أبرز ما قيل في جبران خليل جبران:
“إن جبران خليل جبران هو صوت الضمير الإنساني”. مهاتما غاندي
“إن جبران هو واحد من أعظم كتاب القرن العشرين”. ألبير كامو
“إن جبران ليس شاعراً فحسب، بل هو فنان، وفيلسوف، ونبي”. خليل جبران
نظرة متعمقة في جنسية جبران:
السؤال عن جنسية جبران خليل جبران، خاصة في فترة هجرته إلى أمريكا، هو سؤال مثير للجدل ويستدعي تحليلاً دقيقاً لعدة عوامل:
خلفية تاريخية وجغرافية:
جبران خليل جبران ولد في 6 يناير 1883 في بلدة بشرّي، التي تقع في لبنان الحالي، وكان حينها جزءاً من منطقة أكبر تُعرف باسم سوريا الكبرى أو بلاد الشام. هذه المنطقة شملت في ذلك الوقت مناطق لبنان وسوريا وفلسطين والأردن الحديثة. قبل تقسيمها بموجب اتفاقية سايكس-بيكو في عام 1916، كانت بلاد الشام تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية.
عندما هاجر جبران خليل جبران إلى الولايات المتحدة مع عائلته في عام 1895، لم يكن هناك وجود للكيانات الوطنية الحديثة مثل لبنان أو سوريا بالحدود التي نعرفها اليوم. وبالتالي، كان يُعتبر جبران واحداً من أبناء بلاد الشام (Levant)، وهي منطقة تمتد بين البحر المتوسط والصحراء السورية وتضم عدة طوائف وقوميات. ولم يكن مفهوم الجنسية الوطنية كما نعرفه اليوم موجوداً، إذ كانت الهويات ترتبط بالانتماء الديني أو الإقليمي ضمن الإمبراطورية العثمانية.
جنسية جبران خليل جبران:
- انتماء ثقافي:
لا شك أن جبران كان مرتبطاً بعمق بثقافة بلاد الشام الأم، قبل أن تكون كياناً سياسياً اسمه -لبنان-. وقد تأثر بثقافة المنطقة العربية بشكل عام. وقد تجلت هذه الصلة في أعماله الأدبية والفنية التي تحمل بصمات الهوية العربية.
- جنسية قانونية:
من الناحية القانونية، كان جبران خاضعاً لقوانين الدولة التي يحمل جنسيتها. وفي تلك الفترة، كانت الجنسيات تتحدد عادةً وفقاً للانتماء الإقليمي أو الديني أكثر من المفهوم الحديث للدولة الوطنية.
- هجرة جبران خليل جبران إلى أمريكا:
عند هجرة جبران خليل جبران إلى الولايات المتحدة، كان عليه أن يتبع قوانين الهجرة الأمريكية التي تحدد شروط الحصول على الجنسية أو الإقامة الدائمة.
لماذا لا يمكن حصر جنسية جبران خليل جبران بـ”لبنان” فقط؟
- التقسيمات السياسية:
كما ذكرنا سابقاً، لم تكن هناك دولة سورية موحدة بحدودها الحالية في زمن جبران. لذلك، يمكن القول أن جبران كان لبنانياً في ذلك الزمن بالمعنى الحديث للدولة الوطنية.
- الانتماء المتعدد:
كان انتماء جبران متعدد الأوجه، فهو لبناني وعربي، ولاحقاً أصبح أمريكياً. هذا الانتماء المتعدد هو سمة مميزة لكثير من المثقفين العرب في تلك الفترة.
- التغيرات التاريخية:
تغيرت الخريطة السياسية للمنطقة بشكل جذري بعد الحرب العالمية الأولى، مما جعل من الصعب تطبيق المفاهيم الحديثة للجنسية على شخصيات تاريخية مثل جبران.
الخلاصة:
من الأفضل وصف جبران بأنه كاتب عربي لبناني، عاصر فترة من التحولات الكبرى في المنطقة، وأثرى الأدب العالمي بأعماله الخالدة.
النَبيّ
هذا الكتاب الذي أثار ضجة وجدلاً حين صدوره، ثم ارتفع صوت هذه الضجة لتلف العالمين العربي والأجنبي لأنه صدر بالإنكليزية ثم ترجم إلى العربية. حاول جبران في هذا الكتاب على صغر حجمه أن يسن دستوراً للناس –من المنظور الذي يراه- لا على سبيل الإلزام وإنما على سبيل التفكر والتأمل والاعتبار. وقد كان يتحدث بلسان نبي يسأله الناس على اختلاف مشاربهم ومهنهم وهو يجيبهم على كل صغيرة وكبيرة.
لقد حاول جبران في هذا الكتاب أن لا يفوّت مسألة في الدين والدنيا إلا ويدلي بدلوه بها. وقد كان عدد هذه المسائل تسعاً وعشرين مسألة حملت العناوين الآتية:
1- النبي -2- المسطرة -3- المحبة -4- الزواج -5- الأنباء -6- العطاء -7- الغذاء -8- العمل -9- الفرح والترح -10- المساكن -11-الثياب -12- البيع والشراء -13- الجرائم والعقوبات -14- الشرائع -15-الحرية -16- العقل والعاطفة -17- الألم -18- معرفة النفس -19- التعليم -20- الصداقة -21- الحديث -22- الزمان -23- الخير والشر -24- الصلاة -25- اللذة -26- الجمال -27- الدّين -28- الموت -29- الوداع.
وقد ظهرت النزعة الفلسفية والتأثيرات النتيشية (نسبة إلى الفيلسوف نيتشه) واضحةً جليةً في كل سطر من سطور الكتاب مما دفع بالأديب ميخائيل نعيمة للقول (معلقاً على الكتاب):
“هذا هو القالب الذي اختاره جبران ليسكب فيه خلاصة أفكاره في الناس وحياتهم. وهو، كما ترى، قالبٌ جميل يليق بما يحمله، وما يحمله يليق به. لكنه – و يا للأسف – لم يكن كله من صياغة جبران. فشكله الإجمالي مستعار من نيتشه وزردشت. فكأن جبران الذي تخلص من سطوة أساليبه البيانية والفنية. ولم يكن يعلم أنه لم يتخلص… نيتشه اتخذ زردشت بوقاً لأفكاره. وجبران اتخذ نبياً دعاه “المصطفى” وكما أن زردشت و نيتشه نفسه، كذلك المصطفى هو جبران نفسه. فما أورفليس التي كان فيها غريباً يترقب رجوع سفينته إلا نيويورك أو أميركا. ولا الجزيرة التي كان يشتاق العودة إليها غير لبنان. ولا وعده لأهل أور فليس بأنه سيعود إليهم سوى إيمانه بعقيدة التناسخ القائلة ((أن الموتى الذين لم ينهوا دورة الحياة الكاملة يعودون حتماً إلى الأرض ليجدوا عليها ويكملوا العلائق التي تركوها عند موتهم (1)”. ميخائيل نعيمة
ولو نظرنا إلى أسلوب الكاتب لأذهلنا، ولسحرتنا الصور والاستعارات والتشبيهات التي حشدها، كأننا أمام حديقة تضم كل أنواع الورود والأزهار، وتصوغ منها أجمل وأزكى الروائح، أو كأننا أمام مصور بارع يرسم بالكلمات ما تعجز عنه ريشة الرسام. لقد أسرف جبران في سوق الصور والتشبيهات. لكنّ إسرافه كإسراف البلبل في تغريده، حتى أنني أعود وأقول: إن من يقرأ كتاب النبي بالإنكليزية يدرك أن كاتبه عربي خالص، لأن الذوق الفني عند العرب يتجلى أكثر ما يتجلى بالعزف على قيثارة البلاغة والبيان، التي تطرب السمع وتمتعه وتهذبه، ولا نكاد نجد لها مكاناً في اللغة الإنكليزية.
تتسم تشبيهات واستعارات جبران بالعمق الفلسفي الذي لا يكاد يفارق قلم جبران. ويمكنني سوق بعض تلك الصور على سبيل الذكر لا الحصر:
- “أيتحول قلبي إلى شجرة كثيرة الأثمار فأقطف منها وأعطيهم؟ أم تفيض رغباتي كالينبوع فأملأ كؤوسهم؟”
- “المحبة تضمكم إلى قلبها كأغمار الحنطة. تدرسكم على بيادرها لكي تظهر عريكم. وتغربلكم كي تحرركم من قشوركم، وتطحنكم كي تجعلكم أنقياء كالثلج، وتعجنكم بدموعها حتى تلينوا”.
- “أولئك الذين يحسبون أن الحياة صخرة صلدة، وأن الشريعة إزميل حادّ يأخذونه بأيديهم لكي ينحتوا هذه الصخرة على صورتهم ومثالهم.” “اللذة أنشودة الحرية ولكنها ليست حرية بذاتها، اللذة زهرة رغباتكم ولكنها ليست ثمرة لها.”
- “الجمال رقة ولطف، وهو يمشي بيننا كالأمّ الفتيّة الحييّة من جلالها.”
- “أجل، إن هذا الإنسان العظيم هو بالحقيقة كالسنديانة الجبارة المغطاة ببراعم التفاح الجميلة.”
- “وأنتم كالفصول أيضاً يا أبناء أورفليس، فإنكم تنكرون ربيعكم في شتائكم، ولكن الربيع لا ينكركم، بل يبتسم لكم في غفلته، من غير أن يغضب أو يتعكر صفوه.
وأختم هذا العرض السريع برأي الناقد مارون عبود في جبران:
“هو فيلسوف يلبس مطرف الشاعر وطيلسان الأديب. وبكلمة أوضح، جبران فيلسوف في أدبه، وأدب جبران فلسفة، والعنصران متحدان في كلامه اتحاد اللون والعطر في الزهرة المنمنمة (2)”. مارون عبود
الأجنحة المتكسرة
رواية صاغها جبران عام 1918، وقبل الولوج إلى هذه الرواية لابد لنا من الوقوف على جناح السرعة عند شخصية جبران خليل جبران. هذه الشخصية المثيرة للجدل إلى حد كبير والقلقة والمضطربة بين الأخذ بالقوة، والثورة على العقائد والدين، وبين الميل إلى الاستمتاع بالحياة، وبين شهوة الهدم وبين النزع إلى البناء. فهو صديق الناس وعدوهم في وقت واحد على حد تعبير جبران نفسه. وأعزو سبب اضطراب هذه الشخصية إلى ما ذهبت إليه بعض المراجع إلى وصمه بالكفر والإلحاد، ومن ابتلى بهذا النوع من التفكير، لا شك أنه سيعاني ما يعاني من الاضطراب والقلق النفسي، والبعد كل البعد عن الطمأنينة، وعن الحياة الهادئة، على النقيض من المؤمن الذي يرى أن كل ما يتعرض له من مصائب، ومن نجاحات أمر مقدر له ومكتوب عليه: “قُل لّن يُصيبنا إلّا ما كتب اللّه لنا”(3 )
أما روايته الأجنحة المتكسرة فقد ظهر فيها، تدفق الجانب العاطفي، ورقة الإحساس، ورهافة الذوق، فكان فيها جبران على حد تعبير الأستاذ نعيم الحمصي (4):
"دامع الشكوى، ناعم الملامس، رقراق الألحان."
وقد كان أسلوب الرواية -كما عهدنا جبران- طافحاً بالصور، محلقاً بالخيال، فقد فاضت الرواية بالتشبيهات والاستعارات والكنايات محاكية بذلك معظم نتاجات جبران للكآبة أيدٍ حريرية الملامس، قوية الأعصاب تقبض على القلوب وتؤلمها بالوحدة.
للشبيبة أجنحة ذات ريش من الشعر و أعصاب عن الأوهام- هل يستطيع الجالس في ظلّ أجنحة الموت أن يستحضر تغريدة البلبل، وهمس الوردة، وتنهيدة الغدير- وظهر لبنان كشيخ لوت ظهره الأعوام، و أناخت هيكله الأحزان، وهجر أجفان الرقاد فبات يشاهد الدجى و يترقب الفجر كملك مخلوع جالس على رماد عرشه بين خرائب قصره……….الخ)
وما إن يقرأ المرء أي نص أو كتاب لجبران حتى تتبدى له روح المصور تتجسد بين سطور الكتاب، ولا غرور في ذلك فإن جبران قد درس فن التصوير كما ذكرنا، ووظّفه خير توظيف في نتاجاته قاطبةً:
(و لكن هذه المحاسن التي أذكرها الآن، وأتشوق إليها هي التي كانت تعذّب روحي المسجونة في ظلمة الحداثة مثلما تعذّب البازي بين قضبان قفصه عندما يرى أسراب البزاة تسبح حرة في الخلاء الواسع).
إن هذه الرواية ومعظم ما كتب جبران قد عكست جانباً كبيراً من أفكاره ومبادئه الحقيقي.
المجنون
خرج هذا الكتاب إلى النور عام 1918 بعد عملين مدهشين سبقاه إلى أيدي القراء وهما (الأجنحة المتكسرة) و(دمعة وابتسامة)، ولمّا شعر جبران ببزوغ نجمه في العملين الآنفين، أعقبهما بكتاب المجنون الذي كتبه بالإنكليزية ثم تُرجم إلى العربية.
وسأقف عند هذا الكتاب المتميز مقدماً له، بعد أن أعرض لأطوار حياة جبران الأدبية الثلاثة التي مر بها.
يقسم بعض الباحثين (5) حياة “جبران خليل جبران” الأدبية إلى ثلاث حلقات، وسنأتي على هذه الحلقات تباعاً، ثم ننظر إلى الحلقة الثانية التي تمخض عنها كتاب المجنون، لأن أي عمل لا بد أن يكون مرآة لحالة كاتبه، وإذا لم يكن كذلك، فإن المناخ الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يعيش وسطه الكاتب، سيفرض إيقاعه على نتاجه حُكماً.
-
الحلقة الأولى:
وتشمل حياته منذ ترك وطنه لبنان إلى أمريكا وهو في ما يقارب الثانية عشر من عمره، حتى استقر في نيويورك سنة 1912 وهو في التاسعة والعشرين. وهي تنطوي على سبعة عشر سنة مر عليه فيها أحداث مختلفة. وقد كان أول مقرّ له في أمريكا (مدينة بوسطن) حيث أقام سنتين مع والدته وإخوته، وأخذ فيها يتعلم اللغة الإنكليزية. ثم بعثه ذووه إلى بيروت فبقي فيها خمس سنوات طالباً في أحد معاهدها. عاد بعدها إلى بوسطن. ولم يلبث أن فجعه الدهر فيها ,بموت شقيقته ثم أخيه وأمه .ولا تسل عما قاساه بسبب ذلك من ألم نفسي وضيق مادي . كانت هذه السنوات السبع عشر التي جعلناها الحلقة الأولى ملأى بالأشواق القلبية والهموم المادية. وأولها فشله في حب أول فتاة ملأت قلبه، ثم مرارة نفسه لفقدان ذويه، وملازمة الفقر والعناء له. فكان كل ذلك كافياً لأن يصدر عن قلمه أمثال:
(عرائس الروج) و (الأرواح المتمردة) و (الأجنحة المتكسرة) و (دمعة وابتسامة).
وكلها تنمّ عن شقاء نفسي، وتبرّم من قسوة العالم، ونقمة عن ذوي السلطة، مع شعور داخلي يضعفه عن المقاومة.
-
الحلقة الثانية:
وتمتد إلى سنة 1920 ثماني سنوات، خرج فيها من هوّة الحاجة، وبدأ يشعر بقوة نفسه إزاء الحياة. ولعل ما طالعه في كتابه نيتشه (هكذا تكلم زرادشت) وقد أثر في نفسه تأثيراً ملأه بروح الاعتداد، فغلب عليه الميل إلى التهكم بالناس، والعبث بتقاليدهم، وشرائعهم. وصار همّه أن يكون حفاراً لقبورهم، هداماً لما ألفوه في حياتهم. لذا أخرج للناس (العواصف) و(الكواكب) و (المجنون ) الذي سنتحدث عنه في السطور القادمة.
-
الحلقة الثالثة:
وهي حقبة أصبح فيها جبران خليل جبران ميسور الحال، ذائع الصيت، يتذوق لذّة اليسر والشهرة، ولعل ذلك كان السبب في تخفيف ما كان يشعر به من عداوة للناس، ومن اعتزاز بالنفس يدفعه إلى التهكم بهم. فأصبح متواضعاً لا يرى الناس دونه.
وبعد هذا العرض المقتضب للتغيرات التي طرأت على حياة جبران الشخصية و الفنية والأدبية، لتكون لنا وقفة عند كتابه “المجنون” الذي خرج من عباءة الحلقة الثانية.
حوى كتاب " المجنون" على طائفة من القصص و الخواطر صب من خلالها خلاصة نظرته إلى الكون والحياة والناس في تلك الحقبة، وقد ظهر تأثيره جلياً بالفيلسوف نيتشه، وبمبدأ القوة لديه.
ففي قصة (الناسكان) يظهر مبدأ القوة واضحاً، وسخريته بالجبان وتوبيخه له. وفي قصة (الطموح) يميل إلى التهكم بالناس والعبث بتقاليدهم وشرائعهم. وصار همه حفاراً لقبورهم، هداماً لما ألفوه، وتحت عنوان (المدينة المباركة) يعبث بالشرائع والأديان. وهكذا تسير هذه المجموعة على هذا المنوال، وتعزف على هذه القيثارة المفتونة بآراء نيتشه، فيكاد يصب فلسفة نيتشه في هذا الكتاب.
أما أسلوب هذا الكتاب، فإنه يختلف عما عهدناه عند جبران من تدفق الصور و الاستعارات. ففي (المجنون) يكاد يأفل بريق الخيال و تنطفئ جذوة الصور، لولا أن تدارك هذا الأمر ببعض اللفتات كما في قصة (النملات الثلاث) حيث أنْسَنَ(6) الحيوانات العجماوات وأنطقها.
ويمكن تفسير عزوف جبران عن أسلوبه التصويري الذي عهدناه في مؤلفاته التي خلت، بانشغاله –كما يبدو لي- بالفلسفة والحكمة، التي طغت على المؤلف كله. وهذا يفضي إلى التغلغل في المضمون والجوهر على حساب الشكل. كما أن الكاتب أراد أن يرسل طائفة من الرسائل إلى القراء، يحثهم فيها على التفكر والتأمل. فرأى من الحكمة أن تكون هذه الرسائل مباشرة، وبعيدة عن العبارات المنمقة والمكسوة بثوب التشبيهات.
كانت تلك السطور اليسيرة مفتاح للكشف عن بعض الشيفرات التي أولع بها جبران. وجعل أعماله طافحة بها.
الموسيقى
نثر جبران هذا الكتيب بقلم رشيق، وبلغة عاشقة، فمن يقرأ مطلع البحث يجد رائحة الأنوثة الرقيقة الناعمة تضوع منه، ويخيل للمتلقي بادئ ذي بدء أنه يتحدث عن أنثى، لكن جبران سرعان ما يفصح عن هوية تلك الحبيبة، وإذا بها (الموسيقى)، وقد كان بارعاً في ولوجه إلى لغة العالم بهذه الطريقة الشيقة.
لقد حاول جبران جهد استطاعته أن يٌحبّر عباراته، ويٌجوّدها، ليتجاوز كتبه ذاتها، لأن الموضوع الذي اختاره هذه المرة يحتاج إلى التأنق، في حين أننا لو استعرضنا بعض كتبه، كالنبي، والمجنون، والأجنحة المتكسرة، ….. إلخ، لوجدناها أقل حاجة إلى التأنق و التجويد. وذلك لأنه في تلك الكتب التي ذكرناها، كان يصبّ جل اهتمامه على المضمون، فهو يريد أن يرسل رسائل إلى المتلقي، مفعمة بالحكمة، والفلسفة، والتوجيه، والإرشاد، أي أنه يدرك أن عليه ألا يشغل المتلقي كثيراً بالنظر إلى شكل الكلمة. لكنه في هذا البحث (الموسيقى) قصد أن يلفت نظر المتلقي إلى أن هذا البحث ترفيهي إلى حد ما، على خلاف كتب جبران الجادة والمتخمة بالأحزان، والمآسي التي حملتها بين طياتها، والتي عكست واقع جبران المثقل بالجراح.
اختار جبران هذا البحث، ليروح عن نفسه، وعن قلوب القراء من جهة، وليبين سعة ثقافته وتنوعها من جهة ثانية، فهو ليس حبيس القصة والرواية فحسب، وإنما أطلق العنان لقلمه كي يصرصر في كل ميدان من ميادين المعرفة.
لم يكن جبران خليل جبران هاوياً في ولوجه هذا الباب (الموسيقى)، وإنما كان محترفاً ويظهر ذلك جلياً من خلال عرضه الدقيق لتاريخ الموسيقى، وموقف الأمم منها، من الكلدانيين والمصريين، ومروراً بالهنود، وباليونان، وبالرومان، ومن خلال عرضه لأسماء مقامات الموسيقى، والوقوف عندها (لنهاوند، ولأصفهان، والصبّا، والراست). وفي نهاية الكتيب يدعو جبران إلى تقدير وتكريم أساطين الموسيقى.
“جبران الفنان يحلي كتابه بتقسيمها إلى فقرات حسنة النغمات، فيكون لها موسيقى ساحرة بارعة التقسيم، والأداء، كأنها آيات بينات من الموسيقى الساحرة، لا جمل من منثور الكلام .” (7)
الأمم وذواتها
كانت المقالة هي باكورة نتاجات جبران الأدبية، وقد لاقت قبولاً حسناً، واستأثر أسلوبه فيها بإعجاب القراء، مما شجعه ودفعه إلى إصدار كتابي ((الموسيقى)) و ((عرائس المروج)) عام 1905، ثم تدافعت أعماله وتنوعت ((الأرواح المتمردة)) و((الأجنحة المتكسرة))، و((دمعة وابتسامة)) …..الخ.
وقد حاول جبران أن يمارس الكتابة الأدبية بأطيافها، وأجناسها المختلفة، وتجاوز أحياناً حقل الأدب إلى حقل الموسيقى، والتاريخ وما إلى ذلك……وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على طموح جبران الذي لا يقف عند حد، وهأنذا أتناول له عملاً يمكن أن أعتبره جامعاً لعدة فنون، ففيه التاريخ، وفيه الدين، وفيه الأدب…… وهذا العمل هو ((الأمم وذواتها)):
لقد حوى هذا الكتاب بين دفتيه أحد عشر عنواناً وهي:
1- الأمم وذواتها -2- فلسفة المنطق أو معرفة الذات -3- العاصفة -4- الشيطان -5- الصلبان -6- الشاعر البعلبكي -7- سم في الدسم -8- ما وراء الدواء -9- البنفسجة الطموح -10- الشاعر -11- الكلام وطوائف المتكلمين.
وقد افتتح جبران الكتاب بمقالة أخذت عنوان الكتاب وهي (الأمم و ذواتها).
حاول الكاتب جاهداً في هذا المقال لأن يصل إلى تعريف يطمئن إليه حول (الأمة)، فعرض لتباين وجهة نظر الباحثين في تعريف الأمة، ثم أعطى رأيه في هذه القضية.
ثم ينتقل إلى العنوان الثاني الذي سماه (فلسفة المنطق أو معرفة الذات)، وفيه تظهر براعة سليم أفندي-بطل العمل- في معرفة أعلام الأدب، والفكر، والفن، والبطولة، والسياسة عبر التاريخ القديم، والحديث، وليست شخصية سليم أفندي الفذة والمفعمة بالثقافات الواسعة سوى شخصية جبران نفسها كما أرى.
ثم ننتقل إلى العنوان الثالث (العاصفة) الذي يمكن أن ندرجه تحت جنس القصة، وذلك من خلال سوقه لقصة رجل يدعى يوسف الفخري قد تزهد، وترك العالم وما فيه، وتوجه إلى صومعة للعيش منفرداً فيها مع الطبيعة، وقد كان اختياره لذلك الركن وعزلته، أمراً غامضاً وسراً عميقاً لدى أهل بلدته، لكن جبران بحنكته استطاع أن يتصل بذلك الزاهد، وأن ينفذ إلى حقيقة ذلك السر، ويكتشف ما وراء ذلك الرجل.
ثم ينتقل إلى العنوان الرابع ويعنونه ب (الشيطان) يوجه من خلاله أصابع الاتهام إلى رجال الكنيسة الذين يقف منهم موقفاً سلبياً وينتقدهم نقداً لاذعاً. لقد وصفهم بالانتهازيين و الوصوليين، وباستغلال الناس باسم الدين.
ثم ينتقل إلى جنس أدبي مغاير لما سبق وهو جنس المسرحية، التي يعنونها ب(الصلبان)، فيعرض لنا مسرحية قصيرة عبر صفحات يسيرة، مبيناً حذاقته في هذا الفن وإتقانه له، كسائر الأنواع الأدبية الأخرى.
ثم ينتقل إلى عنوان جديد (الشاعر البعلبكي)، يبين من خلاله معتقده الذي طالما أفصح عنه في كثير من نتاجاته، وهو إيمانه بالتقمص، وهنا يعرضه على لسان أحد شخوصه المتفلسفين. فيقول على لسانه
“كل ما تشتاقه الأرواح تبلغه الأرواح، فالناموس الذي يعيد بهجة الربيع بعد انقضاء الشتاء سيعيدك أميراً عظيماً، ويعيده شاعراً كبيراً.”
ثم ينتقل إلى عنوان جديد (السمّ في الدسم) فيعرض لنا قصة عن خيانة صديق لصديقه من خلال سطوه على زوجته، ثم موت الخائن على يد الزوج، بطريقة ذكية وبعيدة عن الاتهام والإدانة.
أراد جبران من خلال هذه القصة، أن يظهر لنا العواقب الوخيمة للخيانة من جهة، وكيف يمكن استدراج الظالم إلى حتفه بطريقة هادئة وذكية من جهة أخرى.
ثم ينتقل إلى عنوان جديد بعنوان (ما وراء الرداء) يعرض لنا فيه هول الموت من خلال وفات فتاة بحضور الكاهن. ومن ثمّ انتقل إلى نص (البنفسجية الطموح) فيعرض لنا خاطرة، أراد أن يقول من خلالها: ينبغي على كل كائن أن يرضى بخلقه وشكله، لأن اللّه عزّ وجلّ عادل في مخلوقاته، وله حكمة عظيمة في كل مخلوق خلقه، ولا يظلم تعالى اسمه أحداً.
وبعدها انتقل إلى نص جديد بعنوان ( الشاعر)، يبين في هذا النص غربة الشعراء عن مجتمعهم لأنهم أصحاب ألسنة نظيفة وعقول حصيفة، ولأن السواد الأعظم من الشعب بعيد عن الفكر والمعرفة، لذلك يكون الشاعر المثقف غريب عن مجتمعه كغربة صالح في ثمود.
وقد ختم كتابه بالحديث عن ( الكلام و طوائف المتكلمين) ومن خلال هذه المقالة يسلط سهام نقده على الكلام بشكل عام، فيذمه، ثم يقسم الكلام إلى مجموعة من الضروب. وهذه الضروب هي من اجتهادات جبران، وقد كانت غايته من ذلك هجاء الكلام والمتكلمين، وبيان مغبته على صاحبه، ثم يعترف في النهاية أنه واحد من أولئك المتكلمين المذمومين، ثم يطلب الرحمة والمغفرة.
وقد كان جبران في هذا الكتاب بارعاً وثاباً، استخدم التقريع حيناً، والتهكم تارة، والتمرد طوراً.
قبر جبران خليل جبران
لقد أكد جبران في وصيته أن يعود جثمانه إلى مسقط رأسه في بشري لبنان, وهناك تم بناء متحف وقبر جبران خليل جبران.
*** *** *** *** ***
ثبت لبعض ما ورد في المقال:
(1) جبران خليل جبران ميخائيل نعيمة. (2) مؤلفات مارون عبود المجلد الثاني. (3) سورة التوبة الآية/51/. (4) الرائد في الأدب العربي نعيم الحمصي. (5) الفنون الأدبية أنيس المقدسي. (6) أنسن: جعلها إنساناً أي شخّصها. (7) الرائد في الأدب العربي نعيم الحمصي.