استهلال
كانت بداية ظهور أعراض طبائع الاستبداد في شخصية حافظ الأسد عندما كانت سوريَّة تشهد صراعات سياسية داخلية بين مختلف الفصائل، بما في ذلك حزب البعث، سافر الأسد إلى مصر أيام الوحدة عام 1958 لفترة قصيرة للابتعاد عن هذه الصراعات، والتركيز على تطوير مهاراته العسكرية. وبعد انفصال سوريَّة عن مصر في عام 1961، عاد الأسد إلى سوريَّة، وشارك في الانقلاب العسكري الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة في عام 1963. وتبلورت طبائع الاستبداد عنده عندما أصبح رئيسًا لسوريَّة عام 1970، وكان من المفترض أن تنتهي بانتهاء أجله في عام 2000. ولكنَّ دهاء الطاغية في ابقاء الصندوق الأسود لحكمه عصياً على الفتح من بعده خشية من افتضاح محتواه، خاصة ما جرى أثناء فترة توليه منصب وزير الدفاع التي أضاع خلالها الجولان السوري عام 1967 لأسباب ما زالت مخبأة -أيضاً- في الصندوق الأسود الإسرائيلي، وكذلك تفاصيل جرائمه العديدة مثل مجزرة حماه، ومجزرة سجن تدمر ، لذلك قام قبل وفاته بسنوات باستنساخ نفس طبائع الاستبداد كي تندس في طباع وريثه بشار الأسد الذي اعتلى سدة الحكم بمرسوم صوري تمَّ بموجبه تعديل الدستور الذي يَشتَرط أن يكون عمر رئيس الجمهمرية 40 سنة ليصبح على مقاس عمر الوريث 34 سنة.
ترويض الابن وريث الطاغية
ورد تعريف بشار الأسد في الكثير من الموسوعات التي توثق سيرة حياة الرؤساء كما يلي:
ولد بشار حافظ الأسد في 11 ايلول 1965، ونشأ في العاصمة دمشق. درس في جامعة دمشق وتخرج طبيباً في عام 1988. ثم سافر بعد تخرجه بأربع سنوات، للتخصص بطب العيون في مستشفى ويسترن بلندن، ويقال أنه أنهى التخصص في عام 1994، والبعض يقول أنه قطع دراسته بعد وفاة أخيه باسل الذي تم إعداده لخلافة الأب، مما أدى لاستدعائه فوراً ليعود إلى سوريَّة ليكون بديلاً لباسل كوريث للأب. وقد كانت أول مراحل تأهيله هي أن يكون ضابطاً كي يتمكن من السيطرة على القوات المسلحة، لذلك التحق بالكلية العسكرية شكلاً، وتولى أثناء تلك الفترة استلام ملف الوجود العسكري السوري في الأراضي اللبنانية عام 1998.
خلال فترة الترويض، بدأ بشار يظهر في حوارات ومقابلات صحافية للتمهيد قبل رئاستة بسنوات، يَعِدُ الجماهير خلالها بأنَّه:
“إن تسنى له ترشيح نفسه وحكَم سوريَّة- سيجعل منها دولة يَعمُّها الإزدهار والرفاهية، وسيكون الحصول على الجنسية وجواز السفر السوري حلماً للأشقاء الخليجين المنعمين بحياة رغيدة، ولكنها لن ترتقي إلى مستوى سوريَّة في عهده إن كانت له الرئاسة”.
ورغم أنَّ هذه التصريحات كانت لاذعةً ومهينة لحكومات الخليج العربي وشعوبهم، لكنْ لم يعترضوا عليها آنذاك، لأنهم سَبقَ أن عرفوا من أسيادهم في إسرائيل والغرب أنها الأجندة المرسومة لمستقبل سوريَّة -ما بعد حافظ الأسد- المصاب بالسرطان آنذاك.
وبقي الترويض مستمراً إلى أن جاء دوره لاستلام الحكم بعد تعديل عمر الرئيس على مقاسه، وفي 10 حزيران 2000، انتخب رئيسا بدعم مطلق وفعال من كافة مراكز القوى في الحرس الأمني القديم حسب وصية الأب لهم.
بدايةٌ على نمط شعار الأب “الأسد للأبد”
خلال الفترة الرئاسية الأولى التي دامت 7 سنوات، بدأت “طبائع الاستبداد التي استنسخها عن أبيه الطاغية”، تظهر بنعومة خادعة مع اتقانه لعب دور الرئيس الشاب الذي يرتاد المطاعم ويتجول في حارات دمشق القديمة على نحوٍ لم يَسبق أن قام بمثله الأب الطاغية. ولكن مع تتالي الأحداث، شعر المجتمع السوري بأنَّ هذا الرئيس (ألعُوبان) قد خنث تباعاً بكل ما جاء في القسم الدستوري الذي يقول:
((أقسم بالله العظيم أن أحترم دستور البلاد وقوانينها ونظامها الجمهوري، وأن أرعى مصالح الشعب وحرياته، وأحافظ على سيادة الوطن واستقلاله وحريته والدفاع عن سلامة أرضه، وأن أعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية ووحدة الأمة العربية)).
وبالرغم من الاحتقان الشعبي الذي بدأ يتنامى ويزداد نتيجة لأسلوب توريث الحكم في نظام جمهوري، نجحت الضغوط الأمنية بتقييد الحريات العامة مستندة على صلاحياتها المطلقة التي ينص عليها قانون الطوارئ المطبق في سورية منذ عام 1962، بعد انقلاب عسكري قاده حزب البعث، والذي استفاد منه بشار في إجراء 4 انتخابات رئاسية لبشار الأسد في سوريَّة وهي:
- عام 2000: تم انتخابه لأول مرة دون أي منافسة، حيث حظي بـ 99.7% من الأصوات.
- عام 2007: جرت الانتخابات الرئاسية الثانية، وكان المرشح الوحيد أيضًا، وفاز بنسبة 97.6% من الأصوات.
- عام 2014: أجريت الانتخابات الرئاسية الثالثة بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريَّة، وشارك فيها 3 مرشحين، فاز الأسد بنسبة 88.7% من الأصوات.
- عام 2021: جرت الانتخابات الرئاسية الرابعة، وشارك فيها 3 مرشحين أيضًا، وفاز الأسد بنسبة 95.1% من الأصوات.
وبالمناسبة، تنبأت مصادر سياسية عدة، بأنَّ نجاحه في انتخابات عام 2028 المقرر إجراؤها تضمنه روسيا مع موافقة إسرائيل وأمريكا وربما إيران!
الأسد الطاغية في عيون العالم اليوم
كان يُنظَر إلى بشار الأسد عند ولاية حكمه الأولى عام 2000 من قِبَل العديد من الدول على أنه مُصلح مُحتمَل. واستمرت تلك الدول تُداوِرُه كي تستفيد من وجوده في الحكم لتحقيق أجنداتها السياسية والاقتصادية.
ولكن تغيّر استراتيجيات الجيوبوليتيك العالمية في الآونة الأخيرة، جعل -في الظاهر- اتخاذ مواقف متناقضة من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغالبية جامعة الدول العربية نتيجة ضغط شعوبها إلى ضرورة الضغط على الأسد للتنحي عن الرئاسة بعد أن تَغوّل في قتل المتظاهرين الذين خرجوا عليه مطالبين برفع الاستبداد عنهم، الأمر الذي أدى إلى إعلان الحرب عليهم وليس كما أسموه زوراً “الحرب الأهلية الطائفية السورية”.
الأمم المتحدة .. عشر سنوات من الارتباك بالفيتو
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 وحتى تاريخ 2023/12/01، استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) 16 مرة لمنع صدور قرارات في مجلس الأمن بشأن سوريَّة.
وتوزعت هذه القرارات على النحو التالي:
- 6 قرارات تتعلق باستخدام السلاح الكيميائي في سوريَّة.
- 5 قرارات تدين انتهاكات حقوق الإنسان في سوريَّة.
- 3 قرارات تدعو إلى وقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية.
- 2 قرار تتعلق بتشكيل لجنة تحقيق دولية في جرائم الحرب في سوريَّة.
- 5 مرات انضمت الصين إلى روسيا في استخدام حق النقض.
- 11 مرة امتنعت روسيا والصين عن التصويت.
وقد أدى استخدام الفيتو إلى إعاقة الجهود الدولية لحل الأزمة السورية، وتسبب في تفاقم معاناة الشعب السوري.
وبعد أن أُربِكَت الأمم المتحدة لمدة زادت عن عشرة سنوات من عمرة الثورة السورية، صدَر عنها -مؤخراً- تحقيقاً يتضمن تأكدّها من صحة أدلة وصلتها حول تورط الأسد في جرائم حرب، خاصة ثبوت استعمال الأسد الأسلحة الكيماوية في عام 2014. لذلك تمَّ إدراج اسم الأسد في لوائح مرتكبي “جرائم حرب ضد مسؤولين حكوميين ومتظاهرين، واليوم بدأت النقاشات على مستوى دولي بضرورة خضوع الأسد للمحاسبة من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
وبالطبع، كان -وما زال- يحاول الأسد التملص من هذه الادعاءات، مخاطباً دول العالم بأنه يقاتل الإرهاب الذي تتزعمه “داعش” بالاشتراك مع بعض المنظمات الإرهابية الرديفة لها، ويكرر هذا الإدعاء -دائماً- من خلال مقابلاته التلفزيونية وتصريحات للإعلام العالمي، منتقداً تدخل الأوروبيين والولايات المتحدة في الشأن السوري. لمحاولتهم تغيير النظام.
الثورة السورية بعيون المثقف السوري
ليس من شك أنَّ الحِراكَ الثوريّ الشعبي في سوريَّة منذ بدايته، كان تحدياً صعباً للمثقف السوريّ، لأنه وضع نخبة المثقفين -لأول مرة في تاريخهم المعاصر- أمام امتحان نوعيّ لاختبار مدى عمق وعيهم الجمعي، وعمق التزامهم بمناصرة المتظاهرين السلميين الذين اضطروا -فيما بعد- أنْ يحملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم وعن أهلهم أيضاً.
فالتحدي جعلهم أكثر صلابةً وحزماً، رغم انقسامهم لفرقاء تتباين مواقفهم بين من أعلن انحيازه للثورة ودعم مطالب الشعب المشروعة في الحرية وبناء الدولة الديمقراطية، وبين من يوصفون بطبقة المثقفين الرماديين، لأنهم ما زالوا يبحثون عن ذريعة تسعفهم في إيجاد تبرير مقنع لانهزاميتهم واستمرار سلبياتهم وترددهم في اتخاذ موقف صريح من النظام وتصرفاته غير المبررة أصلاً، أما فريق الموالاة -بطانة الحاكم ومعهم الشبيحة- ازدادا التحاماً بالسلطة تحت مسوّغ تبنوا به كل ما صدر عن لسان حال النظام من أنّ الحراك ليس إلا مؤامرة كونيّة، وجماعات أصوليّة تتحين الفرص للانقضاض على أركان الدولة وتدمير أمن المجتمع وسلامته.
شخصيات شيطنت الثورة
للأسف، كان موقف شريحة -ليست بقليلة- من نخب المثقفين الذين ناصبوا العداء بإسفاف مبتذل، وصل إلى حدّ شيطنة أبطال الحراك الثوري. وكان أبرزهم:
- بعض بطانة الأسد من رجال الدين من أمثال الشيخ الدكتور محمد سعيد البوطي، ومفتي السُنَّة الدكتور أحمد حسون الذي أعلن -في وقت متأخر- تشيّعه إكراماً لإيران وشيعة حزب الله.
- أما نخبة المثقفين العلمانية، كان من أبرز زعاماتها الباحث نبيل فياض الذي روَّج بأنَّ وراء هذه الثورة زمرة من السلفيين المتآمرين على الديمقراطية السائدة في سورية.
- أما طبقة الصامتين منهم:
- الرماديون الصمّ البكمّ.
- طبقة التقيَّة الذين توارو خلف مقولة تنادي بعدم اتخاذ موقف القطيعة ومعاداة النظام، بل يجب الحوار معه لإيجاد تسوية تتوافق معه. وكان أبرز من نادى بذلك أكثرية مثقفي الطائفة العلوية، والبعض من الطائفة المسيحية مثل الشاعر نزيه أبو عفش الذي ظهر مبكراً محتجاً بقوله:
“الثوار لم يُمهلوا النظام السوريّ للقيام بإصلاحات، فهذه لا تكون في يوم وليلة”.
وكان ردُّ المثقفين الثوريين عليه -آنذاك- متجسداً بما قاله الأديب زكريا تامر ساخراً:
هل يَعرفُ الرئيس السُوريّ الحاليّ أن الأمهات السوريات لا يُنجبن الأبناء إلا من أجل أن يتابع أعوانه قَتلهم؛ تأسيساً لجمهورية القُبور؟”
- مواقف المرتبكين كانت عَوراءُ ومتناقضة، وأبرزهم:
- المفكر أدونيس مثالاً: من يقرأ كتاب هذا المفكر السوري “الثابت والمتحول” يجد الكثير من التناقضات عند إبداء رأيه بما يعيب الثورة السورية، بينما يؤيد بعض الثورات الدينية التاريخية المناهضة للإسلام، ومنها تأييده للثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة آية الله الخميني!
اقتطع هنا جزءاً من مراجعة كتاب أدونيس “الثابت والمتحول” التي نشرها د. أحمد أبو مطر في موقع “إيلاف” بتاريخ 13 شباط 2012 عنوانها:
“أدونيس بين الثابت والمتحول بخصوص الثورة السورية والدين”
“الدارس والمتتبع الموضوعي لمواقف الشاعر السوري المعروف بأدونيس، يلحظ بوضوح ومهنية مواقفه المتذبذبة بين الثابت والمتحول خاصة فيما يتعلق بالثورات العربية والسورية منها خاصة والدين.
فلا تعرف الثابت منها لأنّه يتحول في لحظة ما، أو يأتي موقفاً ملتبساً بمعنى عدم الوضوح والمراوغة عبر استعمال عبارات مبهمة أقرب منها لغموض الشعر السوريالي من وضوح كلمات المواقف السياسية،خاصة عندما يتعلق الأمر بثورة الشعب السوري المندلعة منذ الخامس عشر من مارس 2011 ضد النظام العائلي الأسدي التوريثي. فبعد سكوت ملتبس اشتهرت رسالته لمن أطلق عليه (السيد الرئيس بشار الأسد) التي نشرها في جريدة السفير اللبنانية في منتصف يونيو 2011 أي بعد حوالي ثلاثة شهور من اندلاع الثورة، وكان عدد القتلى السوريين ذلك الوقت يزيد عن 1500 شخص. وقد تضمنت رسالته تلك العديد من النقاط النقدية الموضوعية كي نعطيه حقه بدون افتراء ومغالطة. ولكن هذه النقاط النقدية أضاع قيمتها من خلال إيراده في الرسالة ملاحظتين، وأعتقد أنّها كانت موجهة للنظام القمعي الأسدي كي يقفز هذا النظام عن نقاطه النقدية، وهاتان الملاحظتان هما:
الأولى: تشكيكه في ثورة الشعب السوري من خلال توصيفه الملتبس لمطالب المعارضة حين يقول عنها:
“أن تعلِن نقدَها إذا كانت اعتراضاتها جزئية، أو تعلن مشروعاتها وخططَها البديلة إذا كانت اعتراضاتها شاملة. وما دامت المعارضة، أو بعضها، في سوريَّة، تطالب بإسقاط النظام، فإنّ عليها أن تقول خططها وأهدافها لما بعد إسقاط النظام، كما أنّ عليها أن تقول إلى أيّ مدى، ووصولاً إلى أية جذور، تريد أن تصل في مشروعها التغييري”.
أعتقد أنّ هذا القول مجرد تشكيك يصبّ لصالح النظام، لأنّ المعارضة بكافة أطيافها أعلنت منذ بدايتها عن رغبتها في رحيل النظام وقيام نظام ديمقراطي عبر انتخابات نزيهة بديلا عن نظام عائليٍّ توريثيٍّ منذ 42 عاما، وهذا ما يتجاهله أدونيس، لأنّ مجرد استمرار الأب والإبن في حكم سوريَّة بالقمع والقتل ما يزيد على أربعة عقود يفقده صفة أي نظام، سوى أنه ديكتاتوري استبدادي قمعي توريثي. ويستمر أدونيس في التشكيك المبطن في ثورة الشعب السوري فيقول عن بعض فئات المعارضة:
“هناك أصوات مفكرون، كتّاب، شعراء، فنانون، مثقفون، شبّان وشابّات، لهم وجهات نظر وتطلّعات نبيلة وعادلة، لكن لا تجمعهم وثيقة، ولو على مستوى الرمزية التاريخية، وثيقة تحمل أفكارهم، وتوضح أهدافهم لما بعد النظام القائم. فالصوت، إذا لم يتجسد، يظلّ صوتاً. لكنه لا يدخل بالضرورة، في شبكة الواقع العملي. يظلّ في ما دونها. أو في ما فوقها” … “الثورة حركة شاملة، والهدف الجوهري لكل مثقف ثوري مُبدع، ليس الوصول إلى السلطة، وإنما خَلقُ الوعي الثوري الذي يُحطم البنية اللا ثورية في المجتمع”…
فأدونيس شاعر الحريات لم يجد شططاً في مساواة الحِراك الشعبي بالسلطة الحاكمة في سورية، فمن خلال كلامه لوكالة الأنباء الفرنسية يقول:
“إن مشكلة تغيير النظام في سورية ثانوية، فيما المُشكلة الجذرية التي نحتاج حَلَّها هي تغيير المجتمع”.
وبدل أن يُخاطب الشارع كظهيرٍ ثقافي خاطب الرئيس السوري باعتباره رئيس جمهورية مُنتخب، وأوكل إليه نقل سورية إلى الديموقراطية، ونرى تناقضاً كارثياً في شخصية المثقف الكبير، فهو ينتقد المتظاهرين لخروجهم من المساجد فيما سماه أدلجة الثورة، وهو صاحب المديح اللامتناهي للثورة الإيرانية “الإسلامية” والإمام الخميني! *** يمكن متابعة مقال د. أبو مطر على الرابط: ايلاف
خطاب المثقفين النخبة .. مثالاً
لا يتسع المقال لذكر أسماء آلاف المثقفين الذين ناصروا الثورة مُضحِين بمركزهم الوظيفي أو عملهم الذي يرتزقون منه، ولكن نستأثر بذكر بعضهم -على الأقل- وفاءً لهذه النخبة بكاملها. وسنكتفي في هذا المقال على الاستشهاد بالفنانين السوريين كمثال عن إحدى شرائح طبقة المثقفين، لأنها شاركتنا هموم حياتنا اليومية من خلال تواجدهم معنا -في بيوتنا- من خلال شاشات التلفزة:
-
“ تجمع فناني ومبدعي سورية من أجل الحرية”
في وقت مبكر 27 كانون الأول 2011، أصدروا بياناً هاماً يفسر أسباب مناصرتهم للحراك الشعبي آنذاك يقولون في أحد مقاطعه:
“لقد حاول بعضُنا أو كُلنا المقاومة بالفن، وصون حق الرأي … لقد حُوصرت مُخيلة المُبدعين السوريين لعقودٍ طويلة في مؤسسات فاسدة ووزارات فاسدة ونقابات فاسدة. إنَّ فقدانَ المُؤسساتِ شرعيَّتَها الأخلاقية والمِهَنيَّة تَجْعَلُنا نَبْحَثُ عن إنسانيتنا خارج هَذِهِ (الشرعية) المُلطخة بدماء السوريين. لقد أيقظت حُريُّة الشارع حريّتنا، نحن لا نستطيع إعادةَ شُهدائنا للحياة، لَكِنَّنا نستطيع تَمْجيدَ الحياة بالعملِ يداً بِيَدْ وقَلباً بِقَلْبْ مع ثورة السوريين لبناء وطنٍ جديد”.
-
بيان الحليب:
أصدرت مجموعة من الفنانين بياناً إنسانياً يخلو من انتقادات سياسية، واقتصر على المطالبة بإيصال الغذاء والدواء وحليب الأطفال إلى أهالي درعا المحاصرين، لذلك أسموه “بيان الحليب”. ومن الموقعين على البيان الفنانة منى واصف – يارا صبري – ريما فليحان.
-
- من أبرز الفنانين السوريين الذين لم يقفوا على الحياد، بل ناصروا الثورة وانخرطوا فيها: الفنانة فدوى سليمان ورفيقها عبد الباسط الساروت- الفنان محمد عمر أوسو – المنتج السينمائي عروة نيربية – الفنان فارس الحلو – الممثلة مي سكاف – المخرج السينمائي نضال حسن – الممثلان محمد وأحمد ملص.والموسيقي العالمي مالك الجندلي الذي دفع ثمن ولائه للثورة حياة والديه اللذين قتلا على يد النظام بدم بارد انتقاماً، والمصور السينمائي باسل شحادة الذي قطع دراسته في أمريكا ورجع إلى حمص ليوَّثق جرائم النظام،فلاقى حتفه بمدفع دبابة أسدية، وآخرين كُثُر
- “مظاهرة المثقفين” شارك فيها عدد كبير من الفنانين والمثقفين في الأشهر الأولى للاحتجاجات، وكان اختارهم للخروج من أحد مساجد حي الميدان للدلالة على رمزية هذا المكان منذ أيام النضال ضد الفرنسيين.
-
نداء السينمائيين:
توجه المخرج السينمائي اللامع “أسامة محمد”، الذي اشتهر في الوسط الفني عندما أخرج فيلم “نجوم النهار”، الذي منع عرضه لأكثر من ثلاثين عاماً لأنه ينتقد الفساد ومنع الحريات في عهد الطاغية الأب، ولما جاءت الثورة، وقف منتصباً في مقدمة صفوف الثوار ليطلق نداءً للسينمائيين لمناصرة المحتجين على نظام الأسد الابن، وبعد ملاحقته أمنياً فرَّ إلى فرنسا ليتابع نضاله من هناك حيث شارك في “مهرجان كان” واقام ندوة مع كوستا غافراس بعنوان “السينما في ظل الدكتاتورية”.
اعتقالات واعتداءات
رغم تنوّع طوائف ومذاهب هؤلاء الفنانين، نجحوا في الاتفاق على الخروج من المساجد -باعتبارها أمكنة مقدسة تُسَهل عليهم التجمع الآمن-، غير آبهين بتوقيفهم مع المجرمين الجنائيين في أفرع الأمن المختلفة. ومن هؤلاء المخرج المسرحي الأكاديمي أسامة غنم الذي خرج مع المتظاهرين من مسجد في حيّ الميدان، ولما تمَّ إلقاء القبض عليه من قبل رجال الأمن لم تَحمِه مكانته الاجتماعية كأكاديمي من التعرض للضرب والإهانة بطريقة بشعة من قبل الشبيحة الرعاع .
ورغم تصاعد سطوة الأمن على توقيف المشاركين في المظاهرات، برزت أسماءٌ لفنانين شاركوا بجرأة منقطعة النظير. وكان من بينهم الممثل جلال الطويل الذي تمَّ خطفه والضغط عليه بقسوة وعنف لإجباره -أخيراً- الظهور على شاشة الإعلام الرسمي متراجعاً قسراً عن مواقفه البطولية.
وقد سبق ذلك أنْ جرى اعتقال الممثل محمد آل رشي من بين المتظاهرين ليُقاد إلى التحقيق معه بتعسف وضراوة نتيجة وطنيته الصادقة.
وكان كبير مخرجي السينما والتلفزيون هيثم حقي من بين عشرات الفنانين الذين آثروا مغادرة البلاد بعد أنْ تم اعتقال المنتج السينمائي شادي أبو فخر عدة مرات قبل أنْ يقدم على الخروج بعيداً عن حبيبته سورية.
ولما تعرض للاعتقال الكاتب التلفزيوني”تمام هنيدي” خاطبَ شريحة المثقفين الرماديين مستشهداً باقتباس الأمريكي مارتن لوثر كينغ :
“لإنَّ المكان الأكثر اتساعا في جهنم محجوزٌ لأولئك الذين يقفون على الحياد في المعارك الأخلاقية الكبرى”.
خاتمة
للإجابة على سؤال
“هل طبائع الاستبداد ثقافة أم غريزة يرثها الابن عن أبيه؟”.
أعتقد أنَّ الإجابة وردت في سياق المقال، فلا مندوحة عن القول أنَّ الأب حافظ الأسد قد أورث ابنه جينات طبائع الاستبداد وروَّضَه على ثقافة الطغيان وجعله يَرثُ سوريَّة كي يبقى صندوق الأبِ الأسود عصياً على الفتح مادام الإبن بشار قد بدأ يروض ابنه على ذلك المنهج لتبقى سورية مزرعة لبيت “الأسد إلى الأبد“.
فيا مثقفي سوريَّة النخبة، ما زالت التحديات قائمةً، فاصبروا وناضلوا فالحق لا يموت ما دام وراءه مطالب.