توطئة
بعد نجاح الشعب السوري العظيم بإسقاط النظام السابق، وفي مرحلة بناء الدولة الحديثة، تبرز ضرورة الإيمان المطلق بوحدة سوريا أرضاً وشعباً، والسعي نحو بناء هوية سورية جامعة تتجاوز الطوائف والمذاهب والقوميات والاثنيات، باعتبار أن سوريا تشكل فسيفساء مجتمعية وثقافية رائعة على مدى العصور.
ينبغي أن يتمحور المشروع الوطني الجديد حول تنشيط الحوار السوري- السوري، وتكريسه كأولوية قصوى لبناء الثقة بين مكونات الشعب السوري، وترسيخ الهوية السورية الجامعة كضمانة لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
المبادئ الأساسية لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة
المواطنة والمساواة:
يشير مفهوم “المواطنة والمساواة” إلى العلاقة بين الفرد والدولة التي تقوم على أساس الحقوق والواجبات المتبادلة، وتستند إلى مبدأ المساواة الكاملة بين جميع المواطنين أمام القانون وفي الحقوق والفرص، دون أي تمييز على أساس العرق، أو الدين، أو الجنس، أو اللغة، أو الأصل الاجتماعي، أو أي وضع آخر.
“العدالة ليست سوى المساواة، باستثناء الحالات التي يقتضي فيها الإنصاف الانحراف عنها.” – جون ستيوارت ميل
لتوضيح هذا المفهوم بشكل أعمق، يمكن تفصيله إلى العناصر التالية:
1. المواطنة:
- الانتساب القانوني للدولة: هي العلاقة القانونية التي تربط الفرد بالدولة، وتمنحه حقوقاً معينة وتفرض عليه واجبات محددة.
- حقوق وواجبات متبادلة: يحصل المواطن بموجب هذه العلاقة على مجموعة من الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تكفلها الدولة، وفي المقابل، يلتزم بواجبات تجاه الدولة والمجتمع، مثل احترام الدستور والقوانين، والمشاركة في الحياة العامة، والدفاع عن الوطن.
- الشعور بالانتماء والولاء: تتضمن المواطنة أيضاً بعداً اجتماعياً وثقافياً يتمثل في شعور الفرد بالانتماء إلى مجتمعه ووطنه، وبالاعتزاز بهويته الوطنية، والالتزام بقيمه ومبادئه.
2. المساواة:
- المساواة أمام القانون: يعني أن جميع المواطنين يخضعون لنفس القوانين ويتم تطبيقها عليهم بشكل عادل دون أي استثناء أو محاباة.
- المساواة في الحقوق: يعني أن جميع المواطنين يتمتعون بنفس الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يكفلها الدستور والقانون، مثل الحق في التصويت، والترشح للمناصب العامة، وحرية التعبير، والحق في التعليم والصحة والعمل.
- المساواة في الفرص: يعني توفير فرص متكافئة لجميع المواطنين في مختلف المجالات، مثل التعليم، والتوظيف، والوصول إلى الموارد والخدمات، دون أي تمييز يعيق تقدمهم أو تحقيق إمكاناتهم.
- نبذ التمييز: يتطلب تحقيق المساواة القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، أو الديني، أو الجنسي، أو غيره من أشكال التمييز التي تحرم الأفراد من حقوقهم أو تقلل من فرصهم على أساس سمات شخصية غير ذات صلة بقدراتهم أو جدارتهم.
العلاقة بين المواطنة والمساواة:
المساواة هي حجر الزاوية في مفهوم المواطنة الحديثة. فالمواطنة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل نظام يضمن المساواة الكاملة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات والفرص. عندما يشعر جميع الأفراد بأنهم متساوون أمام القانون وأن حقوقهم محمية وفرصهم متكافئة، فإن ذلك يعزز من شعورهم بالانتماء والولاء للدولة ويشجعهم على المشاركة الفعالة في بناء مجتمعهم.
باختصار، مفهوم “المواطنة والمساواة” يرتكز على فكرة أن جميع الأفراد الذين ينتمون إلى دولة معينة يجب أن يتمتعوا بنفس الحقوق ويتحملوا نفس الواجبات،
وأن يتم التعامل معهم على قدم المساواة دون أي تمييز، مما يؤدي إلى بناء مجتمع أكثر عدلاً وتماسكاً وازدهاراً. – كاتب المقال
ولا يمكن تحقيق هذه العلاقة إلا بتوافر الشروط التالية:
- ضمان مساواة جميع السوريين أمام القانون بغض النظر عن الدين أو العرق أو المذهب أو الانتماء السياسي أو الإثنين.
- التأكيد على أن لا تمنح أي فئة أو مكون ضمانات فوق دستورية.
- رفض نظام المحاصصة والامتيازات، واعتماد مبدأ تكافؤ الفرص.
- تضمين الدستور آليات لحماية حقوق الأقليات الثقافية واللغوية ضمن إطار المواطنة.
العدالة الانتقالية:
تُعرّف العدالة الانتقالية بأنها مجموعة من العمليات والآليات القانونية وغير القانونية التي تتبناها المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية من نزاعات واسعة النطاق أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان أو حكم استبدادي نحو السلام والديمقراطية وسيادة القانون والمصالحة الوطنية.
باختصار، العدالة الانتقالية هي مسعى شامل لمعالجة إرث الماضي المؤلم من الانتهاكات والصراعات، وبناء أسس مجتمع أكثر عدلاً واستقراراً في المستقبل. – كاتب المقال
أما في الحالة السورية الراهنة، تعتبر العدالة الانتقالية مفهوماً مرناً ومتطوراً، ولا يوجد نموذج واحد يناسب جميع الحالات. يعتمد نجاحها على فهم السياق المحلي، ومشاركة الضحايا والمجتمع المدني، والإرادة السياسية القوية، ومحاسبة كل من ساهم في استبداد السوريين من رأس الهرم إلى القاعدة.
ومن أولويات تحقيق العدالة الانتقالية مايلي:
- إنشاء هيئة وطنية مستقلة للعدالة الانتقالية تضم قضاة ومحامين وخبراء في حقوق الإنسان.
- تشكيل محاكم مستقلة أو هجينة لمحاكمة مرتكبي جرائم القتل والتعذيب والاعتقال والإخفاء القسري، على ألا تشمل هذه الجرائم بأحكام التقادم.
- إنشاء لجنة للحقيقة والمصالحة تعمل على توثيق الانتهاكات وجبر الضرر للضحايا.
- إلغاء جميع البيوع العقارية المشبوهة بعد مارس 2011، وإعادة النظر في العقود العقارية المبرمة خلال تلك الفترة.
- مراجعة كافة الاتفاقيات الدولية وعقود الاستثمار المبرمة بعد مارس 2011، وخاصة تلك التي تمس السيادة الوطنية.
الدستور:
يُعرف مفهوم الدستور بأنه:
القانون الأساسي والأعلى للدولة، الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبين السلطات العامة واختصاصاتها وعلاقاتها ببعضها البعض، كما يحدد حقوق الأفراد وحرياتهم وواجباتهم، ويضع الضمانات الأساسية لحمايتها. – كاتب المقال
بعبارة أخرى، الدستور هو الإطار القانوني الذي ينظم حياة الدولة والمجتمع، ويضع القواعد الأساسية التي يجب على جميع القوانين واللوائح الأخرى أن تلتزم بها. ويتطلب تحقيق ذلك ما يلي:
- انتخاب هيئة تأسيسية لا يقل عدد أعضائها عن 150 عضواً، على أن تضم خبرات متنوعة، وأن يخصص نصف مقاعدها للحقوقيين.
- صياغة دستور عصري يعكس التعدد السوري ويحمي الحقوق الفردية والجماعية.
- التأكيد على كرامة الإنسان، وحرية التعبير، والملكية، والتعليم، والعمل، والعقيدة، وحق التقاضي.
- الالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
- إدراج ضمانات للمساواة الجندرية وتمثيل المرأة بنسبة لا تقل عن 30% في الهيئات المنتخبة والتأسيسية.
الفصل بين السلطات:
الفصل بين السلطات هو مبدأ دستوري أساسي يقوم على توزيع سلطات الدولة الرئيسية (عادةً التشريعية والتنفيذية والقضائية) على هيئات أو مؤسسات مستقلة ومتميزة عن بعضها البعض.
باختصار، الفصل بين السلطات هو آليَّة مؤسسيَّة تهدف إلى ضمان الحرية والعدالة ومنع إساءة استخدام السلطة من خلال توزيعها،
وتحقيق التوازن والرقابة المتبادلة بين الهيئات الحكومية المختلفة. – كاتب المقال
يهدف هذا المبدأ إلى تحقيق ما يلي:
- ضمان استقلال السلطات الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية).
- تفعيل الدور الرقابي للبرلمان.
- منع العسكريين والقضاة من ممارسة العمل السياسي أثناء توليهم مناصبهم.
- إنشاء مجلس قضاء أعلى مستقل.
التشريعات:
مفهوم مصطلح “التشريعات“، يشير بشكل عام إلى مجموعة القواعد القانونية المكتوبة والصادرة عن السلطة المختصة في الدولة (عادةً السلطة التشريعية أو البرلمان)، والتي تنظم سلوك الأفراد والمؤسسات وعلاقاتهم ببعضهم البعض وبالدولة.
باختصار، التشريعات هي الأدوات القانونية الرئيسية التي تستخدمها الدولة لتنظيم المجتمع وتوجيهه وتحقيق أهدافها، وتعتبر تعبيراً عن إرادة السلطة التشريعية في إطار الدستور. – كاتب المقال
وبما أنَّ التشريعات تعتبر المصدر الرئيسي للقانون الوضعي في معظم الدول الحديثة، يتطلب الوضع السوري الراهن تنفيذ الأوليات التالية:
- إصدار قانون عصري للأحزاب يضمن التعددية السياسية وحرية التنظيم.
- تفعيل الحياة البرلمانية.
- إخضاع جميع القوانين للمراجعة من قبل لجان متخصصة مؤلفة من قضاة ومحامين وخبراء.
- العمل على مواءمة التشريعات الوطنية مع التزامات سوريا الدولية.
الديمقراطية والتعددية السياسية:
تعريف الديمقراطية:
الديمقراطية، في أبسط تعريفاتها، هي حكم الشعب للشعب. وهي نظام سياسي تكون فيه السلطة العليا مستمدة من الشعب وتمارس إما بشكل مباشر من قبلهم أو بشكل غير مباشر من خلال نظام من التمثيل الانتخابي الحر والنزيه.
تعريف التعددية السياسية:
التعددية السياسية هي مبدأ ونظام يسمح بتنوع الآراء والمعتقدات والمصالح السياسية المختلفة داخل المجتمع، ويعترف بحق هذه المجموعات في التنظيم والتعبير عن نفسها والمشاركة في العملية السياسية بشكل سلمي وقانوني.
العلاقة بين الديمقراطية والتعددية السياسية:
تعتبر التعددية السياسية عنصراً أساسياً وضرورياً للديمقراطية بعدم وجود تعدد في الآراء والأحزاب والمنظمات، تصبح الانتخابات مجرد إجراء شكلي، ويفتقد النظام السياسي إلى الحيوية والتنافسية اللازمة لضمان تمثيل حقيقي لإرادة الشعب. فالتعددية توفر خيارات متنوعة للناخبين وتشجع على النقاش العام وتبادل الأفكار، مما يساهم في اتخاذ قرارات أفضل ويعزز من شرعية النظام الديمقراطي.
باختصار، الديمقراطية هي نظام حكم يقوم على حكم الشعب، بينما التعددية السياسية هي أحد الركائز الأساسية التي تضمن أن يكون هذا الحكم معبراً عن مختلف الآراء والمصالح الموجودة في المجتمع بشكل حر وتنافسي. – كاتب المقال
وفي الحالة السورية الراهنة، لا تتحقق هذه العلاقة إلا بتنفيذ الإجراءات التالية:
- نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعايش.
- اعتماد نظام انتخابي نسبي عادل يراعي التمثيل المتوازن لكافة المكونات.
- جعل المحافظة دائرة انتخابية واحدة.
- تمكين المرأة والشباب وذوي الإعاقة من المشاركة السياسية.
المجتمع المدني:
المجتمع المدني هو مجموعة التنظيمات والمؤسسات التطوعية غير الحكومية وغير الربحية التي تنشأ بمبادرات أهلية حرة، وتشغل المجال العام بين الأسرة والدولة. يضم هذا المفهوم طيفاً واسعاً من الكيانات مثل الجمعيات الأهلية، والمنظمات غير الحكومية، والنقابات المهنية، والاتحادات الطلابية، والمراكز البحثية المستقلة، والمبادرات المجتمعية، وغيرها.
باختصار، المجتمع المدني هو قوة دافعة للتغيير الإيجابي في المجتمع، ويعتبر عنصراً أساسياً في بناء دولة ديمقراطية حديثة تحترم حقوق الإنسان وتعزز التنمية المستدامة. – كاتب المقال
ويتطلب تحقيق ذلك:
- تمكين المجتمع المدني من أداء دوره في الرقابة والمحاسبة.
- دعم حرية تشكيل الجمعيات والمنظمات الأهلية.
- حماية الصحافة المستقلة.
العدالة الاقتصادية والبيئية:
تعريف العدالة الاقتصادية:
العدالة الاقتصادية، هي مفهوم واسع يشير إلى توفير فرص اقتصادية عادلة ومتكافئة لجميع أفراد المجتمع، بغض النظر عن خلفياتهم أو ظروفهم. تتجاوز مجرد المساواة في النتائج لتركّز على العدالة في العمليات والأنظمة الاقتصادية التي تؤدي إلى توزيع الموارد والثروة.
تعريف العدالة البيئية:
العدالة البيئية هي مبدأ يؤكد على الحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة لجميع الناس، بغض النظر عن العرق، أو اللون، أو الأصل القومي، أو الدخل. وتسعى إلى معالجة التوزيع غير العادل للأعباء والمخاطر البيئية، حيث غالباً ما تتحمل المجتمعات المهمشة والفقيرة أعباء تلوث البيئة وتدهورها بشكل غير متناسب.
العلاقة بين العدالة الاقتصادية والبيئية:
غالباً ما تكون العدالة الاقتصادية والعدالة البيئية مترابطتين. فالمجتمعات الفقيرة والمهمشة غالباً ما تكون أكثر عرضة للتلوث والأضرار البيئية بسبب عوامل مثل قربها من المناطق الصناعية أو مكبات النفايات، ونقص الموارد اللازمة للمطالبة بحقوقها البيئية أو الانتقال إلى مناطق أكثر أماناً. كما أن التدهور البيئي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية من خلال التأثير على الصحة والإنتاجية وسبل العيش. لذلك، فإن تحقيق العدالة المستدامة يتطلب معالجة كل من الظلم الاقتصادي والبيئي بشكل متكامل.
“إن السعي لتحقيق النمو الاقتصادي على حساب البيئة يخلق نظاماً غير عادل للأجيال القادمة، ويحرمهم من الموارد الطبيعية ويهدد استقرارهم.”- كاتب المقال
ويتطلب تحقيق هذه العلاقة في بناء سوريا الجديدة إعطاء مايلي كأولوية ضرورية :
- ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل: السكن والعمل والرعاية الصحية.
- مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة.
- حماية البيئة والثروات الطبيعية وضمان إدارتها الشفافة.
خاتمة:
تشكل هذه المبادئ اساساً متينا لبناء سوريا الجديدة على أسس الديمقراطية، والمواطنة، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وهي ليست فقط استجابة لمطالب السوريين، بل تمثل طريقاً وحيداً لتفادي إعادة إنتاج الاستبداد، وضمان مستقبل آمن وعادل لجميع أبناء الوطن.