مقدمة:
في 8 كانون الأول 2024، انهار نظام بشار الأسد، وسيطرت الفصائل المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً” على سوريا، لتبدأ مرحلة جديدة من الحكم الإسلامي المتشدد. وفي 29 كانون الثاني 2025، أعلن أحمد الشرع نفسه رئيساً بحكم الأمر الواقع، وعيّن حكومة مكونة بالكامل من أعضاء “هيئة تحرير الشام”. وبعد سلسلة من الإجراءات أحكم بها سيطرته على السلطة، أصدر في 13 آذار 2025 “إعلاناً دستورياً” مثيراً للجدل، كشف خلاله عن رؤية ترتكز على “الأمة الإسلامية” بدلاً من “الأمة السورية“، في إشارة واضحة إلى توجهه نحو إقامة دولة إسلامية يمكن توقعها أنْ تكون “إمارة إسلامية“.
الإعلان الدستوري، الذي جاء في 53 مادة، يتجاهل بشكل تام التعددية الدينية والعرقية في سوريا، ويمنح الشرع صلاحيات مطلقة، مستنداً إلى مبدأ “من يحرر يقرر“، وهو تعبير يرسّخ حكم “الإمام المتغلب” في الفقه الإسلامي، أي الحاكم الذي يسيطر بالقوة ويفرض سلطته دون الرجوع إلى الإرادة الشعبية. فهل نحن أمام ولادة “جمهورية إسلامية سورية” على غرار النموذج الإيراني، ولكن بصيغة سنية أكثر تطرفاً؟
إجراءات أحمد الشرع لترسيخ حكمه
بعد توليه السلطة، اتخذ الشرع خطوات متسارعة لتثبيت حكمه:
- تشكيل حكومة إسلامية خالصة: جميع أعضاء الحكومة الجديدة ينتمون إلى “هيئة تحرير الشام”، مما يجعلها حكومة أحادية اللون، لا تمثل التنوع السوري.
- إجراء حوار وطني صوري: في 25 شباط 2025، أطلق الشرع ما أسماه “حواراً وطنياً“، لكنه كان مجرد إجراء شكلي، إذ كان المشاركون من نفس التيار الإسلامي المتشدد.
- صياغة إعلان دستوري تحت هيمنة الهيئة: في 2 آذار 2025، تم تشكيل لجنة لصياغة الإعلان الدستوري بناءً على مخرجات “الحوار الوطني“، مما يعني أن الوثيقة الدستورية لم تعبر عن إرادة الشعب، بل عن رؤية “هيئة تحرير الشام”.
أخطر مواد الإعلان الدستوري
يحمل الإعلان الدستوري العديد من المواد التي تؤسس لحكم إسلامي متشدد، منها:
- تعريف سوريا كدولة إسلامية عربية: المادة الأولى تنص على أن سوريا “جمهورية عربية إسلامية”، مما يلغي الهوية السورية الوطنية ويستبدلها بهوية دينية وقومية ضيقة، متجاهلاً المكونات الكردية، السريانية، والآشورية وغيرها.
- اشتراط الإسلام كدين للرئيس: تنص المادة الثالثة على أن “دين رئيس الجمهورية الإسلام”، وأن “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”، متجاوزاً حتى الدستور الإيراني، الذي يسمح نظرياً بتولي غير المسلمين مناصب عليا.
- إلغاء حرية الاعتقاد: بينما يدّعي الإعلان الدستوري أنه “يصون حرية الاعتقاد“، فإنه يشترط ألا يتعارض ذلك مع “النظام العام“، وهو مصطلح فضفاض يفتح الباب أمام قمع الحريات الدينية، حيث يُفهم “النظام العام” وفق التفسير الإسلامي السلفي.
- تهميش اللغات غير العربية: المادة الرابعة تنص على أن “اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة”، دون أي ذكر للغات الأخرى، مما يعني إقصاء الكردية والسريانية وغيرها.
- تجريم الاستعانة بالمجتمع الدولي: المادة السابعة تعتبر طلب التدخل الأجنبي “جريمة”، حتى لو كان الهدف منه حماية حقوق الإنسان أو توثيق انتهاكات النظام الجديد.
- إلغاء مفهوم المواطنة المتساوية واستبداله بـ”التعايش المجتمعي”: هذا المصطلح يعني ضمنياً أن المواطنين غير المسلمين سيكونون في مرتبة أدنى، وهو ما يتوافق مع مفهوم “أهل الذمة” في الفقه الإسلامي.
سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية
الإعلان الدستوري يمنح أحمد الشرع صلاحيات غير مسبوقة، مما يجعله الحاكم المطلق لسوريا:
- الجمع بين منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، مما يمنحه سيطرة كاملة على السلطة التنفيذية.
- تعيين جميع الوزراء وإقالتهم دون الحاجة لأي موافقة برلمانية.
- تعيين ثلث مجلس الشعب، بينما يتم تعيين الثلثين الآخرين بآليات يسيطر عليها، مما يعني أنه يتحكم في المجلس بالكامل.
- السيطرة على القضاء عبر تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا.
- رئاسة مجلس الأمن القومي، مما يسمح له بإعلان الطوارئ والحرب دون الرجوع لأي جهة أخرى.
- عدم إمكانية مساءلته خلال الفترة الانتقالية التي حددها بخمس سنوات، وهي مدة كافية لترسيخ حكمه وتحويل سوريا إلى دولة دينية.
التمهيد لنظام إسلامي متشدد
الإعلان الدستوري يتجاهل تماماً أي ذكر لمبادئ الديمقراطية، السيادة الشعبية، أو التعددية السياسية. كما أنه لم يذكر أي شيء عن اللامركزية، مما يعني أن السلطة ستتركز في يد الشرع وحكومته.
“هذا ليس إعلاناً دستورياً، بل بيان تأسيسي لدولة إسلامية سلفية متطرفة، تُعيد إنتاج الاستبداد ولكن بغطاء ديني.”
دعم إقليمي مثير للجدل
على الرغم من أن السعودية كانت من أشد المعارضين للإعلان الدستوري الإسلامي الذي أصدره محمد مرسي في مصر عام 2012، إلا أنها تدعم اليوم الإعلان الدستوري لأحمد الشرع في سوريا. هذا التناقض يثير تساؤلات حول المصالح الإقليمية التي تتحكم في دعم أو معارضة الأنظمة الإسلامية.
هل سوريا في طريقها إلى “إيران سُنيَّة”؟
إذا استمر الوضع الحالي، فإن سوريا تتجه نحو نموذج شبيه بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولكن بصيغة سنيّة أكثر تطرفاً. وكما أدى صعود الخميني إلى قمع التنوع الديني والثقافي في إيران، فإن سوريا مهددة بالمصير ذاته، حيث سيتم القضاء على اليسار، الليبراليين، الأقليات الدينية، وحتى الإسلاميين المعتدلين.
“إذا استمرت سوريا في هذا المسار، فسنرى نسخة سنية من إيران، ولكن أشد قسوة، لأن التجارب التاريخية تثبت أن الأنظمة الإسلامية السنية غالباً ما تكون أكثر تطرفاً من نظيراتها الشيعية.”
الخاتمة:
هل يمكن إنقاذ سوريا؟
إن الإعلان الدستوري الذي أعلنه أحمد الشرع لا يمثل مجرد وثيقة قانونية، بل هو إعادة إنتاج الاستبداد في أبشع صوره. فهو لا يختلف عن دساتير بشار الأسد، بل ربما يكون أسوأ، حيث يكرّس الحكم الفردي تحت راية الإسلام السياسي. ويمكن اعتباره بمثابة خريطة طريق لتحويل سوريا إلى دولة إسلامية متطرفة، تقصي الأقليات، وتقضي على الديمقراطية، وتمنح الحاكم سلطات مطلقة.
وبينما يقف العالم متفرجاً، يجد السوريون أنفسهم أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما المقاومة بكل السبل الممكنة، أو الاستسلام لمستقبل مظلم ستُمحى فيه هويتهم المتنوعة. وسينطفئ فيه وهج سوريا الحضاري كما حدث في إيران بعد 1979.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن:
هل سيقف السوريون في وجه هذا المشروع، أم أن البلاد ستنزلق أكثر نحو الظلام؟
الإجابة على هذا السؤال مرهونة بتصرفات الرئيس الشرع إنْ استجاب لمطالب السوريين بالمحافظة على سمات الحضارة المدنية ، وخلاف ذلك يكون قد راهن على خروجه خاسراً من مضمار السباق على بناء مستقبل سوريا لعقود قادمة.