مناشدةٌ للدَمْع الذي احتَبَسَتْهُ عَيْنا اللواء محمد فارس
يا هندَ بنت عقيل، بَعْلُك فارس ما توفى، بعلُ عشتار ما زال يتجدد ما دامت سوريَّة “السيدة“حَيَّة.
وإن خطفت المنيَّةُ أبرار وطنهم، لن يغادروا الوطن، لأنَّ بصمتهم طُبِعَتْ في تاريخه… لا تفنى مع الزمن.
سيبقى فارسك -كما هو فارسنا– مقيماً بيننا، لأنَّ قدسية الوطن متأصلة في وجدانه.
والوجدانُ ليس بشيءٍ ليفنى، بل هو تجلي الربانيَّةِ التي تتماهى بك يا هند وبأبنائكما الخمس، وكل السلالة من الأجيال القادمة.
أيها الصناجةُ ويا قارعي الطبول لا تتوقفوا عن صدح الموسيقى … الفارسُ محمد عندما عاد من رحلة الفضاء عزفتم له في مراسم الإستقبال،
استمروا بالعزف اليوم، كما فعلتم عند صعوده إلى الفضاء، اجعلوا الصداح جنائزياً اليوم كي يعلو كلَّمَا علا فارسُنا … ولكن عندما يأنَسُ بترتيل القرآن كعادته، توقفوا عن العزف إجلالاً لتُقاه.
ألم يقل في سردياته مع محاوريه:
“أنا من الناس المتفائلين، الحمد لله انه هذا الكون مسير من قبل خالق عظيم جداً جداً جداً.. ما في حدود لهذه المجرات من المليارات وكل ما جرى فيها مليار نجم وكل يجمع بدون حوله كواكب بدقه. رغم أني عدت الفضاء متفائلاً ان شاء الله.. ولكن آهٍ .. أصبح النظام الأسدي يقتلنا .. أنا من شهر في مدينه حلب لمدة أربعة أيام، شفت الدمار .. يعني دمار مرعب. يمكن الماضي الحاضر المستقبل كله أصبح مدمراً أي أننا خارج العالم الذي يدركه البشر”.
رأى ما لا نراه
يا سيدتي، فارسُنا رأى ما لا يراه أهل الأرض ، فقال:
“الحياه فضاء واسع وامتداد بعيد افق على الرغم من اتساعه تختفي خلفه اللحظه القادمة .. حياتنا في كل لحظه تتبدل كما مياه النهر التي تستمر في جريانها وتغيب في وجه البحر الواسع .. ونبقى نحن البشر مرهونين بواقع الحياة التي تمضي بكل متغيراتها. قلّةٌ هم الذين يستطيعون كتابتها مع ذكر بعض التفاصيل التي يجب أنْ تقرأه الأجيال القادمة”.
عروسة القدر
يا سيدتي هند، قبل أن تجعلك مشيئة الله أنْ تصبحي عروساً،
خُلِقَ من أجلك “محمد فارس” في 26/أيار/1951، ليعيش طفولته في حي قديم وسط المدينة يسمى حي الدلالين، وسط حلب الأثرية. لقد ترعرع في أكناف مجتمع شعبي تقوم به العلاقات بين الأفراد على التكافل والمحبة.
وكما يقول، بدأ حلمه بأنْ يكون طياراً مُذْ كان يرى طائرات التدريب في مطار الكليَّه الجويَّه وهي تطير في سماء المنطقة التي تجاور سكنه.
كما قال أيضاً :
“أنا كان عندي هوايه كبيرة هواية المطالعة التي أثرت في حياتي كثيراً… حتى لم أكن في الابتدائية أقدر أنْ أشتري الكتب -يعني الناس اللي في الحي كانوا مثل حالتنا الميسورة- لذلك كنت أشتغل في الصيف لأشتري المجلات المشهورة (بساط الريح وميكي ماوس إلى آخره) … تطورت الهواية عندي في الاعداديه والثانويه إلى قراءة كافة أنواع الكتب”.
يا هند، قبل أن ترسمك الأقدار لتكوني عشتار بعلك فارس، قام بنأي نفسه عن مطبَّات السياسة،
كي يبقى نظيف السريرة وحَسَنُ الصيرورة، مبتعداً عن تأطير مستقبله بأي لون “أيدولوجيٍ” آخر، خشية أنْ يلوّثَ نقاء الوطن. هكذا كان النبلاء السوريون يفعلون. لذلك صرَّح لمحاوريه في أكثر من مناسبة قائلاً:
“في تلك الأيام، كان في سوريا قدراً لا بأس به من الحرية السياسية – يعني كان فيه أحزاب سوريا- قبل ثورة البعث في 8 آذار .
كنت أركز أن أصبح طيار اً مقاتلاً ابتعدت عن الحزبية، لأنها كانت أحد شروط القبول في الكلية الجويّة.
وقد تحقق حلمي عام 1971 وانتسبت إلى الكليَّة الجوية”.
ادراكاتٌ عُلويَّة
ومن ثمَّ جاء الحدث الذي جعل حياتكما تصبح تحت الأضواء بعد أن أصبح فارس رائداً للفضاء، عندما انطلق إلى الفضاء الخارجي بتاريخ 22 يوليو 1987 في المركبة الفضائية SOYUZ – M3.
كان للرحلة صدىً عالمياً عندما أنجز اللواء محمد فارس أثناء الرحلة ثلاث عشرة تجرِبة علمية في الفضاء. وكان قد تدربَّ على بعضها في سوريا قبل أن يستكمل تدريبه النظري والعملي لمدة عامين في الإتحاد السوفييتي -مكان انطلاق المركبة-. كانت الأبحاث تتعلق في المجالات الجيولوجية والكيميائية والبيئية والطبية، وكذلك في تعلم تقنية الاستشعار عن بعد،والرصد الفضائي. وأهم هذه التجارب: سبق الإعدادُ لها في سوريا، والتجارِبُ هي:
- تجرِبة مدى تأثير الفضاء على روَّاد الفضاء
- تصوير سوريا من الفضاء الخارجي.
- تجرِبة خلط معدِن الألمنيوم ومعدِن الحديد.
- تجرِبة خلط معدِن الجاليوم ومعدِن الأنتموان.
- تجرِبة مراقبة القلب باستعمال جهاز خاص لرصد التغيُّرات وقياسها.
- تجرِبة حركة الدم في جسم الإنسان ومدى تأثرها بالأجواء المحيطة في الفضاء.
- تجرِبة الموصِّلات الإلكترونية التي تدخل في مجال الصناعات الإلكترونية.
- تجرِبة دراسة الطبقات الجيولوجية للأرض في سوريا من ارتفاع 300 كم.
- تجرِبة دراسة الأحواض المائية في سوريا من الفضاء الخارجي.
- تجرِبة دراسة أنواع التربة.
- تجرِبة تركيب معادن صناعية للاستفادة منها صناعيًّا.
بين الحب والموت يغفو الوهم
يقولون يا سيدتي “أم قتيبة“، لا يوجد وهمٌ يبدو كأنّه حقيقة مثل الحبّ، ولا حقيقة نتعامل معها وكأنّها الوهم مثل الموت. وقد لمسنا في منادمة “فارسك” لك بعد أن قَدَّمْتِ له فنجان القهوة في صباح أحد أيام التغريبة في غازي عنتاب بتركيا، دعاك بصوته الهادئ الرصين لتشاركية ترجيع الذكريات التي كانت في حلب.
كانت تنهداته مكللةً بعبارات تشير إلى إيمانكما بأنَّكم تتقبلون فقدان كل ما بَنيتُمَاه في الماضي، لكونه قدراً ومشيئة من الله جلَّ وعلا، ورضيتما بقضائه.
ولما دعاك كي تشاركيه تأملَّ صورة عُشََّكما الزَوجيَّ المخزَّنة في الكوميوتر المحمول، كانت تعليقاته رحمانيّةً مكنونةً بروح صوفيَّة نقيَّة، رغم قساوة المشهد. لم يظهر فيها الألم الذي يتأجج في نبرة صوته، عندما يسرد حكاية تدمير حلب، ودماء مليون شهيد، وتشريد ملايين العائلات السورية.
وقبل أن أختم قولي، أحبُّ أن أضيف بعض الصور التي توثّقُ بعض ما قدمتموه للجالية في بلد الإغتراب، كي تبقى في ذاكرة السوريين ليعرفوا معنى الوطنية التي ليس لها حدود، خاصة في الأزمات والمحن.
السوريون يُعزونك يا “سيدة السوريين”… الفقيد رائد الفضاء السوري الأول اللواء “محمد فارس” إرثاً سورياً في حضارة كنعان السورية … كلنا لسوريا وهي جريحة أو معافاة … نعاهد الجميع بالوفاء لأبطالها ما حيينا بإذن الله.
كلمة السيدة هند عقيل رئيس مجلس ادارة جمعية اللمَّة السوريَّة خلال مهرجان التضامن مع فلسطين