فجر جديد في الأفق، لكن الغموض لا يزال يلف المشهد
بعد سنوات من الكفاح، والمعاناة، والتضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب السوري منذ انطلاقة الثورة عام 2011، بدا وكأن فجراً جديداً قد بدأ يلوح في الأفق. لقد تمكنت قوى الثورة من فرض واقع جديد، أنهى حقبة الاستبداد، وفتح الباب أمام سوريا مختلفة. إلا أن هذا الانتصار لا يعني نهاية الطريق. بل هو، في الحقيقة، بداية مرحلة جديدة من التحديات المعقدة، التي قد لا تقل خطورة عن التحديات الحقبة التي سبقتها.
فكما أن انبلاج الصباح لا يعني زوال الضباب، فإن سقوط النظام لا يعني بالضرورة بداية واضحة المعالم لدولة جديدة. فالمشهد لا يزال غامضاً، تتجاذبه قوى متنافسة، ومصالح متشابكة، وإرث ثقيل من الحرب والانقسام. في هذا السياق، تبرز حكومة “الأمر الواقع” بوصفها أبرز ملامح المرحلة الانتقالية، لتكون محور هذا التحليل الذي يسعى إلى تقييم أدائها، داخلياً وخارجياً، وفهم دورها في رسم مستقبل سوريا.
أولاً: حكومة الأمر الواقع بين التأسيس وتحديات الاعتراف
تشكل الولادة العسيرة
تبلورت حكومة الأمر الواقع في سياق معقد، عقب انهيار بنية الدولة المركزية، وظهور كيانات محلية وإقليمية ذات طابع سياسي وإداري وأمني. غالباً ما كانت هذه الحكومة حصيلة توافقات هشّة بين قوى الثورة المسلحة والمدنية، مدعومة من أطراف إقليمية، في محاولة لملء الفراغ السياسي. ومع ذلك، فإن سؤال الشرعية يظل معلقاً. فهل هي حكومة تمثل طموحات الثورة فعلاً، أم أنها مجرد بديل اضطراري في غياب الدولة؟
عقدة الاعتراف الدولي
ما زالت هذه الحكومة تعاني من غياب الاعتراف الدولي الرسمي غير المشروط، مما يقيّد قدرتها على تمثيل السوريين في المحافل العالمية أو توقيع الاتفاقيات الدولية أو حتى الحصول على قروض ومساعدات تنموية مباشرة ما لم تنفذ إملاءات الدول المعنية بتدوير زوايا خلق “شرق أوسط جديد”. ويُعزى هذا التردد الدولي إلى المخاوف من هشاشة البنية الحاكمة، واستمرار حالة عدم الاستقرار.
بين الاستقلال والتبعية
رغم الشعارات المعلنة عن “الاستقلالية”، إلا أن العديد من المؤشرات تُظهر أن حكومة الأمر الواقع بدأت ترضخ بدرجات متفاوتة لإملاءات قوى إقليمية، تسعى إلى استخدام الملف السوري ورقة ضغط في حسابات إقليمية ودولية. الأمر الذي يضعف من قدرتها على اتخاذ قرارات سيادية حقيقية.
ثانياً: الأداء الحكومي داخلياً بين إنجازات متواضعة وتحديات جذرية
النجاحات المضيئة
- بسط الأمن نسبياً: في بعض المناطق التي تُديرها الحكومة، يمكن رصد تحسن نسبي في الوضع الأمني. فقد انخفضت وتيرة الاشتباكات، وتم تقييد حركة التنظيمات المتطرفة، مما وفّر هامشاً من الأمان اليومي للسكان.
- الخدمات الأساسية: رغم الإمكانات المحدودة، نجحت بعض الإدارات المحلية في تقديم خدمات -متواضعة- تعليمية وصحية وكهرباء ومياه. ورُصدَت محاولات لإعادة تشغيل البنية التحتية ولو جزئياً، خاصة في مناطق الشمال.
- بدايات إعادة الإعمار: شهدت بعض المناطق مبادرات لإعادة الإعمار بدعم من منظمات المجتمع المدني ومساهمات الجاليات السورية في الخارج. ورغم محدودية هذه المبادرات، فإنها تُعطي مؤشراً على إمكانية التعافي إذا توفرت بيئة مستقرة.
- مكافحة الفساد والإصلاح الإداري: تحدثت بعض المؤسسات الحكومية عن نيتها وضع آليات للشفافية والمساءلة، مثل تشكيل هيئات رقابية وإعلان ميزانيات محلية، لكنّ الفاعلية تبقى محل تساؤل حتى الآن.
الضباب الكثيف: المشكلات البنيوية
- الفساد وسوء الإدارة: لا تزال تقارير عديدة تتحدث عن تفشي الفساد داخل المؤسسات الحكومية، واحتكار السلطة من قبل مجموعات محلية مسلحة، تتصرف بمنطق الإقطاعيات الشمولية.
- الانتهاكات الحقوقية: وثّقت منظمات حقوقية وجود حالات اعتقال تعسفي، وتقييد لحرية التعبير، وغياب ضمانات المحاكمات العادلة، مما يشير إلى استمرار النهج القمعي بأساليب جديدة.
- التهميش والإقصاء: بعض المكونات الدينية أو العرقية تشعر أنها مُستبعدة من عملية صنع القرار، أو أن تمثيلها في الحكومة شكلي فقط. هذا الشعور يُهدد بتعميق الانقسام المجتمعي.
- الوضع الاقتصادي المتردي: تشهد المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة وضعاً اقتصادياً كارثياً يتجلى بعضه في:
-
- ارتفاع في الأسعار،
- بطالة واسعة،
- تراجع قيمة العملة،
- انعدام الفرص الاستثمارية الحقيقية.
-
- غياب التعددية السياسية: لم تُفتح بعد أي مساحات حقيقية للمعارضة السياسية أو منابر حوار ديمقراطي، ما يُفقد الحكومة شرعيتها الثورية ويجعلها تبدو كنسخة محسّنة من الأنظمة الشمولية ما لم يتم تصحيح المسار من الآن وصاعداً.
ثالثاً: الدور العالمي – علاقات محفوفة بالتعقيد
العلاقة مع الحلفاء
تتراوح علاقة الحكومة بالقوى الداعمة بين الاعتماد الاستراتيجي والتدخل المباشر. ففي حين توفّر بعض الدول دعماً سياسياً واقتصادياً، إلا أن هذا الدعم غالباً ما يكون مشروطاً، ويُستخدم كأداة ضغط لفرض توجهات إقليمية تنسجم مع انتاج “شرق أوسط” جديد.
الانفتاح المحدود على المجتمع الدولي
لا تزال الحكومة تفتقر إلى قنوات دبلوماسية رسمية مع معظم الدول، وتخضع المناطق التابعة لها لعقوبات مباشرة أو غير مباشرة، مما يعيق التنمية الاقتصادية والمساعدات الإنسانية.
قضية اللاجئين
رغم الخطابات الإعلامية، لم تظهر بعد خطة وطنية شاملة تضمن عودة آمنة وكريمة للاجئين. ما زال كثير من السوريين في الخارج يشعرون بعدم الأمان للعودة في ظل غموض الضمانات القانونية والمعيشية.
المفاوضات السياسية
لا يبدو أن حكومة الأمر الواقع تمتلك حتى الآن استراتيجية سياسية واضحة تجاه العملية التفاوضية. إما أنها مقصاة من الحوارات الدولية، أو أنها تتعاطى معها بشكل تقني دون طرح رؤية وطنية شاملة للحل.
“غياب الاستراتيجية السياسية هو صمت مدوٍ في قاعات المفاوضات، ويُفسح المجال للآخرين لرسم مصير الوطن. فبين الإقصاء والتعاطي التقني، تظل بوصلة الحل السياسي معطلة، ويبقى الشعب يدفع ثمن هذا الغموض.”– كاتب المقال
خاتمة: ضباب كثيف يحجب الرؤية، ومستقبل ينتظر التبلور
رغم ما تحقق من اختراق سياسي تمثل بانتصار الثورة وسقوط النظام السابق، إلا أن الحالة السورية لا تزال تعيش في ضباب كثيف من الغموض والتحديات. فقد استطاعت حكومة الأمر الواقع أن تفرض شكلاً من أشكال الإدارة، لكنها حتى اللحظة لم ترقَ إلى مستوى الدولة الوطنية التي يتطلع إليها السوريون.
ما لم تُتخذ خطوات جادة نحو بناء عقد اجتماعي جديد، يعيد الثقة بين المواطن والحكومة، ويؤسس لنظام ديمقراطي تعددي، فإن الوضع مهدد بالتدهور. ومن أبرز المخاطر التي قد تنجم عن هذا الجمود:
- تفاقم الأزمة الإنسانية
غياب الدعم الكافي سيؤدي إلى تدهور معيشي حاد، وانتشار الأمراض، ونزوح داخلي جديد. - عودة التوترات
دون حلول سياسية وعدالة انتقالية، فإن الاستقرار القائم قد يتحول إلى هدنة مؤقتة تُنذر بانفجار قادم. - تصاعد التطرف
البيئة الفقيرة والمعزولة سياسياً هي بيئة خصبة لنمو الجماعات المتطرفة، مما يُهدد الداخل والخارج على حد سواء. - تآكل الهوية الوطنية
كلما طال الانقسام، زادت صعوبة إعادة بناء هوية سورية موحدة قادرة على الصمود في وجه التدخلات الخارجية. - تحول الأزمة إلى نزاع مُجمد
مثلما حدث في بعض مناطق النزاع الأخرى، قد تصبح سوريا ساحة لصراعات الوكالة الدائمة، بلا أفق لحل فعلي.
إن السوريين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مطالبون بفتح أعينهم وسط هذا الضباب، وعدم الاكتفاء بفرحة إسقاط النظام، بل المضيّ في بناء دولة مواطنة وعدالة وشراكة وطنية. فما نفع الصباح إذا كان الضباب يحجب شمسه؟