توطئة
خلال الأسبوع الماضي، أثار المقال الذي نشره الدكتور محمد حبش بعنوان “الإعلان الدستوري ومادة الشريعة” جدلاً واسعاً بين النخب السياسية والفكرية السورية، خاصة أنه تضمن تبريراً واضحاً ودفاعاً عن توجهات رئيس سوريا الحالي، أحمد الشرع، الذي يسعى إلى تكريس دستورٍ ذي هوية إسلامية صريحة. تأتي خطورة هذا المقال من كونه يمنح الغطاء الفكري والسياسي لتوجهات الشرع، رئيس سوريا ذو الميول السلفية، متجاهلاً بشكل واضح تطلعات السوريين نحو إقامة دولة مدنية ديمقراطية تؤمن بالمواطنة المتساوية، بعيداً عن أي تمييز أو انحياز ديني أو طائفي.
وانطلاقاً من المسؤولية الوطنية، ورغبةً في توضيح الصورة الكاملة للمجتمع السوري، وإظهار التناقض الكبير بين توجهات الشرع التي يسعى الدكتور حبش لتبريرها من جهة، وما يطمح إليه السوريون من دولة حداثية ديمقراطية من جهة أخرى، جاء هذا المقال التحليلي النقدي ليفند الادعاءات الواردة، ويبيّن من خلال آراء مجموعة من أبرز المراقبين السياسيين والمختصين المخاطر والتحديات المحتملة جراء هذه التوجهات الدستورية، مستعرضاً أبرز الانتقادات التي أثارها طرح الشرع والتبريرات التي قدمها مؤيدوه.
مسوغات المواجهة والتصدي
أشار الشرع إلى أن إدراج المادة التي تحدد دين رئيس الدولة بـ«الإسلام» تمثل استمرارية تاريخية في الدساتير السورية، إلا أن المحلل السياسي السوري كمال درويش يرى أنَّ:
«هذا التبرير يعكس رغبة واضحة في فرض هوية دينية للدولة السورية بشكل تدريجي، مناقضاً بذلك المشروع الديمقراطي والمدني الذي يطمح إليه غالبية السوريين»، ويضيف درويش بأن «السوريين قد دفعوا أثماناً باهظة للخروج من دائرة الهوية الواحدة نحو المواطنة المتساوية، ولا ينبغي العودة إلى الوراء تحت ذرائع تاريخية» (موقع سوريا الديمقراطية، 2025).
كذلك، فإن المادة الدستورية المتعلقة بـ«دين الدولة»، رغم وصف الشرع لها بأنها صيغة تحافظ على الهوية الإسلامية، قوبلت بتحذيرات من الدكتور حسام النجار، الباحث في شؤون الشرق الأوسط، الذي أوضح أنَّ:
«فرض الهوية الدينية كإطار للدولة يتعارض بشكل واضح مع طبيعة المجتمع السوري المتنوع، ويمهد لإقصاء المكونات الأخرى وخلق حالة من عدم الاستقرار والتمييز بين المواطنين، ما ينافي جوهر العدالة والمساواة الذي تطالب به القوى الديمقراطية في سوريا منذ اندلاع الثورة» (جريدة الحداثة السورية، 2025).
أما عن محاولة الشرع إضفاء مرونة على مفهوم الفقه الإسلامي كمصدر للتشريع، فيعلّق المراقب السياسي محمد الحلبي على هذا الطرح قائلاً:
«الحديث عن مرونة الفقه الإسلامي وتنوع اجتهاداته فيه تبسيط كبير لحقيقة أن تطبيقه العملي مرتبط دائماً بالسلطة السياسية التي تفسره وتنفذه. والخطورة تكمن في أن السلطة الحالية ذات ميول سلفية واضحة، ما يجعل من الفقه الإسلامي مجرد غطاء محتمل لممارسات متشددة يمكن أن تفرض قيوداً على الحريات الفردية والمدنية» (مجلة رؤية سياسية، 2025).
كما تناول الشرع تجربة القانون المدني العربي المستمد من الفقه الإسلامي، مستشهداً بقانون المعاملات المدنية (قانون السنهوري)، إلا أن الباحث القانوني السوري رامي الصايغ ردّ على ذلك بالقول:
«تجربة السنهوري والقانون المدني نجحت بالفعل، ولكن ليس بسبب استنادها الكامل إلى الفقه الإسلامي، بل بسبب نجاح السنهوري في الدمج الذكي بين التراث القانوني الإسلامي والمبادئ المدنية الأوروبية الحديثة. بالتالي، فإن نجاح تلك التجربة لا يصلح كتبرير لاعتماد قوانين ذات طابع ديني صَرفٍ في سوريا اليوم» (مدونة القانون والحداثة، 2025).
وفي سياق متصل، يرى الحقوقي أحمد مرعي أنَّ محاولة الشرع التقليل من أهمية النصوص التي تحتوي على عقوبات دينية متشددة، بحجة أنها لم تعد تطبق، غير مقنعة، إذ يشير إلى أنَّ:
«وجود هذه النصوص في الدستور أو القوانين، حتى إن لم تُفعّل اليوم، يمثل تهديداً مستمراً على المجتمع المدني، ويمكن لأي تغير سياسي أو اجتماعي أن يعيد فرضها بصورة قمعية ضد المواطنين، كما حدث سابقاً في عدد من دول المنطقة» (المركز السوري للحقوق المدنية، 2025).
من جهة أخرى، يستشرف محللون سياسيون وحقوقيون مخاطر وتحديات جديّة قد تواجه سوريا في حال استمرت محاولات تأسيس الدولة على أساس الهوية الدينية. وفي هذا السياق، يؤكد الباحث السياسي إبراهيم الحلبي أنَّ:
«فرض دستور ذي مرجعية دينية في عصرنا الراهن يُهدّد بزيادة الانقسامات الطائفية والمذهبية في المجتمع السوري، ما قد يؤدي إلى موجات جديدة من الاحتقان والصراع الداخلي»، محذراً من أن ذلك «سيفتح الباب واسعاً أمام انتشار التطرف الديني الذي سيستخدم النصوص الدستورية كغطاء شرعي لفرض رؤيته على المجتمع» (مركز المستقبل للأبحاث، 2025).
كما يشدد الحقوقي مازن عطية على أنَّ:
«استمرار الدولة في الاعتماد على مواد ذات طبيعة دينية يُضعف مكانتها دولياً ويُعرقل عملية الاندماج في المجتمع الدولي المعاصر، خصوصاً في ظل المعايير الحقوقية الحديثة التي ترفض أي تمييز قائم على الدين أو العرق أو الطائفة» (موقع حقوق الإنسان السوري، 2025).
وهناك عدد غفير من الخبراء السياسيين والاجتماعيين -يضيق المقال لذكرهم فرادى- يمكن تلخيص رؤيتهم حول محتوى نص مقال الدكتور حبش بأنَّ:
هذا النهج قد يؤدي إلى تفاقم الصراعات الداخلية وتجزئة المجتمع السوري، وإضعاف جهود التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ما يهدد مستقبل البلاد وقدرتها على التعافي من أزماتها السابقة. (فريق تحرير مآلات)
ختاماً
يؤكد المراقبون السياسيون السوريون أن محاولة أحمد الشرع فرض الهوية الدينية على الدولة السورية تحت مسمى احترام التاريخ والهوية، لا ينسجم إطلاقاً مع تطلعات السوريين لبناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة. إن سوريا بحاجة ماسة إلى دستور يحمي المواطنة المتساوية والتنوع الثقافي، بعيداً عن نصوص ذات طابع ديني أو طائفي، لضمان مستقبل أكثر استقراراً وعدالةً وانفتاحاً.
ويبقى السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم أمام السوريين بعد صدور هذا الإعلان الدستوري:
هل ينبغي على السوريين أن ينتظروا حتى يدفعوا ثمناً باهظاً لقرارات قد تُفرض عليهم دون إرادتهم؟ وهل من المنطقي أن نصمت حتى «تقع الفأس في الرأس»، ثم نبحث عن الحلول؟
وبصورة أكثر وضوحاً: ما هي الخيارات المتاحة أمام السوريين بعد السنوات الخمس التي طلبها أحمد الشرع لتحقيق رؤيته الخاصة للدولة، والتي يخشى كثيرون أنها قد تكون دولة مُفصّلة على مقاسه الأيديولوجي، وليس على مقاس طموحات السوريين بدولة مدنية ديمقراطية؟