مقدمة:
بين واقع مأزوم وطموحات البناء
في لحظة مفصلية من تاريخ سورية، وبعد عقود من التراجع والتهميش على مختلف المستويات، بات من الضروري إعادة التفكير الجذري في ركائز بناء الدولة السورية الجديدة. وبينما تُطرح أولويات إعادة الإعمار، واستنهاض الاقتصاد، وترسيخ العدالة، يغيب – أو يكاد – أحد أعمدة النهضة الحقيقية: البحث العلمي. ورغم أن الشعارات حول “سورية المستقبل” تُرفع في كل محفل، إلا أن الأفعال لا تزال قاصرة عن دعم أهم أداة لصناعة هذا المستقبل: مراكز البحوث العلمية.
“المجتمعات التي تستثمر في عقول أبنائها وتطلق طاقاتهم الإبداعية من خلال البحث العلمي، هي الأكثر قدرة على تجاوز التحديات وتحقيق مستقبل أفضل.”
أهمية البحث العلمي في تطوير بناء الدولة
البحث العلمي ليس ترفاً فكرياً أو نشاطاً نخبوياً منعزلاً عن الواقع، بل هو العمود الفقري لصناعة السياسات العامة، وتحسين التعليم، وتطوير الاقتصاد، وتعزيز الأمن الغذائي والدوائي والتقني. لا يمكن لدولة أن تنهض دون قاعدة معرفية تدعم قراراتها وتوجهاتها. فالدول التي سبقتنا في مضمار التنمية لم تفعل ذلك بالموارد فقط، بل بالعلم والبحث والمراكمة المعرفية المستمرة. البحث العلمي يفتح الأبواب لحلول مبتكرة لمشكلات متجذرة، ويمكّن الدولة من التخطيط المستقبلي المبني على بيانات وتحليلات، لا على ارتجال وظروف طارئة.
“إن مستقبل أي أمة مرهون بقدرتها على إنتاج المعرفة وتوظيفها في خدمة التنمية الشاملة.” – “مقولة شائعة بين الباحثين في مجال التنمية”.
واجبات الحكومة المؤقتة: نحو تفعيل مراكز البحث العلمي
تقع على عاتق الحكومة المؤقتة – أو أية حكومة انتقالية – مسؤولية تأسيس الأرضية المؤسسية والمعرفية التي تضمن انتقالاً سليماً نحو سورية جديدة. ولا يمكن لذلك أن يتم دون إعادة الاعتبار للبحث العلمي. ويتطلب ذلك إجراءات عاجلة منها:
- تخصيص ميزانية مستقلة لمراكز البحث العلمي، بعيداً عن منطق “الرواتب والتسيير الإداري” فقط.
- سنّ قوانين تمنح هذه المراكز استقلالاً أكاديمياً وإدارياً، وتضمن حريات أكاديمية حقيقية.
- إطلاق برامج للابتعاث الخارجي، مع ضمان عودة الباحثين ودمجهم في مراكز مؤهلة للعمل.
- بناء شراكات مع القطاع الخاص لتشجيع البحث التطبيقي المرتبط بالحاجات التنموية.
“إنَّ إعادة بناء ما دمرته الحروب والصراعات لا يقتصر على ترميم البنى التحتية المادية، بل يتطلب بناء قاعدة معرفية قوية،
تمكن المجتمع من استئناف مسيرته نحو التقدم والازدهار.”
التحديات… وكيفية التصدي لها
إن أبرز التحديات التي تعيق تطوير مراكز البحث العلمي في سورية تشمل:
- قلة الإنفاق: حيث يُنظر إلى البحث العلمي كمجال غير “مربح فورياً”، بينما نتائجه تحتاج سنوات لتثمر، وهو ما يتطلب تغيّراً في الذهنية الحكومية، التي سبق أنْ شجعت -قبل اجتياح باقي مدن سوريا- على إحداث العديد من الجامعات في الشمال المحرر التي كانت أهدافها التجارة دون التركيز على البعد التعليمي المتخصص .
- ضعف البنية التحتية والمؤسساتية: فمعظم مراكز البحث القائمة متآكلة، وتفتقر إلى الأجهزة والكوادر والخطط.
- غياب القطاع الخاص الفاعل: الذي عادة ما يكون المحرك الرئيس للبحث التطبيقي في الدول المتقدمة.
- المناخ العام الطارد للعقول: حيث لا توجد بيئة تحفّز الباحث على الإبداع، بل على العكس، يُعامل كثير منهم كموظفين لا كمنتجين للمعرفة.
لا يمكن مواجهة هذه التحديات والارتقاء بالبحث العلمي إلا من خلال إرساء بيئة محفزة قوامها الحرية الأكاديمية الراسخة، وتوفير التمويل الكافي والمستدام، وتقديم حوافز مجزية للباحثين، وتمكين قيادات علمية مستقلة في المؤسسات البحثية. وعلاوة على ذلك، يستلزم الأمر تجاوز المركزية البيروقراطية والابتعاد عن أي تدخلات أمنية في عمليات التعيين داخل الجامعات والمراكز البحثية، خاصة بعد ما شهده مركز البحوث العلمية من تدهور وترهل في ظل النظام السابق.
وفي هذا السياق الحيوي، يجب التنبيه بشدة على ضرورة أن تتجنب الحكومة المؤقتة تكرار أخطاء تجربتها السابقة -عندما كانت تسيطر على مناطق الشمال المحرر- حيث شجعت إنشاء جامعات هدفها الأساسي تخريج أعداد كبيرة من الطلاب في مختلف التخصصات الأكاديمية، لكنها افتقرت إلى الحد الأدنى من المعايير التعليمية والخبرات اللازمة، وتحولت في واقع الأمر إلى مؤسسات ربحية بحتة لا تخدم جودة التعليم أو البحث العلمي.
“المجتمعات التي تستثمر في عقول أبنائها وتطلق طاقاتهم الإبداعية من خلال البحث العلمي، هي الأكثر قدرة على تجاوز التحديات وتحقيق مستقبل أفضل.”
اختصاصات بحثية تُلحّ بها المرحلة… إعادة تفعيل مراكز وطنية
في المرحلة الراهنة، ثمة أولويات بحثية تمليها طبيعة التحولات السورية، أبرزها:
- دراسات الإعمار العمراني والمجتمعي.
- الأمن الغذائي والمائي في ظل التغير المناخي والجفاف.
- التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في خدمة الحوكمة.
- دراسات العدالة الانتقالية والتوثيق المجتمعي.
- علوم الطبابة المجتمعية والنفسية لمعالجة آثار الحرب.
ومن هذا المنطلق، يبدو ملحاً إعادة تفعيل مركز البحوث العلمية الذي توقّف بعد انتصار الثورة، إذ يُفترض أن يكون هذا المركز بوابة لتجميع الطاقات العلمية السورية في الداخل والخارج، وإعادة توظيفها في بناء المستقبل.
“البحث العلمي هو المحرك الأساسي للابتكار، والابتكار هو قاطرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.” – منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

خاتمة: نداء للحكومة الانتقالية
نتوجه بنداء ملحّ إلى الحكومة الانتقالية: إنَّ تأسيس سورية الجديدة لا يقتصر على المسارات السياسية أو جهود الإغاثة فحسب، بل يستوجب إطلاق نهضة معرفية شاملة، قوامها مراكز بحث علمي مستقلة وحاضنة، يقودها علماء سوريون مبدعون، هم ثروة الوطن المشتتة في أصقاع المنافي والاغتراب. بناءً على متابعتنا الدقيقة لتطلعات هؤلاء الخبراء والكفاءات العلمية السورية في الخارج، نؤكد أنهم يتطلعون ببالغ الشغف إلى موقف حاسم من الحكومة الانتقالية. فإن كانت عازمة حقاً على إرساء دعائم دولة مدنية حديثة، فلتضع البحث العلمي في صميم أولوياتها، لا مجرد بند ثانوي في أجندتها. ولسان حال هؤلاء العلماء الأجلاء ينادي:
“إن العقول النيرة، لا فوهات البنادق، هي التي تبني الأوطان وتصنع مستقبلها الزاهر.”