مقدمة
منذ أن حطَّ رحاله – السفير الهولندي نيقولاس فان دام – في أرض سورية لأول مرة عام 1964، عندما كان طالباً في الجامعة، وكان عليه اختيار موضوعاً ما، كي ينجز بحثاً أكاديمياً، لمس من خلال زيارته لسورية أنَّ تفشي ظاهرة الطائفية آخذة بالإنتشار منذ القديم وتتسارع بمنحى عامودي وأفقي، خاصةً بعد تولي حزب البعث مقاليد الحكم إثر انقلاب عسكري عام 1963. لذلك أتخذ “فان دام” قراراً أن يعود إلى سورية كي يعيش بين أهلها لسنوات، ريثما ينتهي من إعداد رسالة تخرُّجه من الجامعة. وكان له ما أراد.
ومنذ تلك الفترة، واظب على تقصي ما حدث في الماضي ورصد ما قد يحدث في سورية مستقبلاً.
في مقالنا السابق بعنوان “حافظ الأسد قتل رفاقه كي يتفرّد في السلطة” سلطنا الضوء على المرحلة التي سبقت الفترة، التي أصبح فيها بشار الأسد وريثاً للرئاسة تنفيذاً لوصية أبيه الذي توفي في حزيران عام 2000. وأصبح ينطبق عليه بعدها “ابن البط عوام“.
نشر “نيكولاس فان دام” كتابين، سرَدَ فيهما رؤيته في الأحداث التي شهدها في البلاد منذ ذلك الحين:
-
الصراع على السلطة في سوريَّة: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة:
يتناول الكتاب الصراع على السلطة في سوريَّة منذ عام 1961 حتى عام 1995، مع التركيز على دور الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة. (نشر الكتاب عام 2011 مترجماً للعربية)
محتوى الكتاب:
- الجزء الأول: يناقش تاريخ سوريَّة من العهد العثماني إلى الاستقلال، مع التركيز على تكوين المجتمع السوري وتوزيعه الطائفي والإقليمي.
- الجزء الثاني: يتناول الانقلابات العسكرية التي شهدتها سوريَّة خلال هذه الفترة، ودور الطائفية والإقليمية في هذه الانقلابات.
- الجزء الثالث: يركز على صعود نظام حافظ الأسد، وتحليله من منظور الطائفية والإقليمية والعشائرية.
- الجزء الرابع: يناقش الصراعات الداخلية في نظام الأسد، ودور الطائفية في هذه الصراعات.
- الجزء الخامس: يتناول الكتاب مستقبل سوريَّة بعد 34 عامًا من حكم الأسد، مع التركيز على إمكانية تحقيق الديمقراطية في ظل التكوين الطائفي والإقليمي للمجتمع السوري.
يبين فان دام في هذا الكتاب بأن نظام الأسد استخدم الطائفية كأداة للبقاء في السلطة ، وأن هذا أدى إلى تفاقم الصراع الأهلي في سوريَّة.
2. تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريَّة:
وهو الكتاب الثاني (نشر عام 2018 – عدد الصفحات: 320) باللغة العربية.
محتوى الكتاب:
يقدم الكتاب تحليلًا عميقًا للحرب الأهلية في سوريَّة، بدءًا من جذورها التاريخية وصولًا إلى تداعياتها على مختلف الأصعدة.
وينقسم الكتاب إلى خمسة فصول رئيسية:
- الفصل الأول: يستعرض تاريخ سوريَّة الحديث من عهد الانتداب الفرنسي حتى بداية حكم بشار الأسد.
- الفصل الثاني: يناقش العوامل التي أدت إلى اندلاع الثورة السورية عام 2011.
- الفصل الثالث: يتناول مسار الحرب الأهلية وتطورها على مدار سنوات.
- الفصل الرابع: يحلل التدخلات الأجنبية في سوريَّة وتأثيراتها على مجرى الصراع.
- الفصل الخامس: يناقش آفاق الحل السياسي للأزمة السورية.
مميزات الكتاب:
- التحليل الشامل: يقدم الكتاب تحليلًا شاملًا للحرب الأهلية في سوريَّة من مختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية.
- الموضوعيَّة: يتَسِم الكتاب بالموضوعيَّة في تناول مختلف الأطراف والقوى الفاعلة في الصراع السوري.
- الاعتماد على المصادر: يستند الكتاب إلى مصادر موثوقة من الأرشيفات والوثائق الرسمية وشهادات الشخصيات المعنية.
- اللُّغة: يتميز الكتاب بأسلوب سهل وسلس يجعله في متناول جميع القراء.
الانتقادات:
- التعاطف مع النظام السوري: يرى بعض النقاد أن الكتاب يتعاطف مع النظام السوري ويبرر بعض جرائمه.
- التقليل من دور المعارضة: يرى بعض النقاد أن الكتاب يقلل من دور المعارضة السورية في الصراع.
التقييم:
يُعد كتاب “تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا” من أهم الكتب التي تناولت هذا الصراع الدموي. فهو يقدم تحليلًا عميقاً و شاملاً للحرب الأهلية في سوريَّة من مختلف جوانبها، ويعتمد على مصادر موثوقة.
ومن الجدير بالذكر، بأنه يُنصح بقراءة الكتاب مع مراعاة وجهة نظر المؤلف، وتكوين وجهة نظر خاصة بالقرَّاء حول الصراع السوري. وهذا يُحفّز القارئ الرجوع إلى المراجع الأخرى التي تتناول الحرب الأهلية في سوريَّة لتكوين صورة شاملة عن هذا الصراع.
وبدورنا، سنقدم بعض ما جاء على لسان الكاتب “فان دام” من الإضاءات أثناء حواراته العديدة في اللقاءات التلفازية أو الحوارات المنشورة على بعض منصات السوريين على الإنترنت، خاصة بعد تعيينه مبعوثاً خاصاً لهولندا إلى سوريَّة بين عامي 2015 – 2016، وعمله سفيراً لبلاده في العراق من عام 2002 إلى عام 2005. وقد عاصر خلال هذه الفترة سقوط نظام صدام حسين والحرب الأهلية العراقية. وسفيراً لهولندا في مصر من عام 2005 إلى عام 2009. وقد شهد خلال هذه الفترة ثورة 25 يناير المصرية وتداعياتها.
وبعدها عمل سفيراً لهولندا في لبنان من عام 2009 إلى عام 2012. وشهد خلال هذه الفترة حرب لبنان 2006 والأزمة السياسية اللبنانية. وقد ساعد في دعم الاستقرار في لبنان خلال هذه الفترة الصعبة. وبعد مغادرته لبنان عام 2012 ، تقاعد فان دام من السلك الدبلوماسي.
الفصل ما بين الثورة السورية وبين مفهوم الحرب
في كتاب “تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريَّة” يَفْصِل “فان دام” ما بين الثورة والحرب. وعندما سُئل:
- لماذا تغير مسار الثورة وتحولت إلى حرب أهلية طاحنة؟
أجاب:
- كانت الثورة سلمية في البداية، لكن النظام قمعها بشكل دموي فتطورت إلى حرب أهلية، ثم أصبحت حربًا بالوكالة دخلت فيها أطراف خارجية عربية وإقليمية ودولية. لقد تصرفت معظم الدول العربية والأجنبية على أساس مصالحها، وأدت أجنداتها السياسية والعسكرية المختلفة إلى تنافسات سورية داخلية على الأرض، ما جعل المعارضة أقل فعالية عسكرياً. وبالمجمل، الأزمة السورية هي مزيج مُعقّد من الثورة والحرب الأهلية في الوقت نفسه.
الثورة السورية على حافة الفشل
نيقولاس فان دام يقول:
من أهم أسباب فشل الثورة السورية – حتى اليوم – هو عدم امتلاك أحزاب المعارضة القوة العسكرية لإسقاط النظام، وعدم تمكّنها من حشد الدعم الأجنبي الكافي لتحقيق أهدافها.
ومن ناحية أخرى، لم تكن جماعات المعارضة العسكرية السورية قادرة على احتلال الكثير من الأراضي، حتى التدخل الروسي في عام 2015، لولا تلقيها كميات هائلة من المساعدات من تركيا والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وقطر وآخرين. وبمجرد أن بدأ التهديد الحقيقي للنظام السوري من قبل المعارضة العسكرية، تدخلت روسيا. والحقيقة أنه لو ظهر هذا التهديد للنظام في وقت سابق، لكانت روسيا قد تدخلت حينها.
هل يمكن للثورة أنْ تستعيد قوتها؟
لا أعتقد أن الثورة السورية تستطيع في المرحلة الحالية أن تستعيد قوتها، وذلك لعدة أسباب من أبرزها:
- عدم امتلاك أحزاب المعارضة القوة العسكرية لإسقاط النظام السوري، وعدم تمكنها من حشد الدعم الأجنبي الكافي لتحقيق أهدافها. لطالما قيل إن الثورة السورية كانت ستنجح إذا لم تتدخل روسيا عسكريًا في عام 2015، وإذا لم يكن هناك أي دعم عسكري إيراني.
- تحول الاهتمام الدولي الآن إلى صراعات أخرى، وعلى رأسها الحرب مع روسيا في أوكرانيا.
ابتلاع الراديكالية الإسلامية لقوى الثورة
يرى “نيقولاس فان دام” أنه من غير الممكن أن يأتي نظام ديمقراطي جديد إلى سوريَّة، حتى في حال سقوط النظام الحالي واستبداله بنظام “أفضل بكثير”. وحتى اليوم تبقى الثورة فاشلة في تحقيق ذلك. بل، وعلى العكس، أدت هذه الثورة، جزئياً، ونتيجة التدخلات الأجنبية العديدة وأفعال وردود الفعل العنيفة للنظام، إلى وضع أسوأ بكثير مما كان عليه قبل الثورة في سوريَّة. فكما شاهدنا خلال الحرب، كيف تطورت المنظمات الإسلامية الراديكالية لتصبح أقوى قوى المعارضة العسكرية. وإذا ما وصلوا إلى السلطة، فقد يزداد الوضع في سوريَّة سوءًا بدلاً من تحقيق التحسن والازدهار والاستقرار السلمي.
فرضية الانسجام والسلام
في سياق حوارات أخرى قال فان دام:
- لا يمكن اختبار فرضية الانسجام والسلام إلا عندما يكون هناك سلام وديمقراطية.
- ومن المشكوك فيه ما إذا كان هذا الإعلان سيتم تنفيذه فعلياً لأن الإسلاميين، مثل “الإخوان المسلمين” و”جيش الإسلام” و”أحرار الشام”، لا يؤيدون في الواقع عدم التمييز على أساس الدين.
- كما أنَّ الجماعات القومية العربية لا تدعم بشكل عام فكرة المساواة بين العرب والأكراد أو التركمان.
المعارضات متعددة ومنفصلة عن الواقع
يعترض ” فان دام” على من يرى أن هذه “المعارضات” مفصولة عن الواقع، ولا تمتلك قاعدة شعبية، وأن القبضة الأمنية للنظام كانت أقوى من أي حراك سياسي في سوريَّة!
ويرّد عليهم بالقول:
هذا الطرح ليس دقيقاً، وذلك بالحكم على أعداد المتظاهرين ضد النظام، فيبدو أن جماعات المعارضة مجتمعة لديها قاعدة شعبية واسعة، وإن لم تكن منظمة بقوة. فقد غمرت حركات المعارضة الحماسة بسبب النجاحات الأولية التي حققتها حركات الربيع العربي في أماكن أخرى، مثل تونس، مصر، وليبيا.
لكن بنية سلطة النظام السوري مختلفة تماماً عن تلك الموجودة في بلدان الربيع العربي الأخرى، وأي شخص لديه بعض المعرفة المتعمقة به كان سيكون قادراً على التنبؤ بأن أي جهد للإطاحة به سيكون صعباً ودامياً للغاية، كما توقعت في كتابي “الصراع على السلطة في سوريا”، قبل حوالي ثلاثين عامًا من اندلاع الثورة السورية.
المعارضات ذات طبيعة عصبية طائفية
فان دام يرى أنَّ الأقليات في سورية لا تريد أنْ يتم التسامح معها فحسب، بل تريد أيضاً أن تُعامَل باحترام.
ومع ذلك، كانت هناك اختلافات اجتماعية واقتصادية حادة بين المدن والريف الفقير، حيث تعيش معظم الأقليات. وبعد أن تولى “حزب البعث” السلطة عام 1963، انقلب المجتمع السوري رأساً على عقب، إذ انتسب إليه العديد من أبناء الأقليات الناطقة بالعربية من الريف الفقير الذين بدأوا يهيمنون على المجتمع السوري، وعلى مشهده السياسي. وفي النهاية، كانت مجموعة من أبناء المجتمع العلوي هم الذين بدأوا في احتكار السلطة. وانتهت الهيمنة السنية التقليدية.
كانت أحجار الفسيفساء نفسها لا تزال موجودة، لكن تركيبتها ونظامها في العهد البعثي الاستبدادي الجديد كانا مختلفين اختلافاً جذرياً، نتيجة للتحول الجذري في السلطة.
العربُ السُنَّة
في مناسبات مختلفة، قابلت أشخاصاً من العرب السُنَّة من المعارضة السورية، مدنيين وعسكريين، ممن جعلوا هذا المثل الأعلى للتسامح المتبادل والتعايش مثالياً. لكن في هذا النموذج المثالي، وضعوا في الممارسة مكانة متفوقة لأنفسهم على تلك الخاصة بالأقليات. فقد جادلوا بأنهم كانوا متسامحين مع الأقليات السورية، لكن التسامح يختلف عن الاحترام المتبادل. لا تريد الأقليات أن يتم التسامح معها فحسب، بل تريد أيضًا أن تعامل باحترام متبادل على قدم المساواة.
“فان دام” مستشرقاً أم واقعياً؟
لكن هناك إشكالية لدى غالبية السوريين، خاصة بعد الحرب، وهي النظر بسلبية تجاه الآخر، يا ترى كيف يمكن تجاوز ذلك لتأسيس حالة وطنية تكون سوريَّة هي المعيار الأسمى فيها؟ وهذا الأمر يشكل بيئة خصبة للمستشرقين أن يستنبت في تربته الخصبة فطور الفتنة واستغلال الطائفية لمصالح الجهات التي يعملون معها.
ولما سئل “فان دام” فيما إذا كان يضيره الوصف بأنه استشراقي النزعَة، أجاب بوضوح:
لا أشعر بالقلق على الإطلاق عندما يعتبر من ينتقد عملي على أنه استشراقي، لأنني لا أعتقد أنه كذلك. قد يختار الأشخاص الذين يختلفون معي دون شرح أو توضيح سبب حدوث ذلك بوضوح. إنها طريقة تأطير تستند إلى التحيّز المتعلق بالبحوث والكتابات الغربية. الأشخاص الذين يتفقون مع تحليلي، من ناحية أخرى، سواء أكانوا سوريين أم لا، من الواضح أنهم لا يعتبرون عملي استشراقاً.
في الختام
عندما يُسْأل “فان دام” عن رأيه في خصائص ومميزات شخصية الأسد الأب وبين بشار الوريث، وما الفارق بينهما؟
كان يجيب:
بين هذين الشخصين فرق كبير، لأني أظن حافظ الأسد كان جيد بالكلام مع محاوريه خارج بالخطابات الرسمية، بينما بشار الأسد مثلا في مقابلات مع الصحف مع الإعلام يستطيع الإجابة عن كل الاسئله بطريقة سريعة رغم أنَّ بعض المقابلات معه تكون بدون ترتيب مسبق، وبهذا يتفوق على والده الذي كان يحكم من وراء الكواليس والخطابات الرسمية كانت مهنية وجافة. بشار اكثر مراساً ومقدرة على الخطابة والحديث مع الصحافة ومع المواطنين السوريين. ولكن في المحصلة يوجد قاسم مشترك بينهما في الذهنية والمفاهيم وغير ذلك… يعني كما كررت كثيراً ضرب المثل العربي “ابن البط عوام”. ولكن دراسة بشار في بريطانيا واحتكاكه مع المجتمع المدني لعدة سنين جعلته اجتماعياً متميزاً فقط.
وأظن أنَّ الإجابة الصحيحة تكمن في معرفة هل يحكم بشار الأسد كما أراد هو بنفسه أم كما أريد له أنْ يحكم؟
يعني الموضوع يختلف فيما إذا كانت هناك أجندة أو خطة مرسومة له تحدد معايير ونظام الحكم. إنْ عرفنا الحقيقة نستطيع اطلاق حكم صحيح ودقيق. فكليهما – الأب والابن يعتمدان على الحرس القديم مع حافظ، والحرس من الجيل الجديد مع بشار. النمط واحد في الحالتين. وكلاهما دمرا البلاد من أجل البقاء على كرسي الرئاسة.