مقدمة: المأساة المستمرة خلف القضبان
في زنازينٍ مكتظةٍ برطوبةٍ تشبه صمت العدالة، يعيش المئات من السوريين الموقوفين في لبنان عالقين بين شرّ الدولة العميقة وعدلٍ مفقودٍ في دهاليز القضاء. هناك، حيث تتقاطع المصالح السياسية والأمنية، تُختزل القضايا الإنسانية في ملفات “أمنية“، وتتحول المطالب بالعدالة إلى همساتٍ تُخنق قبل أن تصل إلى قاعة المحكمة.
فبين سطوة الأجهزة اللبنانية المتحالفة مع نفوذ حزب الله، وبين قضاءٍ مترددٍ في مواجهة هذا النفوذ، تتفاقم معاناة المساجين السوريين، الذين يُحاكمون لا بتهمة ارتكاب الجرائم، بل لأنهم حملوا موقفاً أو اسماً أو شبهة انتماء إلى ثورةٍ ضد نظامٍ ما زال ظله الثقيل جاثماً على لبنان.
المحامي محمد صبلوح: ضمير العدالة في وجه القهر
المحامي محمد صبلوح، من الأصوات الحقوقية اللبنانية التي لم تتردد في اقتحام الملفات الشائكة دفاعاً عن كرامة الإنسان. عُرف صبلوح بملاحقته القضايا المرتبطة بالتعذيب والاعتقال التعسفي، وتوثيقه لشهادات المعتقلين أمام القضاء العسكري والمدني، مستنداً إلى تقارير دولية أبرزها تقرير منظمة العفو الدولية «كم تمنيت أن أموت»، الذي كشف عن تعذيبٍ منهجي داخل أجهزة الأمن اللبنانية.

يرى صبلوح أن ما يجري في لبنان هو انعكاس لدولةٍ مزدوجة: واحدة رسمية ضعيفة، وأخرى خفية تُمسك بزمام السلطة الفعلية، وتتحكم بمصائر آلاف البشر من خلال القضاء والأمن والإعلام.
ملف المساجين السوريين: من وعود الإفراج إلى هندسة الانتقائية
في حواراته، يكشف صبلوح تفاصيل دقيقة عن الزيارات المتبادلة بين دمشق وبيروت، التي وُصفت بأنها كسرٌ للجليد وفتحٌ لمسار الحل. غير أن التفاؤل سرعان ما تبدد عندما طُرحت فكرة “تجزئة الملف” — أي الإفراج عن فئة محددة من الموقوفين (المتهمين بالانتماء إلى الجيش الحر) وتأجيل الباقين (المتهمين بجرائم عسكرية أو إرهابية).
يعتبر صبلوح هذا المنطق إدانةً للبنان ذاته، إذ يُقرّ ضمنياً بأن محاكماته السابقة كانت مسيّسة، وأنه كان يُصنّف «الجيش الحر» تنظيماً إرهابياً رغم أنه غير مصنف كذلك في أي دولة بالعالم.
ويتابع قائلاً إن أكثر من 2600 سجين سوري يقبعون في السجون اللبنانية، معظمهم ضحايا تهمٍ مفبركة أو تحقيقاتٍ انتُزعت فيها الاعترافات تحت التعذيب. بعضهم حُكم بالإعدام أو المؤبد بناءً على سيناريوهاتٍ كتبها المحققون، فيما يُحتجز آخرون منذ سنوات دون محاكمة، في ظل رفض الأجهزة تطبيق المادة 47 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تكفل حقّ الدفاع وحظر التعذيب.
تعذيب منهجي وملفات مفبركة: سجون تتنفس القهر
يتحدث المحامي صبلوح عن شهاداتٍ مروّعة جمعها من المعتقلين أنفسهم: نساءٌ وأخوات أُحضرن أمام الكاميرات لابتزاز ذويهن في التحقيق، وصور اغتصابٍ استُخدمت لانتزاع اعترافاتٍ قسرية.
ويذكر حادثة بشار عبد سعود، الذي قضى تحت التعذيب في جهاز أمن الدولة بعد ثلاث ساعات من توقيفه، لتُسقط المحكمة لاحقاً التهم الموجهة لرفاقه باعتبار الاعترافات انتُزعت بالقوة.
هذه النماذج، كما يقول، ليست حالات فردية، بل منظومة متكاملة من القهر الأمني الذي يشترك فيه مخابرات الجيش، الأمن العام، وقوى الأمن الداخلي.
بل إن الانتهاكات امتدت إلى سجن الأحداث في الوروار، حيث تُحتجز فتياتٌ وأطفال في غرفٍ معزولة، وتُوثّق حالات انتحارٍ بسبب سوء المعاملة وغياب الرعاية النفسية. الكاميرات في الزنازين، والطعام الرديء، والتأجيل القضائي اللامتناهي، تشكل معاً منظومة «سجونٍ للتأديب لا للإصلاح».
القضاء بين الدولة العميقة وضمير القانون
يرى صبلوح أن التعطيل القضائي ليس صدفة بل سياسة ممنهجة. فـ«الدولة العميقة» التي يقودها حزب الله وحلفاؤه في مؤسسات الأمن، تتدخل في عمل القضاة، وتُعرقل أي إصلاح أو مساءلة.
يُشير إلى قضايا شهيرة كـمعركة عبرا وملف الشيخ أحمد الأسير، حيث فُبركت الأدلة وأُخفيت تسجيلاتٍ تُظهر تورط عناصر من حزب الله في الاشتباكات. ويضيف أن ملفات كثيرة أُغلقت بضغطٍ سياسي، وأن القضاة الذين حاولوا التحرك وُئدت مساعيهم بصمتٍ رسمي.
حتى وزير العدل اللبناني – كما يقول صبلوح – يناقض نفسه، إذ يطالب بالإفراج عن اللبنانيين في سوريا لكنه يرفض الإفراج عن السوريين في لبنان، بحجة أنّ «الجرائم لم تُثبت براءتها بعد»، متجاهلاً أن معظم تلك الملفات فُبركت أصلاً.
تحليل: الدولة العميقة كحارسٍ للظلم
تكشف القضية أن لبنان يعيش ازدواجية السلطة: دولةٌ رسمية عاجزة، ودولةٌ موازية تمتلك أدواتها الأمنية والقضائية والإعلامية. هذه الدولة العميقة تُسيّر العدالة بما يخدم مصالحها، فتحجب الملفات، وتُبطئ المحاكمات، وتستخدم المساجين السوريين ورقة ضغط في مفاوضاتها مع دمشق أو مع المجتمع الدولي.
إنها معركة بين القانون والولاء، بين حق الإنسان وسياسة المقايضة. فكل سجين سوري في لبنان أصبح رهينةً في صراعٍ تتقاطع فيه أجهزة أمنٍ تابعة لحزب الله، ومؤسساتٍ قضائيةٍ محبطة، ومجتمعٍ دوليٍّ يتفرج بصمت.
استشراف: أملٌ هشّ بين بيروت والحكومة المؤقتة السورية
في ضوء متابعة الحكومة السورية المؤقتة لهذا الملف، تُطرح تساؤلات حول إمكانية تحقيق اختراقٍ حقيقي. فالاتصالات الجارية مع منظماتٍ دولية قد تُسهم في إعادة تصنيف القضايا على أسس قانونية، وإطلاق سراح الموقوفين الذين لم تثبت إدانتهم.
لكنّ المحامي صبلوح يُحذّر من “الانتقائية السياسية” التي قد تثير اضطراباتٍ داخل سوريا نفسها إذا أُفرج عن مجموعةٍ دون أخرى. الحلّ – برأيه – يكمن في اتفاقٍ قضائي شفاف برعاية أممية، يضمن محاكماتٍ نزيهة ومراقبةً مستقلة للسجون، بعيداً عن نفوذ حزب الله والأجهزة التابعة له.
ويُضيف أن مؤتمر الأمم المتحدة المقبل لمراجعة أوضاع حقوق الإنسان في لبنان عام 2026 سيكون فرصةً حقيقية لتسليط الضوء على الانتهاكات المنهجية، ولإجبار الدولة اللبنانية على تنفيذ التزاماتها الدولية.
خاتمة: ذاكرة الحقد… والصدمة السورية
القاعدة الفقهية في القانون تقول:
الملف لا يُختتم بأحكام القضاء، بل بتفاعلات الرأي العام.
فالشعب السوري، الذي تابع تفاصيل هذه القضايا، صُدم من حجم الكراهية التي أظهرها بعض اللبنانيين تجاه إخوتهم، في مشهدٍ يُعيد إلى الأذهان مرارة الماضي حين احتلّ الجيش السوري لبنان بين عامي 1975 و 2005.
لكنّ المفارقة أن السوريين الذين ثاروا على نظامٍ قاهر، وجدوا أنفسهم اليوم ضحايا لنظامٍ يشبهه في أرضٍ جارة.
إنها مأساة العدالة حين تُختزل في معادلات سياسية، وحين يتحوّل السجين من إنسانٍ إلى ورقة تفاوض. ويبقى الأمل معلقاً على إرادة نزيهة، تُعيد للعدالة معناها، وللإنسان كرامته — بعيداً عن الجغرافيا، والطائفية، ودهاليز الدولة العميقة.







