تمهيد
قبل أن تبدأ بقراءة المقال، يرجى مشاهدة هذا الفيديو (مدته أقل من 2 دقيقة).
قصة الفيديو:
كما أخبرني صديقي عن جارةٍ له تدعى”أم حلب”، وهي سيدة مسنَّة من اللواتي نزحن إثر مجزرة الحولة -التابعة لمدينة حمص- كي تقيم في البراري بسبب تدمير بيتها. وقد اضطرت لتربية عدّة دجاجات لسدِّ عَوَزها بسبب نقصان المواد الغذائية، وانعدام الدخل المادي. لكنْ -لسوء حظها- جاء حرامي وسرق تلك الدجاجات، مثلما سَبقَ وأنْ سَرق شبيحة الأسد عفش بيتها المدمر بالتزامن مع سرقة الحرامي الأسد لسورية.
ولكن غريزة حب أرض الوطن عند معظم الكائنات، جعلت الدجاجات تعود تباعاً بعد فترة إلى القنّ الذي جعلته هذه المسنة وطناً لدجاجاتها.
وعندما وصلت أولى تلك الدجاجات إلى حضن مربيتها، أحدث صدمة فرح عند هذه السيدة، ولم تكتفِ بالزغاريد وترديد الأهازيج، فانتصبت ترقص من الفرح وهي تنشد:
ها والحمد لله والحمد لله والدواعي عم تدعي ... وها والنصر من عند الله (زغاريد ... ليليليش) .. والحلال رجع لصحابه .. والحرامي سوَدَّ وَجهه
أثار الفرح العارم هذه السيدة بعودة الدجاجات إلى موطنها … فكيف سيكون الفرح لو عاد لنا هذا الوطن وتخلصنا من الأسد حرامي سورية؟
حب الوطن
هو مفهوم يشكل جوهر الانتماء والولاء للمجتمع والبلدان التي ننتمي إليها. يعتبر حب الوطن عنصراً أساسياً في بناء الهوية الوطنية وتعزيز الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع. ومن الجدير بالذكر، أنَّ هذا المفهوم له جوانب عديدة تتنوع بين الغريزة والاعتياد، حيث يعتمد على عوامل متعددة تتداخل في تشكيله.
-
الغريزة:
يرى بعض العلماء أن حب الوطن يمكن أن يكون مفطوراً غريزياً في كينونتنا، أي أنه يأتي بشكل طبيعي دون تدخل أو تأثير من العوامل الخارجية. هذا يعني أن الفرد يولد مع ميل أو توجه نحو حب وولاء لبلده أو مجتمعه بشكل أساسي.
-
الاعتياد والألفة:
من ناحية أخرى، يعتقد آخرون أن حب الوطن يمكن أن يكون نتيجة لعوامل تربوية وثقافية، وأنه يتشكل مع مرور الوقت نتيجة للتفاعل الزمكاني مع البيئة والمجتمع المحيط به. وهنا يأتي دور التربية والتعليم والتأثيرات الاجتماعية في تشكيل هذا الحب وتعزيزه. ومن الأمثلة على ذلك:
-
-
- عندما يشعر الفرد بالفخر والاعتزاز بتحقيقات بلده في مجال معين، مثل الرياضة أو الثقافة أو العلوم، يمكن أن يزداد حبه لوطنه.
- في حالات الأزمات والكوارث والحروب، قد يتعزز حب الوطن والانتماء الوطني نتيجة للتلاحم والتعاون بين أفراد المجتمع لمواجهة تلك الظروف.
-
ورغم اختلاف الرأيين فيما إذا كان سبب حب الوطن إما غريزةً أو اعتياداً، نجد آراء علماء النفس تتقارب في تعليل ذلك الحب كما نرى في المثالين التاليين:
- أبراهام ماسلو:
يقول ماسلو، الذي اشتهر بنظريته حول الاحتياجات البشرية، إنَّ الحب للوطن يأتي كجزء من الاحتياجات الاجتماعية والنفسية للإنسان. ويربط ماسلو بين حب الوطن وبين الشعور بالانتماء والأمان والاعتراف.
2. إريك فروم:
يرى فروم أن حب الوطن قد يكون نتيجة للتأثيرات الثقافية والاجتماعية التي يتعرض لها الفرد، وأنه قد يشكل جزءاً من هويته الشخصية ويمكن أن يعبر عن احتياجاته النفسية.
رغم تلك المفارقات، تجتمع معظم آراء العلماء بأنَّ حالة النزوح القسري عن الوطن، تعتبر واحدة من أصعب التجارب التي يمكن أن يواجهها الإنسان. وتترتب على هذه الحالة مجموعة من المعاناة النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر بشكل كبير على حياة الأفراد والعائلات المتضررة.
أذيَّات النزوح
من بين أضرار المعاناة من حالة النزوح القسري عن الوطن:
-
فقدان الأمان والاستقرار:
يعيش الأفراد النازحون حالة من عدم الاستقرار وعدم الأمان نتيجة فقدانهم لبيئتهم الطبيعية وتعرضهم للعنف والصراعات والحروب. هذا الشعور بعدم الأمان يؤثر سلباً على صحتهم النفسية ويزيد من مستويات القلق والتوتر.
-
فقدان الهوية والانتماء:
يفقد النازحون الاتصال ببيئتهم الاجتماعية والثقافية والتاريخية، مما يؤدي إلى شعور الفقدان والاغتراب. يصعب على الأفراد الحفاظ على هويتهم الثقافية والانتماء إلى مجتمعهم الأصلي مما يؤثر سلباً على تشكيل هويتهم الشخصية.
-
الظروف المعيشية الصعبة:
يواجه النازحون تحديات كبيرة في تأمين احتياجاتهم الأساسية مثل السكن والغذاء والماء والرعاية الصحية. قد يعيش البعض في مخيمات للنازحين أو يكونون عرضة للتشرد، مما يجعلهم عرضة للفقر والجوع والأمراض.
-
الانعزال الاجتماعي:
يعاني النازحون من الانعزال الاجتماعي نتيجة فقدانهم لشبكاتهم الاجتماعية والتفاعل مع أقرانهم. يصبح من الصعب بناء علاقات جديدة في البيئة الجديدة مما يزيد من انعدام الدعم الاجتماعي والشعور بالوحدة.
-
الصدمة النفسية والإكتئاب:
يعاني النازحون غالباً من صدمة نفسية نتيجة لتجاربهم القاسية وفقدانهم لمنازلهم وأحبائهم ومجتمعاتهم. يمكن أن يتطور هذا الصدمة إلى حالات اكتئاب وقلق واضطرابات نفسية أخرى تحتاج إلى رعاية ودعم نفسي متخصص.
-
الحرمان من التعليم والفرص الاقتصادية:
يعاني الأطفال النازحون من انقطاع عن التعليم والفرص الاقتصادية المتاحة في بيئتهم الأصلية، مما يؤثر سلباً على مستقبلهم وقدراتهم الشخصية والمهنية.
تلخيصًا، يتعرض الأشخاص النازحون لمجموعة من التحديات الهائلة التي تؤثر على جودة حياتهم وصحتهم النفسية والاجتماعية. ولذلك، يحتاج النازحون إلى دعم شامل يشمل توفير الرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي والفرص الاقتصادية للمساعدة في تجاوز هذه التحديات وبناء حياة جديدة كريمة ومستقرة.
وتساعد بعض الإقتباسات المنشورة على شبكات التواصل الإجتماعي أن تصف معاناة السوريين الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم المدمرة ويحلمون بالعودة:
-
"بينما أتجول في الأنقاض، أجد نفسي أتذكر كل جدار، كل شارع، وكل زاوية. تلك البيوت المدمرة ليست مجرد منازل، بل هي ذكريات لحظات جميلة وأحلام لمستقبل أفضل." - مواطن سوري نازح.
-
"عندما نتحدث عن العودة، لا نتحدث عن العودة إلى بيوت فقط، بل إلى حياة كاملة نحلم بها ونتوق للعيش فيها مرة أخرى بسلام واستقرار." - نازح سوري.
-
"بينما نتجول في الأراضي البعيدة، نشعر بحنين لبيوتنا وحدائقنا وأزقتنا. نحلم بيومٍ يأتي فيه السلام والاستقرار، يوم نعود فيه إلى بيوتنا ونبدأ في إعادة بناء حياتنا بكرامة." - نازح سوري يعبر عن أمله.
-
"رغم كل الصعاب والمعاناة، فإن الحلم بالعودة يبقى حيةً في قلوبنا. نحن نعرف أن الطريق طويل والمهمة صعبة، لكننا مصرون على العودة وبناء مستقبلنا في بلدنا." - سوري يعبر عن إصراره على العودة.
-
"إننا نحمل في قلوبنا أحلامًا كبيرة بالعودة، أحلامًا تتجاوز حدود الأضرار والدمار. إنها أحلام بالسلام والاستقرار والحياة الكريمة التي كنا نعيشها في بلادنا." - سورية تتحدث عن أملها في العودة.
هذه الاقتباسات تعكس مدى عمق الألم والحنين الذي يشعر به السوريون تجاه بيوتهم المدمرة وأملهم الثابت في العودة وإعادة بناء حياتهم في بلادهم. كما أنها أتت متوافقة تماماً مع ما ورد في بعض الاقتباسات من علماء النفس حول معاناة النازحين ورغبتهم في العودة إلى بيوتهم:
-
أبو لطفي الصوفي:
“يعاني النازحون من اضطرارهم لترك بيوتهم المدمرة، مما يؤدي إلى شعور بالفقدان والانفصال عن الأماكن التي تمثل جزءاً من هويتهم. إن رغبتهم في العودة إلى بيوتهم تعكس الحاجة العميقة لاستعادة الأمان والانتماء الذي فقدوه.”
-
إريكسون:
“تعتبر رغبة النازحين في العودة إلى بيوتهم تعبيراً عن حاجتهم لاستعادة الانتماء والاستقرار النفسي. إن البيئة الاجتماعية والثقافية التي ينتمون إليها تشكل جزءاً كبيراً من هويتهم الشخصية، وبالتالي فإن العودة إلى هذه البيئة يعتبر عاملًا مهمًا في عملية التئام الجروح النفسية.”
3. أبراهام ماسلو:
“يعكس رغبة النازحين في العودة إلى بيوتهم الحاجة إلى تلبية احتياجاتهم النفسية الأساسية والتي تشمل الشعور بالأمان والمحبة والانتماء. إن البيئة الاجتماعية والثقافية التي تعيش فيها الفرد تلعب دوراً هاماً في تحقيق هذه الاحتياجات.”
-
كارل روجرز:
“يتطلب تحقيق الشعور بالرضا والسعادة للنازحين تلبية احتياجاتهم النفسية، بما في ذلك الشعور بالانتماء والتحقق الذاتي. إن العودة إلى بيوتهم ومجتمعاتهم يمكن أن يساهم في تلبية هذه الاحتياجات بشكل فعال.”
هذه الاقتباسات توضح كيف يرى علماء النفس الأهمية العميقة لرغبة النازحين في العودة إلى بيوتهم ومجتمعاتهم كجزء من عملية التئام الجروح النفسية وتلبية احتياجاتهم النفسية الأساسية.
الختام:
باختصار، يمكن القول إن حب الوطن يمكن أن يكون نتيجة لمزيج من الغرائز الطبيعية والتأثيرات الثقافية والاجتماعية، وهو عنصر أساسي في بناء الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء الاجتماعي. يتطلب فهم عميق لهذا المفهوم النظر إلى مجموعة متنوعة من العوامل التي تؤثر في تشكيله وتطويره على مر الزمن.
وما دامت جذوة الثورة السورية مستمرة، لا بُدَّ أنك -قريباً- سترقصين يا “أمَّ حلب” وتهزجين مع قريناتك من الأمهات:
“عل اللعلعي يا لعلعي …والدواعي عم تدعي … وها والنصر من عند الله… والوطن رجع لصحابه .. والحرامي سوَدَّ وجهَه”
وتجدين من حولك -يا أم حلب– أنَّ الشوارع قد امتلأت بالضحكات والبهجة، حينما يجتمع الناس ليحتفلوا بعودة النازحين واستعادتهم لأجمل لحظات الحياة.
هللويا هللويا.. تباركت الأرض والسماء بالفرح والسرور، حينما شهدت عودة النازحين لتملأ قلوبهم الفرحة والامتنان للحياة والعودة إلى ديارهم الحبيبة.”[