تنويه:
“تتيح قراءة هذا المقال للقارئ فرصة الاطلاع على رؤى مستقبلية حول أمريكا،
يقدمها نخبة من المحللين والمراقبين السياسيين البارزين في الولايات المتحدة والغرب.”
مقدمة:
من زعامة بلا منازع إلى بداية الانحدار
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تربعت الولايات المتحدة الأمريكية على عرش النظام الدولي بوصفها القوة العظمى الأولى في العالم، وصاحبة النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري الأكثر تأثيراً. قادت مع الغرب الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، ورسخت نموذجها الديمقراطي الليبرالي كأساس للنظام العالمي، وتفوقت اقتصادياً وتقنياً على الجميع لعقود.
لكنْ، وفي ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم اليوم، بدأت مظاهر الانحدار في الدور الأمريكي تتجلّى بوضوح. التحديات الاقتصادية، الفوضى السياسية الداخلية، تآكل الثقة في القيادة العالمية لأمريكا، وظهور قوى دولية جديدة طموحة – وعلى رأسها الصين – كلّها مؤشرات تدق ناقوس نهاية حقبة الهيمنة الأمريكية.
ويرى والتر راسل ميد (Walter Russell Mead) هو أكاديمي وكاتب أمريكي بارز في مجال السياسة الخارجية الأمريكية أنَّ:
“النظام العالمي الذي قادته الولايات المتحدة يتفكك…” أو “بالتوازي مع التحديات الخارجية، يشير فرانسيس فوكوياما إلى أن الاستقطاب السياسي الداخلي في أمريكا يضعف قدرتها على القيادة العالمية.”
دلائل بداية السقوط
1. التراجع الاقتصادي والعلمي أمام المنافسين
لم تعد أمريكا مقصد الباحثين عن “أرض المستقبل”. هذا ما أكده الكاتب الأمريكي “توماس فريدمان” حين قال:
“رأيتُ المستقبل للتو.. لم يكن في أمريكا” – نيويورك تايمز.
وفي مقارنة حيَّة بين مدينة ديزني لاند في شنغهاي ومركز هواوي للأبحاث، وجد فريدمان نفسه أمام واقع مقلق:
“كان هناك وقتٌ كان الناس فيه يأتون إلى أمريكا لرؤية المستقبل. والآن يأتون إلى هنا”.
بينما تنشغل أمريكا بصراعات داخلية وسياسات محلية ضيقة، تبني الصين مختبرات المستقبل، تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتكسر القيود الأمريكية عبر إنتاج هواتف وأشباه موصلات متطورة رغم العقوبات.
2. ضعف القيادة السياسية وتخبط الاستراتيجية
من السياسات الشعبوية في عهد ترامب إلى الانقسام السياسي الداخلي الحاد، تعاني الإدارة الأمريكية من تآكل في قدرتها على اتخاذ قرارات استراتيجية متماسكة. فبينما تركز واشنطن على قضايا هامشية، تتجه الصين نحو تحقيق الهيمنة التكنولوجية والصناعية.
يصف فريدمان هذا التخبط بمرارة:
“يُركز الرئيس ترامب على الفرق التي يُمكن للرياضيين المتحولين جنسياً التسابق فيها، وتُركز الصين على تحويل مصانعها باستخدام الذكاء الاصطناعي لتتفوق على جميع مصانعنا”.
3. تراجع الثقة الدولية في الالتزام الأمريكي
سياسة الانسحاب المتكرر (من الاتفاق النووي الإيراني، من أفغانستان، ومن اتفاقات بيئية واقتصادية متعددة) أثرت سلباً على صورة الولايات المتحدة كحليف موثوق. لم تعد أوروبا، ولا حتى بعض دول آسيا، ترى في واشنطن الضامن الأول للاستقرار أو القائد الأخلاقي للنظام العالمي.
وقد رأى “جوزيف ناي-Joseph Nye، أستاذ في جامعة هارفارد أنه:
“على الرغم من أن الحديث عن ‘نهاية الهيمنة الأمريكية’ قد يكون مبالغاً فيه، إلا أننا نشهد بلا شك تحولاً في ميزان القوى العالمي. القدرة الأمريكية لا تزال كبيرة، لكنها أصبحت أقل هيمنة نسبياً مع صعود قوى أخرى وتزايد الترابط العالمي.”
استشراف مستقبل أمريكا
أ. صعود قوى متعددة القطبية
العالم لم يعد أحادي القطب. الصين، روسيا، الهند، تركيا، بل حتى تحالفات كـ”بريكس” و”شنغهاي“، تشكل اليوم بدائل في ميزان القوة الدولي. سيؤدي ذلك إلى تراجع وزن أمريكا في المنظمات العالمية وقرارات الأمن الدولي.
وجاءت قراءة رئيس مجموعة أوراسيا مقاربة لواقع المشهد الأمريكي الحالي “إيان بريمر-Ian Bremmer)، حيث قال:
“إنَّ العالم لم يعد أحادي القطب. نحن نتحرك نحو نظام ‘جي صفر‘ حيث لا توجد قوة عظمى مهيمنة قادرة على فرض النظام. هذا يخلق حالة من عدم الاستقرار المتزايد وتنافساً شرساً بين القوى الكبرى.”
أما روبرت “كاجان-Robert Kagan“، زميل أول في معهد بروكينغز يقول:
“إنَّ الوهم بأن النظام الليبرالي العالمي سيستمر إلى الأبد قد تبدد. صعود الأنظمة الاستبدادية وتراجع الديمقراطية في الداخل يقوِّضان الأسس التي قامت عليها الهيمنة الأمريكية. نحن نشهد لحظة حرجة في التاريخ.”
مثال واقعي: تدخل روسيا في أوكرانيا دون ردع حاسم من واشنطن، وتوسع النفوذ الصيني في إفريقيا والشرق الأوسط.
ب. الانقسام الداخلي الأمريكي
الاستقطاب السياسي الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، تصاعد حركات العنف الداخلية، وفقدان الثقة في المؤسسات، كلها مؤشرات على أزمة داخلية عميقة قد تؤدي إلى “شلل استراتيجي” يعوق قدرة أمريكا على الحفاظ على موقعها العالمي.
أما الباحث في معهد هوفر بجامعة ستانفورد، “فرانسيس فوكوياما-Francis Fukuyama“، يقول في هذا السياق:
“إنَّ الاستقطاب السياسي العميق وتآكل المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة يقوض قدرتها على لعب دور قيادي فعال على الساحة العالمية. عندما تكون منقسماً في الداخل، يصبح من الصعب إقناع الآخرين باتباع قيادتك.”
وقد بيَّن تقرير مركز “بيو للأبحاث” (2023) أنَّ:
“65% من الأمريكيين يعتقدون أن الديمقراطية الأمريكية لم تعد نموذجاً يُحتذى به”.
ج. التراجع التكنولوجي أمام الصين
بينما تفرض أمريكا قيوداً على صادرات التكنولوجيا، تصعد شركات صينية مثل هواوي، وبايت دانس، وعلي بابا، لتشكل تهديداً حقيقياً للهيمنة الأمريكية في هذا القطاع. لقد “تفوقت الصين في استخدام الذكاء الاصطناعي كمحرك للثورة الصناعية الرابعة”، بحسب ما أوردته مجلة “Nature AI” عام 2024.
فشل إدارة الأزمات في الشرق الأوسط
رغم امتلاكها نفوذاً واسعاً في المنطقة، فشلت الولايات المتحدة في التعامل بفاعلية مع أزمات الشرق الأوسط الكبرى، وظلَّ تدخلها غير المتوازن والمجزأ سبباً في تفاقم النزاعات وتعميق معاناة الشعوب بدلاً من حل الأزمات.
فيما يلي إضاءة على ثلاثة من أبرز الساحات التي أظهرت تخبط السياسة الأمريكية:
1. سوريا: التخبط بين الانسحاب والتدخل المحدود
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، كانت الاستراتيجية الأمريكية غير مستقرة، إذ ترددت واشنطن بين دعم المعارضة المسلحة، ثم محاربتها، قبل أن تسحب معظم قواتها في 2019 بشكل مفاجئ، ما فتح الباب لعودة النظام إلى مناطق شاسعة ولتمدّد النفوذ الروسي والإيراني.
وفي هذا السياق، كتب سفير الولايات المتحدة السابق في سوريا “روبرت فورد-Robert Ford“،:
“إنَّ السياسة الأمريكية المترددة والمتضاربة تجاه سوريا سَمحت بتوسع نفوذ قوى أخرى، مثل روسيا وإيران، وعمّقت الأزمة الإنسانية والأمنية. لقد فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها كقوة قادرة على التأثير في مسار الأحداث هناك.”
شاهد حي:
انسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا في أكتوبر 2019 سمح لتركيا بشن هجوم ضد قوات سوريا الديمقراطية، الحليف المحلي الأساسي لأمريكا في الحرب ضد داعش. انتقد كثيرون هذا الانسحاب، واصفين إياه بـ”الخيانة للحلفاء” – كما كتب واشنطن بوست:
“الانسحاب لم يُضعف داعش فقط، بل قوَّض ثقة كل من تعاون مع أمريكا في الشرق الأوسط”.
كما أن إدارة أوباما، رغم تصريحاتها حول “الخط الأحمر” بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية، تراجعت عن توجيه ضربة عقابية للنظام السوري في 2013، وهو ما اعتُبر تراجعاً مريعاً عن المبادئ التي رفعتها واشنطن.
وقد فَسر ذلك مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق لشؤون الشرق الأدنى “ديفيد شينكر – David Schenker” بقوله:
“إنَّ عدم وجود استراتيجية واضحة ومتماسكة للتعامل مع الأزمة السورية أدى إلى نتائج كارثية. لقد تخلت الولايات المتحدة عن حلفائها وتركت فراغاً استغلته قوى معادية لمصالحها.”
2. لبنان: دعم انتقائي وتجاهل للأزمات البنيوية
على الرغم من التدهور الاقتصادي والانهيار السياسي الحاد في لبنان، بقيت السياسة الأمريكية متذبذبة، تقوم على دعم محدود للجيش اللبناني، مقابل تجاهل الأسباب العميقة للأزمة كغياب الإصلاح، والفساد، والتدخلات الخارجية.
وفي هذا السياق، صرحت “دوروثي شيا – Dorothy Shea“، سفيرة الولايات المتحدة في لبنان:
“إنَّ الأزمات المتعددة التي يواجهها لبنان تتطلب دعماً دولياً منسقاً واستراتيجية واضحة. التردد في تقديم الدعم الحاسم والإصرار على شروط قد تكون غير واقعية في السياق اللبناني يعيق الحلول ويطيل أمَد المعاناة.”
مثال حي:
في عام 2021، أعلن وزير الخارجية الأمريكي السابق “مايك بومبيو” استمرار دعم الجيش اللبناني كمؤسسة “مستقلة”، لكن في الواقع، لم يترافق هذا الدعم مع أي استراتيجية شاملة لمعالجة الجمود السياسي أو تحجيم دور “حزب الله”، وهو ما أضعف من فعالية هذا الدعم، كما أكدت صحيفة Foreign Policy بأنَّ:
“السياسة الأمريكية في لبنان تُظهر انفصالاً حاداً بين التصريحات والواقع الميداني”.
النتيجة؟ استمرار الانهيار، هجرة جماعية، وعجز تام في مؤسسات الدولة عن تلبية الحد الأدنى من الخدمات.
وكما صرح “مارتن إنديك – Martin Indyk“، زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية وسفير الولايات المتحدة الأسبق لدى إسرائيل قائلاً:
“إنَّ عدم قدرة الولايات المتحدة على تسهيل حلول سياسية واقتصادية مستدامة في لبنان سمح لقوى إقليمية ودولية أخرى بتعميق نفوذها، مما يزيد من تعقيد الوضع ويقوض الاستقرار الإقليمي.”
3. اليمن: دعم الحرب دون مشروع للسلام
منذ بدء الحرب اليمنية/السعودية عام 2015، دعمت الولايات المتحدة التحالف الذي تقوده السعودية عبر صفقات السلاح والدعم اللوجستي والاستخباراتي، دون أن تضع رؤية متكاملة لحل النزاع. هذا الدعم ساهم في تفاقم الأزمة الإنسانية، التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها “الأسوأ في العالم“.
يقول “بروس ريدل-Bruce Riedel“، زميل كبير في معهد بروكينغز:
“إنَّ الدعم الأمريكي غير المشروط للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، على الرغم من التداعيات الإنسانية الكارثية، أضر بصورة الولايات المتحدة وقوَّض جهود السلام. لقد أظهر غياب استراتيجية واضحة لكيفية إنهاء الحرب.”
شاهد حي:
في عام 2018، تم الكشف عن أنَّ الذخائر الأمريكية استخدمت في قصف استهدف حافلة مدرسية في صعدة، أسفر عن مقتل 40 طفلاً. أما تقرير CNN آنذاك، أكّد أن القنبلة كانت من صنع أمريكي، مما أثار موجة انتقادات داخل الكونغرس ضد استمرار دعم الحرب.
ورغم تغيير النبرة قليلاً في عهد إدارة بايدن، بإعلان وقف دعم “العمليات الهجومية”، لم يُترجم ذلك إلى جهود سياسية كافية لرعاية عملية سلام فعالة وشاملة.
وفي هذا الصدد قال “جيرالد فايرستاين-Gerald Feierstein“، سفير الولايات المتحدة السابق في اليمن:
“إنَّ التعامل الأمريكي مع الأزمة اليمنية اتسم بالضبابية وعدم الحسم. لقد تذبذبت السياسات بين دعم العمليات العسكرية والدعوة إلى حل سياسي، مما أطال أمد الصراع وعمق الأزمة الإنسانية.”
استمرار تَخبّط الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط
تكشف السياسات الأمريكية عن نمط واضح، ومتذبذب أيضاً، مثل التدخل المتردد أو المنحاز، وممارسة دعم جزئي دون ضغط حقيقي لتحقيق حلول سياسية عادلة، وغياب الرؤية طويلة الأمد. وهذا كله ساهم في تعميق الصراعات في منطقتنا العربية، بدلاً من تسويتها.في ضوء اقتباسات المراقبين السياسيين شواهد كثيرة على تخبط الإدارات الأمريكية المتعاقبة في إدارة بعض الملفات الحساسة في دول الشرق الأوسط. ومن هذه الدول:
-
جمهورية مصر العربية:
- تقول “ميشيل دون-Michele Dunne“، زميلة أولى ومديرة برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي:
“إنَّ السياسة الأمريكية تجاه مصر تفتقر إلى التوازن بين دعم الاستقرار والمطالبة بالإصلاحات الديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا التذبذب أضعف مصداقية الولايات المتحدة ولم يحقق أياً من الهدفين بشكل كامل.”
- ويرى “ستيفن كوك-Steven A. Cook“، زميل أول في مجلس العلاقات الخارجية:
“إنَّ التركيز الأمريكي المفرط على مكافحة الإرهاب في مصر على حساب قضايا الحكم الرشيد وحقوق الإنسان أدى إلى تقويض أسس الاستقرار على المدى الطويل وفتح الباب أمام انتقادات واسعة للدور الأمريكي.”
-
دول الخليج العربي:
- يصف “بروس جونز-Bruce Jones”، زميل أول ومدير برنامج الأمن العالمي والنظام الدولي في معهد بروكينغز:
“إنَّ التحولات في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، بما في ذلك التردد في التدخل في بعض الأزمات والتركيز المتزايد على التنافس مع الصين وروسيا، أثارت تساؤلات لدى دول الخليج حول مدى اعتمادها على الولايات المتحدة كضامن أمني.”
- أما “كريستين سميث ديوان-Kristin Smith Diwan”، باحثة أولى في معهد دول الخليج العربي في واشنطن، ترى:
“إنَّ عدم اليقين بشأن الالتزامات الأمنية الأمريكية والتغيرات في أولوياتها الإقليمية دفعت دول الخليج إلى تنويع شراكاتها الخارجية واستكشاف مسارات دبلوماسية وسياسية مستقلة بشكل أكبر.”
خاتمة المقال:
نهاية الهيمنة نتيجة قرارات داخلية
ما يحدث ليس نتيجة ضغوط خارجية فقط، بل نتيجة قرارات أمريكية ذاتية. عندما تختار واشنطن الانعزال، وتغلق أبواب الابتكار الحقيقي، وتتخبط في أولوياتها، فإنها تمهد الطريق لتراجعها.
ومما يؤكد اقتراب انكماش هيمنة الولايات المتحدة تدريجياً، تلك الرسالة التي أرسلتها بكين للعالم بوضوح، كما قال المحلل السياسي “فريدمان”:
“لسنا خائفين منكم. أنتم لستم من تظنون أنفسكم – ونحن لسنا من تظنون أننا كذلك”.
لقد جلبت أمريكا على نفسها قَدرَ تراجعها، بإرادتها، عبر سياسات غير مدروسة، واستهانة بقدرة العالم على التحول والتطور بعيداً عنها.
والسؤال الذي يفرض نفسه:
“هل سيتمكن قادة الدول العربية، في ظل المتغيرات الراهنة، من اتخاذ قرارات مستقلة تعكس مصالح شعوبهم وتطلعاتهم، بعد فترات طويلة من الهيمنة الخارجية؟ أم أن قيوداً خفية ستظل تؤثر على خياراتهم؟”