مقدمة
يحلو لبعض المثقفين والنخب المعاصرين – بنية حسنة حيناً وغالباً خبيثة – أن يصفوا السياسة بالقذارة والنجاسة، ويرون أنه يجب على أصحاب المبادئ والأخلاق والقيم أن يهجروها ويبتعدوا عنها حتى يبقوا طاهرين ولا يقعوا في شراك رجسها، وبما أن الدين الإسلامي وجميع الأديان السماوية تدعو إلى الفضيلة والخير والحق والجمال، فهم ينصحونهم اعتزال السياسة وتركها للآخرين – أي للأشرار- وهذا طرح عجيب لا يستقيم مع التاريخ ولا مع الواقع، فنجاح الدول وتطورها وتفوقها لم يكن بسبب فصل الأخلاق والمثل العليا عن السياسة وتركها لعربدة الظالمين والمستبدين. فكم من شعوب ارتقت ذرى النجاح عندما كانت عندهم السياسة نقاء وصفاء وسمو.
فلو غصنا في التاريخ السحيق إلى أن نصل إلى الواقع المعاش، لوجدنا أن ثمة حكام فراعنة قد قادوا البلاد بالعدل والحكم الرشيد، ولو تحولنا إلى بني إسرائيل لوجدنا أن حكامهم وزعمائهم كانوا أنبياء وفي الحديث الشريف:
“كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء” – (ومعنى الحديث كما قال النووي: أي يتولون أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية). وكلنا متفقون على أن الأنبياء هم صفوة البشر وقمة النقاء والطهارة والصدق والعدل والسمو…
وعندما جاء الإسلام وبدأ شعاعه يتوهج وقويت شوكته وانتشرت رسالته السامية على أرجاء الأرض كان من يسوس دولته في معظم مراحلها الأكثر استقامة وتقوى وأمانة وأخلاقاً، ابتداءً من تأسيس دولته على يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة ومروراً بالصحابة الكرام أبي بكر وعمر وعثمان وعلي….ووصولاً إلى العصور اللاحقة الأموية والعباسية وانتهاء بدولة الخلافة الإسلامية، حيث كانت لديهم السياسة نقاء وصفاء وسمو.
وبناءً على ما تقدم يمكن الشروع والدفع قُدمًا باتجاه تسليط الضوء على مقولة يُعمل على إشاعتها وهي أن السياسة قذارة ونجاسة ومن ثم تفنيدها بتفصيل أكثر.
ما معنى السياسة؟
السياسة لغوياً هي القيام على الشيء بما يصلحه، وتعني أيضاً الترويض والتدريب على وضع معيّن، والتربية والتوجيه، وإصدار الأمر والعناية والرعاية، والإشراف على شيء، والاهتمام به والقيام عليه.
وأما السياسة اصطلاحياً فقد عرّفها سقراط بأنها فن الحكم السياسي.
وعرفها أفلاطون بأنها فن تربية الأفراد في حياة جماعية مشتركة، وهي عناية شؤون الجماعة، أو فن حكم الأفراد برضاهم، والسياسي هو الذي يعرف هذا الفن.
وتُعرف أيضاً بأنها رعاية كافة شؤون الدولة الداخلية، وكافة شؤونها الخارجية.
وعُرّفت أيضاً بأنها طرق وإجراءات مؤدية إلى اتخاذ قرارات من أجل المجتمعات والمجموعات البشرية.
أما الواقعيون فعرفوها بأنها فنٌّ يقوم على دراسة الواقع السياسي، وتغييره موضوعياً.
ولو نظرنا لجميع تلك التعريفات لوجدنا أنِّ فحواها يكاد يتفق عليه الجميع وهو القيام بتنظيم وتربية ورعاية كافة شؤون الدولة خارجياً وداخلياً وهذه التعريفات لا يمكن تفسير أياً منها لا بالتلميح ولا بالتصريح على أنها تدعو الحاكم أو تشترط عليه بأن يكون معادياً للقيم والأخلاق والمبادئ والفضيلة، ومغازلاً للرذيلة والانحراف والانحدار.
ولكن هناك شخصية تاريخية مثيرة للجدل ومعروفة قُيض لها أن تكتب كتاباً يخالف ما عرضنا من تعريفات السياسة، وهذا الكتاب هو ” الأمير ” وصاحبه الذي صار له مذهب سياسي خاص به هو ميكافيلي، يقال فلان يمارس السياسة الميكافيلية.
إذا ما وقفنا على سيرة صاحب هذا الكتاب سرعان ما تتبدد تلك الأوهام التي ذكرها في كتابه لأنه يتبين أنه رجل مداهن نرجسي صاحب هوى يتقاطع مع الحاكم الذي كتب له الكتاب حتى يبقى الحاكم ومن خلفه ميكا فيلي يحكمون الناس بالحديد والنار، فقد عرف السياسة قائلاً: ” هي فن الإبقاء على السلطة، وتوحيدها في قبضة الحكّام بصرف النظر عن الوسيلة التي تحقق ذلك “.
وهذا التعريف يطرب وينعش الحكام المستبدين الطغاة المأفونين ومن ساندهم وهم حالة مرضية استثنائية يجب التخلص منها أو معالجتها، فقد شخص علماء النفس أمراضهم ضمن دائرة:
-
داء “جنون العظمة” (بالإنجليزية: Mlomaniaega)
وهو مصطلح تاريخي مشتق من الكلمة الإغريقية (ميغالومانيا)) وتعني وسواس العظمة. وهو متشابه لحد كبير مع أمراض جنون الارتياب (Paranoia)
-
داء “السادية” (بالإنجليزية:Sadism)
يوصف بالسادية كل انسان قاسي القلب، ولايقبل العذر ، ولا يسامح الآخرين، بل يتلذذ في تعذيب الآخرين بأي وسيلة أو سلطة كانت عنده حتى وإن لم تكن لديه سلطة، يكون سليط اللسان على من أمامه كي يعذبه باللوم والتقبيح والاقلال من الشأن.
-
داء “النرجسية” (بالإنجليزية:Narcissism)
وهو اضطراب في الصحة العقلية للمريض الذي ينتابه حينها شعور مبالغ فيه بأهميته. ويحتاج إلى الاهتمام والإطراء من الآخرين بشكل زائد ويسعى إلى ذلك. قد يفتقر الأشخاص المصابون بهذا الاضطراب إلى القدرة على فهم مشاعر الآخرين أو الاهتمام بها. لكن وراء هذا القناع من الثقة المفرطة، فهم ليسوا متأكدين من تقديرهم لذاتهم ويمكن أن ينزعجوا بسهولة من أقل انتقاد.
-
داء “الشخصية السيكوباتية” (بالإنجليزية:Psychopathic personality)
وهي نوع من الشخصيات القاسية التي عرف عنها معاداة الغير والرغبة الدائمة في إيذائهم بدون سبب أو مبرر، ينتج من الإضطرابات النفسية التي تؤثر على العقل ويؤدي إلى خلل في العلاقات والرغبة الشديدة في تحطيم قواعد وقوانين المجتمع والشعور بالعلو والذكاء الشديد.
الأصل في السياسة
وبعيداً عن تلك الشخصيات المأفونة، يمكننا القول إنَّ الأصل في السياسة هو النقاء والصفاء والصدق والأمان والمروءة والإيثار، وقد ذكرنا آنفاً الأمثلة التي تدعم ما نذهب إليه، لكن إذا ما مارسها الأشرار والسفاحون والقتلة اللصوص، فتتحول إلى قذارة ونجاسة. لإنهم حكام أتوا بالبوط العسكري أو من سلالة ملوك والبعض بالوراثة
زعماء عاصرناهم
ولو أردنا الوقوف عند زعماء العصر الحديث من أجل تشخيصهم لوجدنا أنهم ينقسمون إلى فريقين:
- الفريق الأول وتمثله الدول المتطورة والمتقدمة والتي تراعي حقوق الإنسان
وتنتهج الديمقراطية التي ترفع من شأن الإنسان ونجد هذا جلياً في أوربة الغربية وفي الولايات المتحدة، إضافة إلى بعض الشخصيات الفذة التي لا تنتمي إلى هذه الدول ولكنها عُرفت بكفاحها ونضالها من أجل نيل الحرية والحقوق لشعوبها المقهورة وعلى رأس أولئك الزعيمين الراحلين غاندي ونيلسون مانديلا.
- الفريق الثاني وتمثله الدول المتخلفة والتي حكمها أعتى الحكام وأكثرهم إمعاناً في سفك الدماء وعلى رأسهم رئيس كمبوديا في سبعينيات القرن الفارط والذي قتل ثلاثة ملايين إنسان من أصل ثمانية ملايين من عدد السكان الأصلي بحجة تطبيقه للفكر الشيوعي، والشخصية الأخرى التي تشبهه والتي ماتت في الحقبة ذاتها، وتسببت بإزهاق أرواح ما بين (45 -75) مليون شخص وبالذريعة نفسها التي تذرع بها صنوه بوت وهي تطبيق النظرية الشيوعية هي شخصية الصيني ماوتسي تونغ.
الانفجار المعرفي
وبعد أن دخل العالم الألفية الثالثة ووصل العالم إلى الانفجار المعرفي في التقنيات والاتصالات والنظريات العلمية والفكرية، ولكن للأسف ما زلنا نجد زعماء يحاكون ويقلدون أسلافهم في قهر الشعوب وإذلالها وخنقها والإجهاز على كل صوت معارض.
أجل إن من ينظر إلى هؤلاء يتهم ساحة السياسة وينثال على لسانه ومن دون تفكر أن السياسة ترادف القذارة والخباثة، ولكنه جانب الصواب في هذا الحكم وكان الأجدر به أن يقول إن من يمارس السياسة قذر ونجس والحيوانات أكثر منه سمواً.
- بشار الأسد أنموذجاً: قتل مليوناً وشرّد مليوناً وهجّر أكثر من عشرة ملايين… إذا ما أردنا تقييم أدائه والحكم على إجرامه وعربدته هل نقول إن السياسة عامة قذرة أم نقول عنه قذر ونجس وسادي ونرجسي؟!!
- معمر القذافي أنموذجاً: حكم ليبيا بالحديد والنار وكم الأفواه وقطع كل لسان لا يلهج بمدحه، هل نبرئه من أمراضه النفسية ومن جنون العظمة التي رافقت حياته ونصف السياسة بأنها نجسة؟!!
- السيسي رئيس مصر أنموذجاً: قتل آلاف الناس في مجزرتي رابعة والنهضة والتي سُميت بمجزرة القرن، من أجل أن يصل إلى كرسي الحكم ويمارس هوايته النرجسية ويترك العنان لشخصيته السايكوباثية (هي اضطراب في الشخصية يتميز صاحبه بالعديد من الصفات أهمها سلوك ضد المجتمع والغطرسة والتلاعب بالآخرين مع افتقاد الشعور بالتعاطف مع ضحاياه وعدم الشعور بالذنب أو الندم على أفعاله الخاطئة وهو أمر غالباً ما يقود إلى سلوك إجرامي). ماذا نقول عن صنيعه؟ إن السياسة قذرة وتحتاج إلى هذا السلوك المنحرف وإلا لا يستطيع حكم البلاد؟!! إنه رجل مأفون سادي.
النماذج كثيرة
ولو أردت إحصاء تلك الشخصيات المثيلة، خاصة تلك التي جاءت إلى سدة الحكم بالبوط العسكري، لاحتاج الأمر مني صناعة كتاب ولكن حسبي أن أكون قد أشبعت الفكرة التي أريد معالجتها.
الخلاصة
وفي النهاية فإن القلم يبني الأوطان وينشر الأخلاق السامية والمجتمع الصالح إذا ما أمسك به الأخيار ولكنه يتحول إلى هدّام شرير إذا ما أمسك به شذاذ الآفاق، والبندقية صُنعت للدفاع عن حقوق المظلومين وإذا ما أمسك بها مجرم فتتحول إلى كارثة على الإنسانية، والسلطة الأًصل أن يقودها سياسي صالح يخدم شعبه ويشارك في صلاح الإنسانية وإذا ما تبوأ الكرسي شرير فعندئذ تتحول البلاد إلى مافيات، وقد لخص ذلك أحد المفكرين بقوله:
” عندما يمسك بالقلم جاهل، وبالبندقية مجرم، وبالسلطة خائن، يتحول الوطن إلى غابة لا تصلح لحياة البشر “.