مجزرة الحولة.. “الزير لن يسامح جساس”
لا تسقط جرائم الأسد بالتقادم والقصاص قادم
ليلة أمس، وبعد أن هدأ القصف الجوي والمدفعي على بعض المناطق في ادلب التي تلقب بالشمال المحرر، وفي جلسة صفاء ساد فيها الصمت أثناء هجمات قوات الأسد الوحشية، قادتني القريحة وأصدقائي معي إلى سرد بعض السوالف عن أحداث مضت من أيام جذوة الثورة السورية، التي أصبحت اليوم صفحةً في تاريخ كُتب ساعةً بساعة.
وعفو الخاطر، طفق شريط الذكريات الطافح يتدفق بحلقات لا تنتهي من مسلسل مجازر الأسد (جساس العصر). بيد أن مجزرة الحولة في ريف حمص تبقى ماثلة في ذاكرة كل السوريين، رغم أنها ليست الأولى، وإنما لكوْنها أول مجزرة قتل فيها كماً كبيراً من الأطفال بالسكاكين والسواطير والأسلحة البيضاء. خاصة وأنَّ القتلة لم يكونوا من جنود الأسد، بل هم سكان التلال المحيطة بالبلدة، التي اغتصب أراضيها بعض الضباط من الطائفة العلوية بتشجيع من حافظ الأسد، كي يُشكلوا سوراً من الأبنية حول سكان سهل بحيرة الحولة وبلداتها الذين يعتنقون المذهب السنيّ.
المهاجمون القتلة لم يكونوا هؤلاء الضباط بالذات، بل هم أهالي بيوتهم وأجيال الفتوة من حديثي العهد بممارسة الإجرام. كلهم من المدنيين، أو بالأحرى هم الجار (المدنيّ) الذي حان وقتهم لردّ الجميل للأسد الذي ساندهم في إنشاء هذه القرى اغتصاباً!
ومن دون عَصفٍ ذهني، ثارت عليَّ حفيظتي كي أسرد حكاية “فوزية” … لقد كانت قصتها تشبه قصة آلاف الأمهات اللواتي فقدن أطفالهنَّ ورجالهنَّ في مجازر انتشرت في كل مكان من أرض سورية. ولكن حكاية “فوزية” لها لون آخر من التراجيديا. وكان عليَّ أن أستهل سرديتي هذه بتعريفكم بمجزرة الحولة.
الحولة، بحيرة صافية.. سهولها فاضت بدمٍ طاهر
في غرَّة الجمعة الخامس والعشرين من أيار 2012، استيقظ أهالي الحولة كي يستعدوا للتوجه إلى مدينة حمص التي تبعد عنهم 20 كم. كانت حمص تستقبل أبناء ريفها كل يوم جمعة للمشاركة في التظاهرات السلمية التي كانت تنادي النظام بالقضاء على الفساد واعتاق حريتهم المسلوبة بفرض قانون الطوارئ المعمول به منذ أربعة عقود إثر الانقلاب العسكري الذي قام به الديكتاتور الراحل حافظ الأسد عام 1970.
كان أهل الحولة قد هيأوا زوّادة طعامهم وبعض الأعلام واللافتات التي خلت من عبارة اسقاط النظام، أو من العبارات التي كانت أجهزة الأمن تنشرها بتوقيع المظاهرات السلمية. كانت صلابة قلوب أهالي المنطقة تخفق نابضة مع أبنائهم الثوار الذين خبروا بطش النظام، وبدؤوا يتعايشون مع طقوس سفك الدماء من قبل “شبيحة الأسد” منذ الأيام الأولى لخروج التظاهرات المناهضة للنظام.
ومن دون إنذار وفجأة داهمت العائلات العلوية بيوت أهالي الحولة لترتكب مجزرة مروِّعة لم تشهدها بلدتهم حتى في أيام الثورة على المستعمر الفرنسي الجائر. بدأت المجزرة باقتحام البيوت وذبح كل من بداخلها من أطفال ونساء وعجائز. هرع بعض الأهالي ليصوروا بهواتفهم المحمولة ليصوروا ويوثقوا عن بُعد، لأنهم لم يستطيعوا التقرّب من جماهير القتلة. أثبتت لقطات الصور 116 شهيداً و300 جريحاً. كانت صور الأطفال المذبوحين بالأسلحة البيضاء تشي بوضوح تلك المشاهد التي لم تخدش الضمير الإنساني، رغم أنَّ وسائل الإعلام وضعت تحذيراً لذوي القلوب الضعيفة ألا يشاهدوا تلك الصور.
يا إلهي … هل افتقد العالم انسانيته؟!!
أظهرت الصور الأولى لمشاهد المجزرة التي نشرها الناشطون عبر قنوات مرئية خاصة بالثورة هول الإجرام الذي تمتع به مؤيدو بشار الأسد في القرى المجاورة للحولة، فقد تركوا شعاراتهم مكتوبة على جدران البيوت، “هذه الضحايا افتداء للسيد الرئيس”. نعم، فديّ الرئيس بجيل من الأبرياء الأطفال، ورغم ذلك بقيت المظاهرات ترفع رايات الحرية وتصدح بشعارات الكرامة.
سيناريو عزرائيليي الأسد
على الشاشات، جثث أطفال مضمخة بالدماء ملقاة عند ردهات البيوت وفي الشوارع. كان بعضها يحمل أثار طلق ناري والبعض الآخر أخاديد من الجروح العميقة المنحوتة بالسكاكين. وقطعت الرقاب من حناجرها. هناك في الفيديو رجلٌ يصرخُ وهو ينظر إلى جثث الأطفال قائلاً:
"إنهم جميعاً أطفال، أنظروا إليهم يا عرب... أطفال"
كانت قلوب الأهالي الطاهرين، تستشرف الخطر قبل ساعات من بدء المجزرة. أرسل الأهالي عن طريق الإعلاميين القلائل في البلدة نداءات بالصوت والصورة يطلبون استغاثة من دول العالم وملوك العرب وزعمائهم، ومنظمات المجتمع الدولي محذرين من نيَّات قوات النظام القيام بهجوم وشيك.
وكان قد سبق تلك المجزرة بستة أسابيع تواجد عناصر من بعثة تضمنت 300 مراقباً دولياً لـ “هدنة وقف النار” المعلنة، وبينما هم موجودون في المنطقة، هربوا منها مذعورين عندما بدأ القصف، بحجة أنَّ النظام لم يسمح لهم بالتواجد بذريعة الاشتباكات الدائرة والتي ستشكل خطراً عليهم، وكشف الصحافي “هادي العبدالله” أنه اتصل بالمراقبين الدوليين مساء الجمعة لتدارك الوضع فوجدهم نائمين، وتوسل إليهم أن يهبّوا لنجدة أهل الحولة، وأن يتوسطوا لدى النظام لإيقاف القصف لنصف ساعة فقط، بيد أنهم لم يستجيبوا وأخبروه أن “نظام بشار الأسد يمنعهم من التحرك ليلا”.
الجنرال “روبرت مود” رئيس بعثة المراقبين الدولية، أكدّ:
أنَّه بعد القصف العنيف الذي تعرضت له الحولة وتحت غطاء ناري من قذائف دبابات الجيش السوري، قامت مجموعة من الشبيحة -أهالي القرى العلوية- المجاورة للحولة (القبو والشرقلية والقناقية)، مدعومين بقوات من الجيش النظامي باقتحام المنطقة ودهموا بيوت المدنيين وقتلوا كل من وجدوه فيها من رجال وأطفال ونساء ذبحاً بالسكاكين وبأدوات حادة أدت إلى تهشيم الرؤوس بوحشية مفرطة، حينها أكد الجنرال مود مقتل 92 شخصًا في الحولة من بينهم أكثر من 30 طفلًا، إلا أن المجلس الوطني السوري المعارض أكد أن عدد ضحايا المجزرة فاق 110 أشخاص، نصفهم من الأطفال.
الأمم المتحدة سمعت صدى السكاكين
زار مراقبو الأمم المتحدة موقع المجزرة في اليوم التالي لحدوثها، وشاهدوا عشرات الجثث.
روبرت مود رئيس بعثة الأمم المتحدة في سوريا، وصف عمليات القتل بأنها:
“عشوائية ولا تغتفر”.
وأشار تقرير للأمم المتحدة أن القوات المُوالية للرئيس بشار الأسد هي المسؤولة عن هذه المجزرة مطالبًا الحكومة السورية بالتوقف فورًا عن استخدام العنف ضد المدنيين، وفي مقابلات مع أشخاص نجوا من المجزرة ونشطاء في المنطقة، أكدوا أن من قام بارتكاب مجزرة الحولة هم موالون لبشار الأسد ويرتدون الزي العسكري.
وقالت منظمة مراقبة حقوق الإنسان إن 62 من الضحايا كانوا من عائلة عبد الرزاق.
بربكم يا أصدقائي، ألا تَروْن أنَّ هذه المواقف كلها هراء؟
رد الفعل الشعبي “فالج لا تعالج”
يعرف السوريون أنَّ الخروج في مظاهرات احتجاجاً وتنديداً بمجزرة الحولة واحتجاجاً على ممارسات القتل الجماعي بحق المدنيين. هو واجب وطني لايجدي ما دام النظام وحلفائه ينطبق عليهم مثل “فالج لا تعالج”، ولكن لابدَّ من رفع لافتات في عدد من المظاهرات في العاصمة دمشق كتب عليها:
"النظام السوري يقتلنا تحت إشراف مراقبي الأمم المتحدة".
وفي حلب خرجت مظاهرات حاشدة في أحياء حلب، ردد المتظاهرون فيها هتافات تندد بمجزرة الحولة وتطالب بإسقاط النظام.
دعا تجار العاصمة دمشق، لتنفيذ إضراب عام تدعمه قوى وتيارات المعارضة المختلفة. وشمل الإضراب عددًا من أحياء المدينة، حتى بلغ أكثر من 80 في المئة من المتاجر التي أغلقت في بعض المناطق الأخرى. لكنَّ جنود الجيش أذاعوا تهديدات للسكان في العاصمة عبر مكبرات الصوت يأمرون التجار بإعادة فتح متاجرهم.
وانتصب الجيش السوري الحر مهدداً بأنَّه سيوقف التزامه بخطة المبعوث الدولي كوفي أنان وقف الهدنة المعلنة، إذا لم يتحرك مجلس الأمن لحماية المدنيين، قائلين:
“فلتذهب خطة أنان إلى الجحيم”
أما “برهان غليون” رئيس المجلس الوطني السوري المستقيل قال:
“إن التعاطي مع ما يحدث في سوريا سيختلف بعد المجزرة، مشدداً على مسؤولية المجتمع الدولي”.
رد الفعل الدولي والتصريحات رصاص خلبي:
إدانات شديدة اللهجة، وطرد سفراء من العواصم العربية. رؤساء أكبر دول العالم بعد مخاض عسير كان وليدهم كلمات جوفاء شجعت الأسد كي يستعمل بعد فترة السلاح الكيماوي الأكثر قتلاً وإجراماً. والرئيس أوباما وضع خط أحمر ولما تجاوزه الأسد رفع الروسي في مجلس الأمن يعلن أكثر من عشرة فيتو. ومن وراء الكواليس الصهاينة يحمون عرش الأسد، ضعوا نقطة يا شرفاء العالم انتهى الكلام.
في الوقت الذي كانت جثامين شهداء مجزرة الحولة تدفن في مقابر جماعية، بثَّ ناشطون صوراً مهيبة ومحزنة لها، عنونت صحيفة الشرق الأوسط: “مجزرة الحولة السورية تهز العالم “، وعنونت صحيفة الحياة “مجزرة الحولة: المراقبون يؤكدون مسؤولية النظام”. وبدأت سلسلة من الإدانات وطرد سفراء النظام السوري من عواصم عربية وأجنبية، وقال وزير خارجية مصر محمد كامل: “إن ما حدث جريمة لا سكوت عنها وانتهاك لكافة الخطوط الحمر”، واتهم مجلس التعاون الخليجي القوات النظامية بارتكابها، ودعت الإمارات إلى عقد قمة عربية طارئة لبحث تداعيات المجزرة، كما أدانت المملكة العربية السعودية والكويت وحشية النظام.
وصرح أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون والمبعوث الدولي لسوريا كوفي أنان: “المجزرة انتهاك صارخ للقانون الدولي”، وأدان المتحدث باسم البيت الأبيض المجزرة ووصفها بأنها “تمثل صورة حقيرة لنظام غير شرعي يرد على الاحتجاجات السلمية بوحشية ولاإنسانية”، فيما وصفت وزيرة الخارجية الأوروبية كاثرين آشتون المجزرة بالمهولة ودعت لوضع حد لسفك دماء السوريين، وطالب وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ برد دولي قوي، كما قال الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند إن “الخيار العسكري لم يعد مستبعداً”.
واستنكاراً للمجزرة طردت كل من (الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، النمسا، سويسرا، هولندا، بلجيكا، بولندا، النرويج، البرتغال، تركيا، أستراليا، نيوزيلندا، اليابان) السفراء السوريين من أراضيها، فيما حملت روسيا المسؤولية عن مجزرة الحولة على عاتق السلطات ومن سمتهم “المتطرفين” في سورية على حد سواء.
تبرير النظام كالعاهرة التي تحاضّر بالعفة
طالما أنَّ وزير خارجية النظام الأسدي وعد بمحو أوروبا من الخارطة، فقد كان مدفوعاً من الأسد الذي قال له : الكلاب تنبح والقافلة تسير. لذلك من المعيب أن نعيد نشر غسيل الأسد الوسخ، ونكتفي بالتعامل معه بأنه مجرم من الطراز النادر.
يا “فوزيَّة” … أنت الزير الذي لن يسامح جساس
هكذا دار الحديث بين الأصدقاء دون جدل، وكانت حكاية “فوزية“ تلخص مأساة المجزرة وتسد الفجوات والعطب الذي لم يستطع أي أحد أن يعبر عنها بما تستحقه هذه الجريمة.
في الحقيقة، لم تكن المجزرة ذاتها، بالنسبة للعالم سوى خبر عادٍ، ولكنَّ بعض شهود المجزرة الذين نجوا وبقوا أحياء، حوّلوا تاريخ المجزرة إلى ذكرى سنوية، تكثر فيها الخطابات المبتذلة والقصائد المدبَّجة، لولا وجود “فوزية حسين الكردي“، الأم الناجية مع ابنتها ذات الأعوام الأربعة بحصيلة أربع طلقات، من رصاص أراد أشقاؤنا في الوطن، وأقرانها القريبون في الجغرافيا أن يزهقوا حياتها، ولكن الله أنجاهما، بعد أن فقدت “فوزية” أولادها الثلاث وزوجها والعشرات من أهلها. ما زالت هذه الأم التي تقيم حالياً في منطقة الريحانية التركية، لا تصدق ما جرى معها وتعاني من اضطراب نفسي عصبي تحتاج للاستطباب في المشافي بين حينٍ وآخر.
لم تجرؤ “فوزية” الظهور في الفيلم الوثائقي الذي أعدته وبثته “قناة الجزيرة”. واكتفت أن تنيب عنها أحد الوجهاء في منطقتها، رغم أنه عاش بعيداً عن الحولة منذ ثلاثين سنة، وكان همه أن يوجه الأنظار إلى هول المجزرة وحاجة المتضررين إلى حد مقبول من الرعاية والدعم النفسي والمادي.
رغم حالة “فوزية” الصحيَّة، تابعت التواصل مع بعض الناشطين لمعرفة أية تطورات أو نتائج بهذا الشأن، ولم يحبطها سقوط الدعاوى القضائية سهوا أو عمدا التي رفعها نشطاء وحقوقيون على النظام السوري لمحاسبتة بإعتبار المجزرة بمثابة جريمة حرب، وقد حاولت، وفهمت -رغم ضبابية المواقف- أنه لم تجر المتابعات بشكل جاد ونزيه.
وكلما سألوا “فوزية” عن حالها، يجدوا أنها ما زالت مصممة على سوق الأشخاص الذين ارتكبوا المجزرة للمحاكم، لأنها تعرف وجوههم ومعلومات شتى عن خلفياتهم. وتقول مؤكدةً بقاءها ساعية لتحقيق العدالة طالما أنها تعرف وجوه القتلة، والكثير من وجوه المستثمرين والمتسلقين ومقاولي الحروب والأزمات وطلاّب الوجاهات والزعامات وتجار الدماء والأشلاء.
الجميع ساندوها منذ سنوات قائلين لها:
تشجعي أيتها الناجيَّة المكلومة، فلم يُنجكِ الله إلا لتكوني مُدعيَةً أو شاهِدَةً في محكمةٍ عادلةٍ لا بُدَّ أن تفتح أبوابها لأمثالك من الثكالى وفاقدات أبنائهنّ وأهلهنّ وهم أبرياء.
وستبرهن مآلات صبرك أنك ” أنتَ الزير الذي لن يسامح جساس”