- تشكيل لجان مجتمعية تمثل جميع الطوائف للعمل على بناء جسور الثقة والتفاهم.
- تنظيم فعاليات ثقافية ودينية مشتركة تعزز قيم التسامح.
- محاربة التطرف الفكري:
- التصدي لخطابات الكراهية من خلال الإعلام المستقل والمبادرات الشعبية.
- التعاون مع المنظمات الدولية لتطوير برامج مكافحة التطرف وتعزيز السلم الأهلي.
الخاتمة
إن الاعتداء على مطرانية حماة للروم الأرثوذكس ليس مجرد حادثة عابرة، بل يمثل اختباراً حقيقياً لمقدرة السوريين على تجاوز إرث الاستبداد، وبناء وطن جديد يقوم على قيم المواطنة والعيش المشترك. المستقبل الذي يحلم به السوريون لن يتحقق إلا من خلال تضافر الجهود لإعادة ترسيخ هذه المفاهيم، والوقوف صفاً واحداً ضدّ كل ما يُهدد النسيج الوطني.
لقد آن الأوان للانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة البناء، مستلهمين العبر من الماضي لتجنب أخطائه وبناء سوريا التي تستحقها الأجيال القادمة.