مقدمة:
بين الواقع واللا معقول
في زمن تختلط فيه التحليلات السياسية بالروايات الخيالية، وتُستغل فيه المنصات الرقميَّة لخلق وعيٍ مُوجَه، تقف أمامنا ظاهرة تستحق التوقف: كيف يتقاطع الأدب الغامض مع الواقع السياسي؟ وهل ما كُتب في نهاية القرن التاسع عشر عن انهيار الولايات المتحدة وظهور رئيس غريب يُدعى ترامب هو محض خيال… أم نوع من النبوءة؟ حلقة الفيديو التي نُشرت مؤخراً، أثارت الكثير من الجدل واللغط في العالم لأنها تستعرض أوجه التشابه المذهلة بين روايات الكاتب “إنجرسول لوكوود” والواقع الأميركي الراهن. لقد فتحت الباب لنقاش أوسع حول أدوات التوقع، وحدود الخيال، ومخاطر التلاعب بالعقل الجمعي.

نبوءات الزمن: هل يخبرنا التاريخ بمستقبلنا؟
لطالما سحرَ الغموضُ عقولَ البشر، ودغدغَ فضولَهم لمعرفة ما يخبئه القدر. من هنا، نشأت محاولاتٌ عديدة لاستشراف المستقبل، تراوحت بين الخرافة والعلم. فهل يمكن حقاً قراءة صفحات الزمن قبل أن تُكتب، أم أن الأمر لا يعدو كونه مصادفات تُنسج حولها القصص؟
“الكون لا يعترف بالصدف، بل هو محكوم بقوانين فيزيائية بالغة الدقة. الصدفة وحدها كفيلة بتدمير هذا النظام وانحلاله.” – “مايا سمعان”
فن استشراف المستقبل: بين العلم والخيال
إنَّ محاولات استلهام أحداث المستقبل ليست وليدة اليوم، فقد سعى الإنسان منذ فجر التاريخ إلى فهم أنماط الكون وتوقع ما سيحدث فيه. وتختلف هذه المحاولات في طبيعتها ومصداقيتها:
- العلم الاستشرافي: يعتمد على تحليل البيانات والنماذج، كما في التنبؤات الجوية أو تحليلات الاقتصاد.
- الادعاءات الغيبية: مثل العرافة، التي تفتقر لأدلة قابلة للتحقق، وتقوم غالباً على الغموض والتعميم.
في هذا السياق، يقول مارك توين:
“التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يتناغم.”
ويضيف سقراط:
“الحياة غير المفحوصة لا تستحق أن تُعاش.”
وكلا الاقتباسين يؤكدان أهمية تحليل الظواهر بعيداً عن التلقي السلبي.
“الرئيس الأخير”: نبوءة غريبة أم صدفة مدهشة؟
رجل من خارج النخبة
يروي كتاب “آخر رئيس” (1896) قصة صعود سياسي غريب الأطوار إلى البيت الأبيض، متحدياً النخبة التقليدية، تماماً كما فعل ترامب عام 2016 بشعاره “لنجعل أميركا عظيمة مجدداً”، الذي استقطب الطبقات المهمشة.
- الفوضى في الجادة الخامسة
يذكر المؤلف أن “الغوغاء يسيرون في الجادة الخامسة”، وهو ما حصل فعلياً بعد فوز ترامب، حيث اندلعت احتجاجات قرب برج ترامب، المقر الرئيسي للرئيس المنتخب، الواقع فعلاً في شارع “الجادة الخامسة” في نيويورك.
- أسماء وتفاصيل مثيرة
في رواية “بارون ترامب”، يظهر صبي أرستقراطي يُدعى بارون (اسم ابن ترامب)، يعيش في “قلعة ترامب”، ويقوده رجل يدعى “دان”. كما يظهر وزير اسمه “بنس”، في تشابه لافت مع مايك بنس، نائب ترامب.
- انهيار اقتصادي وتصدّع سياسي
الرواية تحذر من انهيار اقتصادي نتيجة الخوف من قرارات الرئيس، مما يؤدي إلى توقف الأسواق، إفلاس البنوك، وفوضى في وول ستريت. الرواية تصف أمريكا بأنها منقسمة بين “نخبة ثرية خائفة” و”جماهير يائسة”، وهو واقع يُشبه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي نشهدها اليوم.
أدوات الهيمنة النفسية: حين تتحول الرواية إلى أداة تعبئة
في عالم مفرط بالإعلام والمحتوى، تتحول بعض السرديات “القديمة” إلى أدوات جديدة لتشكيل الوعي. وهنا تدخل الهاسبارا (Hasbara)، كاستراتيجية للتأثير الذهني. إعادة ترويج رواية “الرئيس الأخير” اليوم قد لا تكون صدفة بريئة، بل حملة رمزية تستغل التشابه بين النص والواقع لإقناع الناس بأن ما يجري مقدّرٌ منذ زمن… فلا جدوى من المقاومة.
ما هي “الهسبرة”؟
“الهسبرة“ (من العبرية: הסברה – Hasbara) هي مصطلح يُستخدم لوصف منظومة الدعاية الإسرائيلية التي تهدف إلى تبرير سياساتها أمام الرأي العام العالمي، والتأثير على الوعي الجماهيري لصالح الرواية الصهيونية، عبر الإعلام، والعلاقات العامة، والحملات الموجّهة.
وغالباً ما تُترجم الكلمة بشكل مُخفف إلى “شرح” أو “توضيح”، لكنها في الممارسة تمثل غسيلاً ناعماً للعقول، وتندرج ضمن ما يُعرف بـ”الحرب النفسية الناعمة”، إذ تعتمد على إعادة صياغة الوقائع، وتضخيم سرديات معينة، وتهميش أو نفي روايات أخرى. ويُستخدم المصطلح أحياناً في الأوساط النقدية العربية لوصف أي عملية تعبئة فكرية أو دعائية تخاطب العواطف وتُروّج لرواية أحادية، بهدف توجيه الرأي العام أو شرعنة سلوكيات مشكوك فيها.
إنَّ تضخيم مثل هذه الروايات في الإعلام الشعبي، وخاصة قبيل الأحداث السياسية الكبرى، يساهم في خلق حالة من الاستسلام الجمعي تحت غطاء “المكتوب قد وقع”، وهو ما يشكل تهديداً للعقل الناقد والقرار الديمقراطي. – “مايا سمعان”.
هل نحن أمام مصادفة أم خطة؟
ما بين فرضيات السفر عبر الزمن، أو التخطيط الماسوني، أو حتى قدرة الجن على استراق السمع… يبقى التفسير العلمي الأكثر قبولاً هو: تشابه أنماط، وعودة دورية لأزمات النظام الرأسمالي، يلبسها البعض ثوب النبوءات لتحقيق أهداف سياسية أو نفسية.
فالمجتمعات التي تمر بمراحل اضطراب تعيد غالباً إنتاج خطاب “الزعيم المنقذ من النخبة الفاسدة”. وتكرار هذا النمط يُسهل إسقاطه على أي رواية قديمة أو سردية “غامضة” ككتاب لوكوود.
خاتمة: بين النبوءة والاستهبال الإعلامي
سواء كنت تؤمن بأن لوكوود كان نبيّاً أو كاتب خيال جامح، أو ترى أن رواياته تمثّل مجرد أدوات لـ”غسيل العقول“، تبقى الحقيقة أن ما نعيشه اليوم هو مزيج من أزمة ثقة، وركود اقتصادي، واستقطاب سياسي غير مسبوق.
فهل نصدق العرّافين؟
أم نعيد التفكير في كل ما يُقدَّم لنا على أنه “قدرٌ مكتوب”؟
أم أن الحقيقة، كما يقال، لا تُكتب في الروايات… بل تُصنع في الكواليس؟
سؤال أخير للقارئ:
هل نحن أمام نبوءة خارقة؟ أم أمام “هسبرة” إعلامية هدفها صرف الأنظار عن الحقيقة؟
شاركنا رأيك حول ولع الشعوب العربية في متابعة الذين يطلقون على أنفسهم صفة “متنبؤون” ويظهرون على الشاشات الصغيرة في معظم المناسبات، أمثال “ميشال الحايك“، “ليلى عبد اللطيف“، “مايك فغالي“، ولأنهم كثيرو العدد سأدرج مقالاً آخر، لاحقاً ،للإضاءة على واقع المتنبئين والمنجمين العرب.