توطئة
ينقسم كلام العرب قاطبة إلى قسمين إما شعر وله أنواع وألوان وتفرعات مختلفة، وإما نثر وله أجناس وصفات متباينة.
وقد عَرّف “ابن طباطبا” الشعر بقوله:
الكلام المنظوم البائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم ونظمه معلوم محدود.
ويرى “طه حسين” في كتابه من حديث الشعر والنثر أن:
الشعر كلام يعتمد على الوزن والقافية والموسيقى، وما يتصل بها طرق الإنشاء وهو الشعر، لا نجد فيه اللذة لمجرد القراءة بالعين، وإنما نلذ إذا استمعنا له ووعينا موسيقاه.
ويكشف الشاعر “أحمد شوقي” عن وظيفة وهوية الشعر قائلاً:
والشعر إن لم يكن ذكرى و عاطفة أو حكمة فهو تقطيع وأوزان.
وأما النثر كما جاء في “الدرر السَنيّة“:
هو الكَلامُ الخالي مِن الأوْزانِ والقَوافي، ويَقصِدُ به صاحِبُه التَّأثيرَ في نُفوسِ المُستْمِعينَ، والَّذي يَحفِلُ مِن أجْلِ ذلك بالصِّياغةِ وجَمالِ الأداءِ.
وقيلَ:
هو الكَلامُ المَنْثورُ لا المَنْظومُ، الَّذي يَعْتمِدُ على الفِكْرِ والمَنطِقِ لا الخَيالِ والعاطِفةِ، يَتحكَّمُ فيه العَقْلُ والفِكْرُ أكْثَرَ مِن المَشاعِرِ والخَوالِجِ والأحاسيسِ، ومِنه: القِصَّةُ والرِّوايةُ، والمَسْرحيَّةُ والخُطبةُ، والرِّسالةُ والخاطِرةُ والمَقالُ.
وقد أولى الكتاب والباحثين عناية كبيرة بالشعر والشعراء وأفردوا له الكتب والمصنفات الكثيرة، كما أنهم لم يغفلوا الاهتمام بالنثر وفنونه وأجناسه في القديم والحديث ولكن بدرجة أقل من الشعر وربما يكون ذلك منسجماً مع مقولة الشعر ديوان العرب.
وأزمعت أن أسلط الضوء على جنس نثري سهل الامتطاء يشبه في النظم بحر الرجز الذي قيل عنهلا نجد من الكتاب والأدباء من يتخصص في كتابة الخاطرة فقط، إذ إن بعض كتاب المقالة فرعّوا بعض نشاطاتهم إلى كتابة الخاطرة تبعاً لبعض المواقف الحياتية أو الصحفية…. لسهولة النظم عليه.
إنها الخاطرة التي لا تحتاج كثيراً من العناء والجهد بسبب مساحة الحرية الرحبة التي تُمنح لمن أراد معاقرتها.
الخاطرة لغوياً:
(خَطَرَ) الْخَاءُ وَالطَّاءُ وَالرَّاءُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْقَدْرُ وَالْمَكَانَةُ، وَالثَّانِي اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ. فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُمْ لِنَظِيرِ الشَّيْءِ خَطِيرُهُ. وَلِفُلَانٍ خَطَرٌ، أَيْ مَنْزِلَةٌ وَمَكَانَةٌ تُنَاظِرُهُ وَتَصْلُحُ لِمِثْلِهِ. وَالْأَصْلُ الْآخَرُ قَوْلُهُمْ: خَطَرَ الْبَعِيرُ بِذَنْبِهِ خَطَرَانًا. وَخَطَرَ بِبَالِي كَذَا خَطْرًا، وَذَلِكَ أَنْ يَمُرَّ بِقَلْبِهِ بِسُرْعَةٍ لَا لُبْثَ فِيهَا وَلَا بُطْءَ. وَيُقَالُ خَطَرٌ فِي مِشْيَتِهِ. وَرَجُلٌ خَطَّارٌ بِالرُّمْحِ، أَيْ مَشَّاءٌ بِهِ طَعَّانٌ. قَالَ:
مَصَالِيتُ خَطَّارُونَ بِالرُّمْحِ فِي الْوَغَى
وَرُمْحٌ خَطَّارٌ: ذُو اهْتِزَازٍ. وَخَطَرَ الدَّهْرُ خَطَرَانَهُ، كَمَا يُقَالُ ضَرَبَ ضَرَبَانَهُ. وَالْخَطْرَةُ: الذِّكْرَةُ. قَالَ:
بَيْنَمَا نَحْنُ بَالْبَلَاكِثِ فَالِقَا … عِ سِرَاعًا وَالْعِيسُ تَهْوِي هُوِيَّا
خَطَرَتْ خَطْرَةٌ عَلَى الْقَلْبِ مِنْ ذِكْ … رَاكِ وَهْنًا فَمَا اسْتَطَعْتُ مُضِيَّا
“معجم مقاييس اللغة لابن فارس”
خطَرَ بـ/ خطَرَ على/ خطَرَ لـ يَخطُر ويَخطِر، خَطْراً وخُطُوراً، فهو خاطِر، والمفعول مَخْطُور به
- خطَر الأمرُ بباله/ خطَر الأمرُ على باله/ خطَر الأمرُ في باله/ خطَر الأمرُ له: ذكره بعد نسيان، لاح في فكره بعد نسيان “خطَر ذكره على بالي: لاح في فكري- وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ [حديث]- خطر له خاطر” ° أمرٌ لا يخطر ببال: بعيد الوقوع- سريع الخاطر: حاضر البديهة- عَفْو الخاطر: تلقائيًّا، ارتجالاً، دون إعداد
التَّخاطُر: (نف) الإحساس من بُعْد، وتواصل المشاعر والأفكار من غير توسُّط أدوات الحسّ، أو توارد فكرة معيّنة على خاطري شخصين متباعدين في وقت واحد “لا يزال التخاطُر ظاهرة غريبة لا تفسير لها”
تعريف الخاطرة:
هي لمحة ذهنية خاطفة لحادث عرض، تحمل مشاعر الكاتب ازاءَهُ، وتخلو من الأسانيد، ولا تحتاج إلى حجج على صدقها، ولا تتجاوز - غالباً- عموداً في الصحيفة. ويحتاج هذا اللون من الكتابة الصحفية إلى ذكاء الكاتب، وقوة ملاحظته، ويقظة وجدانه، ومجاراة الطابع الصحفي الذي يهتم بالأشياء القصيرة ذات الدلالة الكبيرة، ويؤثرها على الكتابة المطولة التي تتسم بالإسهاب والإفاضة. والخاطرة من الألوان النثرية التي نشأت في ظل الصحافة المعاصرة، وجاءت تحت عناوين ثابتة، لا تتغير من يوم لآخر.
– “السيد مرسي أبو ذكري” / المقال وتطوره في الأدب المعاصر
بين الخاطرة والمقالة:
الخاطرة:
والخاطرة من الأنواع النثرية الحديثة التي نشأت في حجر الصحافة, ولكنها تختلف عن المقال من عدة وجوه:
فالخاطرة ليست فكرة ناضجة وليدة زمن بعيد، ولكنها فكرة عارضة طارئة. وليست فكرة تعرض من كل الوجوه, بل هي مجرد لمحة.
“نعيم مصطفى الفيل”
وليست كالمقالة مجالاً للأخذ والرد، ولا هي تحتاج إلى الأسانيد والحجج القوية لإثبات صدقها، بل هي أقرب إلى الطابع الغنائي. وما زلت أذكر للأستاذ الدكتور “أحمد أمين“، قوله في كتاب الخاطرة, وقد جمع خواطره في عدة مجلدات، تلك الخاطرة التي كتبها عن قطعة الورق التي مزقها وهو جالس إلى البحر فحمل الريح أجزاءها وذهب بكل جزء إلى جهة ما, كما تصنع الحياة بالناس ومصائرهم. فهنا لا نجد فكرة تحتمل الاتفاق أو الاختلاف، ولكنها لمحة ذهنية بمناسبة ذلك الحادث العرضي “تمزيق الورقة” محملة بمشاعر الكاتب.
ثم لا ننسى الاختلاف في الطول، فالخاطرة أقصر من المقال، وهي لا تجاوز كثيراً نصف عمود من الصحيفة، وعموداً من المجلة. وإذا ذكرنا الصحيفة والمجلة فإنما نذكرهما لنعود لتقرير أن الخاطرة في وقتنا قد أصبحت عنصراً صحفيّاً نطالعه في كل جريدة وكل مجلة، والصحف تعطي هذا العنصر عنواناً ثابتاً؛ لأن الخاطرة تكون عادة -وهي تختلف في ذلك أيضاً عن المقال- بلا عنوان. من هذه العناوين: “فكرة“، “نحو النور“، “شموع تحترق“، “ما قل ودل“.. إلخ.
وهذا النوع الأدبي يحتاج في الكاتب إلى الذكاء، وقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان، وهو يتمشى مع الطابع الصحفي العام في الاهتمام بالأشياء الصغيرة السريعة وتفضيلها على الكتابات المطولة. وأهميتها تأتي من أنها تستطيع لفت القارئ إلى الأشياء الصغيرة في الحياة، التي لها دلالة كبيرة.
وعلى هذا النحو تصبح الخاطرة المكتوبة -على الرغم من صغر حجمها- عملاً مثيراً للذهن وممتعاً في الوقت نفسه، فيه من الشعر خاصية التركيز، وعمق النظرة، وحدة الشعور بالأشياء.
“عز الدين إسماعيل” / الأدب وفنونه دراسة ونقد
أبرز الخصائص الفنية للخاطرة:
إذا كان النقاد والدارسون يتحدثون عن بعض الخصائص الفنية المشتركة بين الرواية وبين القصة القصيرة، فإنه كذلك يمكن أن يشار إلى كثير من الخصائص المشتركة بين المقالة وبين الخاطرة. ولعل مقياس الطول أو القصر أو عدد الكلمات من أسهل المعايير للتمييز بين هذين الفنين أو النمطين، ومع ذلك، فهو أقلها صلاحية وأكثرها تذبذباً، وإذا كنا نضيف، من أجل تبيين خصائص كل نوع، فإن الطول والقصر يظلان أمرين نسبيين، إذ لكل من المقالة والخاطرة خصائص داخلية تميز بينهما، ودون تحديد لعدد الكلمات أو لحجم المادة الكتابية، فإن مثل قضية الطول أو القصر تخضع، في الأساس، للتقدير الدقيق لدى الكاتب، مما يترتب عليه ما يمكن أن نسميه، على غرار أبرز ما يتجسد من خصائص القصة القصيرة لدى بعض النقاد:
- وحدة التأثير
- أو الانطباع المحدد.
وهذا ما يدفع بكاتب الخاطرة إلى تركيز أسلوبه على فكرة واحدة تمثل قمة الانفعال أو فورة الدافع لكتابة ، بحيث يمكن أن تستشف بسهولة المقدمات والنهايات المقصودة من لدن الأديب، وهو في الأصل والحقيقة، دقيق صارم في أداء هذا التأثير أو في خلق هذا الانطباع، بحيث لا يطلب منه تقديم أفكار منطقية أو صور كاملة البعاد، كما في المقالة، وإنما هو يعطي لمحات يسيطر عليها الانطباع العام الواحد، معتمدا في ذلك على ذكاء القارئ ونباهته، فلا يعود لذلك، مطالباً بحشد التفاصيل أو بالتمهل أو الالتفات إلى الجزئيات، وكما إن الاقتصاد هو الصفة المميزة للقصة القصيرة، دائماً، فهو كذلك بالنسبة للخاطرة، شرط لا بد منه من أجل أداء وحدة الانطباع والتأثير أو خلقها دون أن يشعر القارئ أو الكاتب على أنه نوع من الحذف أو الضغط المقصود، بل على العكس، إن كل زيادة في التعبير المقتصد تبدو افتعالاً أو عجزاً عن الوصول إلى التعبير المطابق. فطبيعة الخاطرة هي التي تملي هذا الأسلوب، وتؤثر بالتالي، على طبيعة اللغة في تركيزها وتكثيفها،
ومن هنا كانت الخاطرة تمثل حساسية كاتبها من حيث كونه، مثل كاتب القصة القصيرة، مأزوما في حال الكتابة، تغلب عليه فرديته وانطباعاته الشخصية، كأنه في ذلك يجسد حدة الإحساس وقوة الشعر.
“نعيم مصطفى الفيل”
وجريا مع طبيعة الخاطرة في محدوديتها وقصرها وسرعة الإعلان عنها وعرضها، فإنها لا تحتمل التحليل أو التأمل العميق أو تنوع الأفكار وتعددها، على خلاف المقالة، لا تحتمل كذلك تعدد العناصر ولا تطويل الخطة، فلا مقدمة ولا عرض مُمَنطق ولا خاتمة بمعاني هذه الأجزاء التي نلمسها في المقالة، إذ المهم هو عرض فكرة الخاطرة مكثفة ومركزة، بحيث يجمل الكاتب رأيه أو فكرته السانحين بمنتهى الإيجاز، ولكي يقدم الكاتب خاطرته واضحة ومناسبة.
قد يلجأ إلى الإشارة إلى حقيقة الموقف أو الدافع المثير للخاطرة من أجل توضيح الحال، وإقامة التناسق في إعلان الرأي وتسويغ الخاطرة في سبيل إقناع القارئ وخلق التأثير عليه.
وهكذا، فإن الخاطرة، في الغالب، فكرة مستقلة قائمة بذاتها، تكاد تكون، في صلب حقيقتها، أحادية العنصر، فيما عدا العرض الهامشي لطبيعة الموقف أو المثير الذي قد يرهص به الكاتب بين يدي خاطرته وتسجيلها.
“د. حسني محمود وآخرون” / كتاب فنون النثر العربي الحديث
أشهر كتّاب الخاطرة
لا يمكننا أن نجد من الكتاب والأدباء من يتخصص في كتابة الخاطرة فقط، وإن اشتهر بكتابتها، إذ إن بعض كتاب المقالة فرعّوا بعض نشاطاتهم إلى كتابة الخاطرة خضوعاً لبعض المواقف الحياتية وظروف الحياة الصحفية، بحيث يمكن أن نلحظ، أن أثر المجلة في المقالة أكبر من أثر الصحيفة وأعظم شأناً، وعلى هذا، هل يمكننا والحالة هذه، أن نقول إن كتابة الخاطرة أكثر ارتباطاً بالصحيفة منها بالمجلة، لأن الصحيفة السيارة تشكل وسيلة أسرع للاتصال اليومي بالقراء، مما يتناسب وطبيعة الخاطرة، وخصائصها الفنية ؟ وربما كان من أبرز من كتبوا الخاطرة:
أديب إسحق، أحمد شاكر الكرمي ، خليل السكاكيني، طه حسين، عباس محمود العقاد، جبران خليل جبران، وتيسير سبول.
نماذج
خواطر وصور
الأستاذ عباس محمود العقاد
الشعور السعيد
أسعد الشعور ما امتزج فيه شعور الإنسان بنفسه وشعوره بغيره، أو ما كان فيه الشعور بالغير ضربا من الشعور بالنفس. ومن هذا القبيل شعور الأب بابنه والحبيب بحبيبه والمشهور بشهرته: يرى نفسه في غيره ويرى غيره في نفسه، فيلتقي فيه الرضى عن النفس والرضى عن الدنيا. وهما تمام الرضى الذي يحيل الألم والشقاء سروراً وسعادة.
كراهة الأخيار
قد يكون الشرير الذي يشتد بغضه لأهل الخير من أقرب الأشرار إلى الأخيار. لأنه يحس بما فقد ويحس بما امتاز به غيره فيحسدهم. والحسد إعجاب معكوس، أما الشرير الذي لا يبغض أهل الخير فإدراكه للخير قليل، وطلبه للامتياز والرجحان ضعيف.
حرية الفكر
فرق بين من يجترئ على العقائد الراسخة لقوة في نفسه، وبين من يرتاب فيها لتحلل في طبيعته يعجزه أن يمسك العقيدة القوية ويحتويها.
إصابة الجاهل
الساعة المعطلة تكون أضبط الساعات جميعا في لحظة من اللحظات، وكذلك العقل الصغير الخابي يصيب مرة حيث لا تصيب كبار العقول.
أنانية الشيوخ
دين المنفعة يغلب على الشيخوخة لأنها عهد الضعف والإدبار، لا لأنها عهد الخبرة والمعرفة.
_______________________________________________________________________________
المصادر:
- مجلة الرسالة: أحمد حسن الزيات العدد
- معجم مقاييس اللغة لابن فارس
- المقال وتطوره في الأدب المعاصر السيد مرسي أبو ذكري
- الأدب وفنونه دراسة ونقد عز الدين إسماعيل
- كتاب فنون النثر العربي الحديث 1 د. حسني محمود وآخرون