استهلال
المسجد الأموي الذي نعرفه اليوم كأشهر المساجد في العالم الإسلامي ومعلم من أبرز المعالم في مدينة دمشق. إنه أثر رائع من آثار حضارات غابرات، كانت قد اتخذت هذا الموقع لممارسة الطقوس الروحية على أشكالها قبل قدوم الفتح الإسلامي إلى بلاد الشام، وتأسيس الحضارة الإسلامية العريقة فيها، خاصة في العهد الأموي. وكان للخليفة الأموي “الوليد بن عبد الملك” دوراً رئيسياً في تحويل هذا المكان إلى مسجد إسلامي اشتهر باسم الخلافة الأموية.
سؤال يفرض نفسه
ما الذي جعل كل هذه الحضارات المتعاقبة تتمسك في اقامة طقوسها الدينية في هذا الموقع بالذات على امتداد آلاف السنين؟
الجواب: إنها طاقة المكان الكهرومغناطيسية الساقطة من الحقول التيرسيونية الكونية (Cosmic Terrestrial Fields) التي تتقاطع مع الموجات الكهرومغناطيسية تحت أرضية محدثة “الدوامة الطاقية – Vortex” في موقع معين على سطح الأرض، مما ينتج عنه طاقة أرضية أكثر شدة من أي مكان عادي. لذلك نجد أنَّ معظم الأماكن المقدسة قد تم بناؤها على مواقع دوامات طاقية.
يَصّح الادعاء بأن الأماكن المقدسة في معظم أنحاء العالم قد تم بناؤها على مواقع دوامات طاقية، تؤكده بعض الدوائر الروحية والباطنية. هذه الفكرة تربط بين الأماكن الدينية المقدسة وقوى طبيعية غير مرئية، وتقترح أن هناك علاقة عميقة بين الجغرافيا والروحانية. وخير مثال: موقع الكعبة المشرفة وأهرامات مصر … إلخ.
المسجد الأموي مثالاً .. إضاءة تاريخية
تاريخ المسجد الأموي في دمشق هو قصة معقدة تمتد عبر العديد من الحضارات، بدءاً من الفترة الكنعانية والآرامية وصولاً إلى الفتح الإسلامي ودور الأمويين في تحويله إلى مسجد.
-
الحقبة الكنعانية والآرامية
في العصور القديمة، وقبل وصول الحضارة الآرامية، كانت دمشق تحت حكم الكنعانيين، وكان المكان الذي يقف عليه المسجد الأموي اليوم معبداً للإله الكنعاني “حدد”، إله الرعد والمطر. بعد ذلك، عندما سيطر الآراميون على دمشق حوالي القرن العاشر قبل الميلاد، قاموا بتطوير هذا الموقع ليصبح معبداً للإله الآرامي “حدد رمون”، حيث كان يمثل مركزاً دينياً مهماً في المدينة.
يمكن الدمج بين طقوس الحضارتين الكنعانية والآرامية بعدما سيطر الآراميون على مناطق الكنعانيين، استمروا في عبادة حدد، ولكن قاموا بإدخال بعض التغييرات والتكيفات المحلية. في بعض الأحيان، تم دمج حدد مع آلهة أخرى، مثل الإله بعل، ولكن حدد استمر كإله رئيسي له دوره الخاص في النظام الديني الآرامي.
كانت عبادة الإله حدد مركزية في الديانات الكنعانية والآرامية، حيث كان يُعتبر رمزاً للقوة الطبيعية والسيطرة على الطقس، وهو ما جعله إلهاً مهماً في المجتمعات الزراعية التي كانت تعتمد بشكل كبير على نزول المطر. كانت الطقوس تتضمن التضحيات، القرابين، الاحتفالات الدينية، والصلوات المخصصة لاسترضاء هذا الإله وتحقيق الرخاء الزراعي.
وفيما يلي بعض التفاصيل عن الطقوس المرتبطة بعبادته:
-
الرمزية والقداسة:
“حدد” كان يُمثل بقوة الرعد والعواصف، وكان يُعتقد أنه يسيطر على الأمطار الضرورية للزراعة. لذلك كان يعد إلهاً للخصوبة والوفرة، حيث ارتبط دوره بتحقيق الخير والمحاصيل الجيدة. عادةً ما يتم تصويره وهو يحمل صاعقة، وهو رمز لقوته وسيطرته على السماء.
-
المعابد والأماكن المقدسة:
كان لعبادة حدد معابد مركزية في المدن الكبرى، مثل دمشق (موقع المسجد الأموي) وحلب (معبد حدد)، حيث كان يُحتفى به باعتباره مصدر البركة والأمطار. كانت هذه المعابد مليئة بالرموز المرتبطة بالقوة الطبيعية مثل العواصف والرعد. وكانت تُقدَّم له القرابين والصلوات من أجل نزول المطر وحماية المحاصيل.
-
القرابين والتضحيات:
كان من أهم جوانب الطقوس المرتبطة بعبادة حدد تقديم “القرابين الحيوانية” لإرضاء الإله ومنع غضبه الذي قد يتجسد في الجفاف أو العواصف المدمرة. وفي بعض الطقوس، قد تُقدم قرابين نباتية أيضاً، كالحنطة والشعير، لتعزيز البركة الزراعية.
-
الاحتفالات الدينية:
كانت هناك -في موقع المسجد الأموي- تقام “مهرجانات واحتفالات موسمية” في فترات معينة من السنة، خاصةً في بداية موسم الزراعة أو بعد نزول الأمطار. هذه الاحتفالات كانت تتضمن الأهازيج الدينية، الرقص، والموسيقى لتكريم حدد. وكانت الأعياد مرتبطة بالدورات الزراعية، حيث كان نزول المطر يعتبر نعمة تستحق الاحتفال. وكذلك تقام الصلوات وخاصة “صلاة الاستسقاء الجماعية” عند انقطاع المطر.
من الجدير بالذكر أنَّ صلاة الاستسقاء ما زالت طقساً توارثته الأجيال حتى يومنا هذا.
-
الحقبة البيزنطية – المسيحية
مع صعود الإمبراطورية الرومانية وتحول الإمبراطور قسطنطين الكبير إلى المسيحية في القرن الرابع الميلادي، تم تحويل المعبد الآرامي إلى كنيسة مسيحية. أصبحت هذه الكنيسة مكرسة للقديس يوحنا المعمدان (النبي يحيى في الإسلام). وتاريخياً، يعتقد أن جزءاً من رأس يوحنا المعمدان كان محفوظاً في الكنيسة، وهو ما أعطى المكان قداسة خاصة للمسيحيين. خلال الفترة البيزنطية، استمر الموقع كمكان للعبادة المسيحية وكان يمثل رمزاً دينياً هاماً في المدينة.
الطقوس الدينية التي مارسها البيزنطينيين في كنيسة القديس يوحنا المعمدان، التي هي اليوم المسجد الأموي، كانت تتمحور حول “القداس الإلهي والمناولة والأعياد الدينية”، إلى جانب الحج إلى رفات يوحنا المعمدان. كانت الكنيسة تلعب دوراً محورياً في حياة المؤمنين، حيث كانت موقعاً مركزياً للعبادة والتواصل الروحي. وقد تضمنت هذه الطقوس ما يلي:
- القداس الإلهي (الليتورجيا):
القداس الإلهي كان أهم الطقوس التي كانت تُمارس في الكنيسة. في كل يوم أحد، كان الكهنة يقيمون القداس الإلهي الذي يتضمن تلاوة نصوص من الكتاب المقدس، ترديد الصلوات،والتراتيل، ويُختتم القداس بمناولة الأسرار المقدسة. (الخبز والخمر).
- المناولة (الافخارستيا):
المناولة أو الافخارستيا كانت طقساً مهماً جداً في الكنيسة البيزنطية، حيث كان المؤمنون يتناولون الخبز الذي يُمثل جسد المسيح والخمر الذي يُمثل دمه. المناولة كانت تعتبر أحد الأسرار المقدسة التي من خلالها يحصل المؤمنون على بركة الله ويقتربون من الرب. الكهنة كانوا يقدمون هذه الأسرار في أجواء دينية مهيبة خلال القداس.
- الأعياد والمناسبات الدينية:
الكنيسة البيزنطية كانت تحتفل بمجموعة من الأعياد الدينية المهمة في موقع الكنيسة، وأهمها:
- عيد الفصح: كان يُعتبر أهم الأعياد المسيحية، وكان يُحتفل بقيامة المسيح من الموت. الطقوس التي ترافق هذا العيد تشمل الصلوات الليلية، الترانيم، والقداس الاحتفالي الذي يُقام عند شروق الشمس.
- عيد الميلاد: احتفال بميلاد المسيح، ويتضمن القداس وترديد الترانيم الخاصة بالمناسبة.
- عيد يوحنا المعمدان: بما أن الكنيسة كانت مكرسة للقديس يوحنا المعمدان، كان الاحتفال بعيده يتم بقُدَّاسات وصلوات خاصة، وتقديم القرابين وطلب الشفاعة من القديس.
- الحج الديني (الزيارات الروحية):
بما أن الكنيسة كانت تضم رفات يوحنا المعمدان، كانت مقصداً للحجاج المسيحيين الذين يأتون من مختلف المناطق للصلاة وطلب البركة. كانت هذه الزيارات الروحية جزءاً من طقوس الحج، حيث يقوم الحجاج بالتبرك من الرفات ويطلبون الشفاعة. وقد كانت هذه الكنيسة من أبرز المواقع المقدسة في المنطقة لما لها من ارتباط بالنبي يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام).
-
-
- الصلوات اليومية:
-
الكنيسة كانت مركزاً للصلوات اليومية، حيث كانت تُقام صلوات في الصباح والمساء. هذه الصلوات تتضمن تلاوة نصوص من المزامير والأناجيل، وترديد ترانيم خاصة بالتسبيح والشكر. كان الكهنة والرهبان يقومون بهذه الصلوات بانتظام، وكان الشعب يشارك في بعضها خاصة في أيام الأعياد والمناسبات الدينية.
-
-
- الطقوس الخاصة بالمعمودية:
-
المعمودية كانت طقساً مقدساً مهماً في الكنيسة البيزنطية، وكان يتم إقامتها في المعابد الكبرى، بما فيها الكنيسة التي كانت قائمة في موقع المسجد الأموي. المعمودية كانت تعني تطهير الإنسان من الخطيئة الأصلية والانضمام إلى جماعة المؤمنين. الطقس كان يتم بواسطة غمر الشخص في الماء المقدس أو سكبه عليه، مع تلاوة الصلوات المناسبة.
-
-
- الترانيم والتراتيل:
-
كانت الترانيم جزءاً لا يتجزأ من العبادة البيزنطية. كانت الترانيم تتلى باللغة اللاتينية أو اليونانية في الغالب، وكانت تتضمن تمجيداً للمسيح وللقديسين، وخاصة القديس يوحنا المعمدان. الموسيقى الدينية كانت تُستخدم لجعل الطقوس أكثر خشوعاً وروحانية، وكان لها تأثير قوي على الحضور.
-
-
- تقديم القرابين:
-
القرابين كانت جزءاً من الطقوس المسيحية البيزنطية. كان المؤمنون يقدمون القرابين من الخبز والنبيذ، بالإضافة إلى تقديمات أخرى مثل الزيت أو المال، وذلك لدعم الكنيسة ومساعدة المحتاجين. هذه القرابين كانت تُقدَّم كنوع من التعبير عن الامتنان للّه والقديسين.
-
-
- التطهير والصوم:
-
الصوم كان جزءاً مهماً من الحياة الروحية للمسيحيين البيزنطيين، خاصة قبل الأعياد الكبرى مثل عيد الفصح. المؤمنون كانوا يصومون ويتطهرون روحياً قبل المشاركة في الطقوس المقدسة. هذا الصوم كان يتضمن الامتناع عن الطعام والشراب لفترات معينة، والتوبة والصلاة من أجل تطهير النفس. وفي هذا السياق، لا بدَّ من القول بأنَّ المقولة المطروحة تربط بين ممارسة الصيام والامتناع عن اللحوم في المسيحية وبين ممارسات صيامية قديمة كانت سائدة في بلاد الشام، وخاصة عبادة عشتار وبعل، حيث كان الصيام يرتبط بالتوقف عن ذبح القطيع في موسم التوالد للمحافظة على التناسل وعدم انقراض الماشية مستقبلاً تماشياً مع تجديد الحياة ودورة الطبيعة.
جذور الصيام في الديانات القديمة عند الحضارة السورية من طقوس عبادة عشتار وبعل، كانت هناك ممارسات صيامية في بلاد الشام القديمة. هذه الممارسات كانت مرتبطة بـالدورة الزراعية، حيث كان الصيام يرتبط بأوقات معينة من العام، مثل فترات الجفاف أو قبل مواسم الحصاد، بهدف التقرب من الآلهة وتأمين خيراتها إلى جانب تقديس الحيوانات والمحافظة على تكاثر ها، خاصة الأغنام والماشية والدواجن والطيور البرية.
-
الفتح الإسلامي وتحويله إلى مسجد
بعد أن وصلت خيول الفتح الإسلامي تصُّك بحوافرها الدروب حول أسوار لدمشق في عام 634 م تحت قيادة الصحابي خالد بن الوليد، تم تقسيم موقع كنيسة يوحنا المعمدان بين المسلمين والمسيحيين، حيث استمر المسيحيون باستخدام جزء من الكنيسة، بينما استخدم المسلمون جزءاً آخر للصلاة.
-
دور الخليفة الأموي في تحويله إلى مسجد:
الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك (705-715 م) أراد أن يجعل من دمشق عاصمة للحضارة الإسلامية، ولذلك قام بتحويل الكنيسة إلى مسجد جامع كي يعكس عظمة الدولة الأموية. بني المسجد بتصميم رائع وفريد، وتم إدخال الكثير من التفاصيل الفسيفسائية والزخرفية المتأثرة بالفن البيزنطي، إلى جانب إضافات إسلامية مميزة. مما جعل المسجد الأموي أحد أروع الأمثلة على العمارة الإسلامية المبكرة يمثل معلماً دينياً وتاريخياً بارزاً في دمشق، ومكاناً للعبادة والتراث.
عبر الوليد عن رغبته تلك بقول تناقله الرواة: إني أريد أن أبني مسجداً لم يبن من مضى قبلي ولا يكون بعدي مثله”. كما تنقل الروايات عبارة قالها -فيما بعد- الخليفة العباسي المأمون على مسجد دمشق حين زاره: “إنَّ مما أعجبني فيه كونه بني على غير مثال متقدم”.
مشروع معماري ضخم:
عندما قرر الخليفة الوليد بن عبد الملك تحويل كنيسة يوحنا المعمدان بالكامل إلى مسجد جامع للمسلمين، أمر بما يلي:
- هدم الكنيسة البيزنطية: شريطة الحفاظ على طابع المكان كموقع مقدس بإضافة جماليات وزخارف إسلامية جديدة.
- البناء والتوسعة: عملية البناء كانت ضخمة وشملت أفضل الحرفيين من الإمبراطورية الأموية. استخدم الوليد أمهر المهندسين والعمال من مختلف مناطق الدولة الإسلامية، بما في ذلك حرفيين بيزنطيين، لتزيين المسجد بفسيفساء رائعة، وما زالت هذه الزخارف تعتبر من أهم المعالم الإسلامية في دمشق. تم استخدام مواد فاخرة مثل الرخام والذهب في البناء، مما أضفى على المسجد هيبة وجمالاً غير عاديين.
- الحفاظ على مقام النبي يحيى (يوحنا المعمدان): وهو موجود داخل المسجد الأموي حتى اليوم ويُعتبر مزاراً للمسلمين.
يشير المهلبي وهو من مؤرخي القرن الرابع الهجري في كتابه «المسالك والممالك» إلى أن المسلمين بنوا مسجداً لهم إلى جانب كنيسة القديس يوحنا. ومن دراسة الروايات المتعددة وما أورده الباحثون في الآثار يمكن التوصل إلى الحقيقة التالية وهي أن الكنيسة لم تكن موضع الاقتسام بل أرض المعبد الروماني حيث أنشأ المسلمون في نصفها الشرقي الذي يضمه سور ورواق مسجداً لهم بعد الفتح عُرِف بمسجد الصحابة، ومازالت آثار محرابه باقية في الجانب الشرقي من جدار القبلة في المسجد الأموي اليوم، أُطلق عليه في كل العهود محراب الصحابة، وأن الوليد حين بدأ بناء المسجد أمر بهدم ما كان من منشآت في أرض المعبد ومن بينها المسجد السابق والكنيسة واستبقى الجدران ليقيم داخلها المسجد الجديد الذي استغرق بناؤه عشر سنوات، أي مدة خلافة الوليد كلها، وأُنفقت عليه أموال طائلة اختلف الرواة في تقديرها.
ردود فعل المسيحيين على تحويل الكنيسة:
قبل تحويل الكنيسة بشكل كامل إلى مسجد، جرى تقاسم المكان قبل التحويل، حيث كان المسلمون يصلون في الجزء الجنوبي من الكنيسة، بينما استمر المسيحيون في استخدام الجزء الشمالي. هذا الترتيب استمر لفترة من الزمن حتى قرر الوليد تحويل الموقع بالكامل إلى مسجد جامع.
وفيما بعد، وفقاً للروايات التاريخية، أنَّ الخليفة الوليد بن عبد الملك تفاوض مع المسيحيين في دمشق بشأن تحويل الكنيسة إلى مسجد. وبحسب بعض الروايات، عرض الوليد بناء كنيسة جديدة للمسيحيين في مكان آخر في مقابل تحويل الكنيسة القائمة إلى مسجد. ويقال أن الوليد دفع تعويضات للمسيحيين على هذا التحويل. هذه التعويضات تضمنت إعطاءهم بعض الكنائس الأخرى داخل دمشق أو في ضواحيها، مثل “كنيسة مريم” وكنائس أخرى.
شاهد عيان مسيحي زار دمشق نحو سنة 50هـ/670م أنه رأى كنيسة القديس يوحنا المعمدان دون أن تمس وأنه كان للمسلمين معبد آخر يؤدون فيه شعائرهم الدينية.
استياء وامتعاض:
رغم هذه الترتيبات، تشير بعض المصادر إلى أن المسيحيين لم يكونوا راضين تماماً عن تحويل الكنيسة إلى مسجد. لأنها كانت مكاناً مقدساً للمسيحيين ذات أهمية كبيرة لهم، خاصة لوجود رفات يوحنا المعمدان. لكن بمرور الوقت، ومع استمرار المسلمين في السيطرة على المدينة، تضاءلت الاعتراضات، واستقر الوضع.
حماية المسيحيين:
رغم الاستياء الأولي، تم احترام حقوق المسيحيين في دمشق تحت الحكم الأموي. منحهم الخليفة حرية ممارسة شعائرهم الدينية في الكنائس التي بقيت لهم، واستمر التعايش بين المسلمين والمسيحيين في المدينة. وفي المقابل، استمر المسيحيون في الحفاظ على أماكن عبادتهم المتبقية وأُعطيت لهم الحماية من الدولة. ورغم أنَّ هذا التحويل يمثل تغييرا كبيرا للمسيحيين، إلا أن حصافة أدت إلى التعايش بين المسيحيين والمسلمين الذي استمر في دمشق، وأصبح المسجد الأموي رمزاً للحضارة الإسلامية وموقعًا مقدسًا لجميع الأديان.
نبذة عن واقع المسجد الأموي ودوره الحضاري
تعرض المسجد لثلاثة حرائق كبيرة:
- حدث أولها في العهد الفاطمي في أثناء ثورة الأهالي على القائد بدر الجمالي، واحترق الحرم في منتصف شعبان من عام 1068 م.
- الحريق الكبير الثاني وقع عند اجتياح تيمورلنك لمدينة دمشق في عام 1401 م.
- الحريق الثالث والأخير الذي قضى على الحرم وقع في عام1893م.
وكان للزلازل أثراً كبيراً في التسبب بأضرار جسيمة بالمسجد. أهمها زلزال عام 847 م. وزلزال عام 1200م، وزلزال عام 1758م، الذي تسبب بتهدم الرواق الشمالي، ثم جدد على نحو مختلف من دون أعمدة، كما يشاهد اليوم.
ليس بمسجد فقط
لم تقتصر وظيفة المسجد على الصلاة والعبادة، بل كان حافلاً في كل الأزمنة بمختلف النشاطات الثقافية والاجتماعية والسياسية، حتى أصبح مركزاً للإشعاع الثقافي والعلمي. وقد ألحقت به عشرات المدارس في داخله وبعضا بجواره. وكانت تقام فيه حلقات الدرس للصغار والكبار ولمختلف العلوم في أركانه حيث يجلس الطلبة لتلقي الدروس وتعلم الكتابة والنسخ. وبات عند كل عمود من أعمدة وردهات المسجد الأموي شيخاً يؤخذ عنه العلم.
من المدارس التي نشطت في أنحاء المسجد الأموي:
- المدرسة الغزالية: نسبة للشيخ الجليل “الغزالي”، حيث اتخذت ركناً من مشهد عثمان,
- المدرسة المنجائية: نسبة إلى شيخ الحنابلة “ابن المنجا” المتوفى سنة 695هـ، وهو أول من درَّس فيها.
- المدرسة القوصية: أسسها شيخ الشافعية “القوصي” المتوفى سنة 653 هـ.
- زاوية المالكية: وهي في الجانب الغربي، أقامها الشيخ نور الدين للمغاربة الغرباء، حيث كانوا يتلقون العلم على يده، وقد خصص لهم مساعدة مالية مع السكن مجاناً في أماكن مخصصة للطلبة والغرباء.
- دار الحديث الفاضلية: شيد بنائها القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني العسقلاني في حي الكلاسة، وأضافها إلى نشاطات المسجد الأموي التعليمية.
- دار الحديث العُروية: اتخذت مقراً لها في الجانب الشرقي من صحن المسجد (مشهد علي بن أبي طالب). وقد أسسها الشيخ “شرف الدين محمد بن عروة الموصلي” (المتوفى عام 620 هـ) وخصصها لتدريس علم الحديث الشريف. وكانت مكتبتها عامرة بأمهات المراجع القيمة.
- المدرسة التاجية: ومقرها في زاوية المسجد الأموي الشرقية، غربي دار الحديث العروية، أشهر أساتذتها الشيخ “تاج الدين الكندي” والشيخ “زيد بن الحسن البغدادي النحوي”.
- المدرسة الصلاحية: وكانت تابعة للشافعية، ومقرها بالقرب من البيمارستان النوري بالكلاسة. من أشهر أساتذتها الشيخ “شمس الدين الكردي الأعرج” والشيخ “عماد الدين بن أبي زهران الموصلي”، والشيخ جمال الدين المعروف بحمار المالكية، والشيخ “زين الدين الزواوي”.
وكان المسجد الأموي عامراً بأنواع قيمة من الكتب لمختلف العلوم. وكان بينها “مصحف عثمان النادر“، معروضاً في خزانة خاصة به جانب المحراب والمقصورة، وقد فقد بعد نشوب الحريق الثالث الأخير.
أما الوراقين، كانت لهم أماكن مخصصة عند أبواب المسجد الأموي، وبجوارهم المتخصصون بكتابة عقود النكاح.
ومن الفعاليات الأخرى في المسجد، كانت تقام فيه مراسم تقليد القضاة، والاحتفال بتعيين الولاة وطقوس الأعياد الدينية والرسمية. وكذلك كان المسجد مقراً للاجتماعات السياسية وإلقاء الخطب، لإعداد المظاهرات المنددة بالاستعمار والاعلان عن مطالب الشعب وصيانة حقوقه.
لقد احتوى المسجد الأموي على الكثير من النفائس والتراث الفني مثل قناديل مصنوعة من الذهب والفضة والبلور، معلقة بسلاسل الذهب، بلغ عددها ستمائة سلسلة. وفي العهد المملوكي وضع على كل باب من أبواب المسجد سراجاً كبير اً من معدن النحاس يتسع قنطاراً من الزيت (كان في القرن السابع عشر وزن القنطار في المتوسط يساوي 185 كجم ).
ومن أشهر ما يملكه المسجد من الساعات -التي تنوعت بحسب العصور- واحدةً كان لها نظام للنهار وآخر لليّل. وقد أتى على وصفها الرحالة ابن جبير في القرن السادس الهجري (12م)، وقال:
كانت الساعة عند الباب الشرقي (باب جيرون) في طاق كبير (معنى الطَّاقُ: ما عُطف وجُعل كالقوس من الأبنية) يحيط بطيقان صغيرة، لها أبواب من نحاس، كلما مضت ساعة يغلق واحد منها، وقبل انغلاقه تسقط بندقتان من فمي بازين في طستين من النحاس، فيسمع لهما دوي. ولهذه الساعة في الليل تدبير آخر يعتمد على وجود أدراج من الزجاج مستديرة عند كل طاقة. وخلف كل زجاجة مصباح يدور به إطار، وكلما انقضت ساعة احمرت الدائرة الزجاجية بأكملها، وهكذا في كل ساعة. وكان المسجد في القرون الأخيرة يعتمد في التوقيت على الساعات الشمسية والساعات الفلكية التي أطلق عليه اسم «البسيط».
من الساعات الأثرية التي عثر عليها في عام 1958، واحدة مصنوعة من الرخام كانت ملقاة تحت الأرض. كان قد صنعها “ابن الشاطر الدمشقي” في عام 773 م، وهي محفوظة اليوم في متحف دمشق الوطني.
وختاماً
إنَّ الحديث عن المسجد الأموي وتاريخه في الحضارات الغابرات، لا يمكن أنْ تتسع له مقالة كهذه، بل يحتاج إلى مئات الصفحات ومئات الصور لأنه من الأوابد الحيَّة التي ما زالت تنبض بالحياة بفضل موقعه على دوامة طاقية حباها الله لهذا المكان ليمنحه المزيَّة التي اكتشفتها خبرات أبناء الحضارة السورية منذ آلاف السنين التي خلت.