لم يكن أحد يتوقع أن عودة رجل دين مُسِنّ من منفاه في باريس إلى إيران ستطلق سلسلة من الأحداث التي ستغيّر شكل الشرق الأوسط إلى الأبد. في 1979، عاد الشيطان الأكبر آية الله الخميني إلى طهران ليقود ثورة شعبية أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، حليف الغرب القوي. شكلّ تأسيس “الجمهورية الإيرانية الإسلامية” نقطة التحول الكبرى، ليس فقط لإيران، بل للمنطقة العربية برمتها، حيث بدأت طهران تنفذ مشروعاً استراتيجياً لتوسيع نفوذها، ما أدى إلى سنوات من الحروب والصراعات الطائفية والاضطرابات في المنطقة.
البداية:
في البداية، لم يكن أحد يتصور أن ثورة الخميني ستصبح عدواً للعراق. في الواقع، كان صدام حسين قد دعم الخميني أثناء فترة نفيه في العراق، وسمح له بممارسة نشاطه السياسي والدعوي ضد الشاه. إلا أن هذه العلاقة تبدلت بشكل جذري بعد الثورة الإيرانية، حيث أصبح الخميني يتحدث صراحةً عن ضرورة تصدير الثورة إلى خارج حدود إيران، وكانت أولى أهدافه هي العراق الذي كان يحكمه صدام حسين بنظام قومي علماني يعادي الإسلام السياسي.
بدأت المناوشات على الحدود، وتطورت إلى حرب طاحنة استمرت ثماني سنوات (1980-1988). في هذه الحرب، لم يسقط مئات الآلاف من القتلى والجرحى فحسب، بل كشفت أيضاً عن عزم إيران على أن تكون لاعباً رئيسياً في المنطقة، وتسعى لتحقيق حلم “الهلال الشيعي” الذي يمتد من طهران مروراً ببغداد ودمشق وصولاً إلى بيروت.
تحالفات فتحت باب جهنم
عقب انتصار الثورة الإيرانية، بحثت طهران عن حلفاء إقليميين، ووجدت ضالتها في حافظ الأسد، الذي كان يحكم بقبضة من حديد. التحالف بين طهران ودمشق كان استراتيجياً: إيران حصلت على منفذ إلى البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا، بينما وجدت سوريا في إيران حليفاً قوياً لمواجهة العراق.
هذا التحالف فتح الباب أمام إيران لبناء نفوذها في لبنان، حيث أسست ميليشيا حزب الله في الثمانينيات. حزب الله لم يكن مجرد تنظيم عسكري، بل كان وسيلة لتوسيع النفوذ الإيراني في المنطقة. على مدار السنوات التالية، تحول حزب الله إلى قوة مهيمنة داخل لبنان، ليس فقط بمواجهة إسرائيل، بل أيضاً بفرض سيطرته على القرار السياسي اللبناني. كانت هذه بداية توسيع النفوذ الإيراني إلى عمق العالم العربي، حيث عملت طهران على تمويل وتسليح ميليشيات شيعية في العراق واليمن ولبنان وسوريا.
بعد حرب الخليج الأولى، لم تتخل إيران عن طموحاتها في العراق. على الرغم من انتهاء الحرب، فإن إيران ظلت تنتظر الفرصة المناسبة للتدخل في الشأن العراقي بشكل أكثر فاعلية. هذه الفرصة جاءت بعد الإطاحة بصدام حسين في عام 2003، حين دخلت القوات الأمريكية العراق وأطاحت بالنظام البعثي.
بعد سقوط بغداد، استغلت إيران الفراغ السياسي والأمني لتوسيع نفوذها عبر دعم ميليشيات شيعية مثل “الحشد الشعبي”، وأصبح لها اليد الطولى في توجيه القرارات السياسية في العراق. استفادت إيران من الانقسامات الطائفية في العراق، ما جعلها تسيطر بشكل فعلي على المشهد العراقي.
حرب الوكالات..
مع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، كان النظام السوري على وشك السقوط. إلا أن التدخل الإيراني عبر ميليشيات حزب الله والحرس الثوري قلب الموازين لصالح نظام بشار الأسد. استثمرت طهران في الحرب السورية لضمان بقاء الأسد، وهو حليفها الأقرب في المنطقة.
أصبح الوجود الإيراني في سوريا علنياً، وكانت إيران ترى أن الحفاظ على نظام الأسد يشكل مفتاح استمرار نفوذها في الشرق الأوسط. فقد تمكنت طهران من تحويل سوريا إلى ساحة حرب بالوكالة، حيث دعمت الميليشيات التابعة لها، واستفادت من تواجدها الجغرافي لتأمين خطوط الإمداد لحزب الله في لبنان.
في 2015، امتدت الطموحات الإيرانية إلى اليمن، حيث دعمت جماعة أنصار الله (الحوثيين) في حربهم ضد الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً. تمكن الحوثيون بدعم من إيران من السيطرة على العاصمة صنعاء، وأطلقوا صواريخ باتجاه الأراضي السعودية، في مؤشر واضح على أن إيران تسعى لتوسيع نفوذها حتى في الجزيرة العربية.
كانت الحرب في اليمن انعكاساً آخر للاستراتيجية الإيرانية القائمة على دعم الميليشيات الشيعية في دول تعاني من انقسامات داخلية. استمرت الحرب في اليمن، لتصبح جبهة جديدة في الصراع بين إيران والمملكة العربية السعودية، حيث دعمت السعودية الحكومة اليمنية في محاولة للحد من النفوذ الإيراني في المنطقة.
قص الأجنحة …
في السنوات الأخيرة، بدأت مؤشرات تدل على أن نفوذ إيران في المنطقة أصبح يواجه تحديات حقيقية. بعد سنوات من توسع النفوذ الإيراني، تصاعدت التحركات الإقليمية والدولية لقص أجنحة إيران.
استهداف حزب الله
في لبنان، بدأ حزب الله يواجه ضغطاً متزايداً من الداخل والخارج. الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بلبنان كشفت عن فساد الحزب وتورطه في نزاعات خارجية لا تخدم مصالح اللبنانيين. كما زادت الضغوط الدولية على الحزب، حيث فرضت عقوبات أمريكية ودولية على قادته ومؤسساته المالية. هذه العقوبات أثرت بشكل كبير على قدرات الحزب المالية والعسكرية.
روسيا: الغوص في الرمال المتحركة
في سوريا، ورغم أن إيران لا تزال تحتفظ بنفوذها، فإن التدخلات الروسية وتحركات إسرائيلية استهدفت القواعد الإيرانية وميليشيات حزب الله أدت إلى تراجع النفوذ الإيراني في بعض المناطق. كما أن الدعم الروسي للأسد جاء على حساب النفوذ الإيراني، حيث تسعى موسكو إلى تقليص الاعتماد على إيران وتوسيع نفوذها هي الأخرى في المنطقة.
انسحاب أمريكي وظهور قوى جديدة
مع انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وجد الإيرانيون أنفسهم أمام قوى إقليمية جديدة تسعى للحد من نفوذهم. الدول الخليجية، بقيادة السعودية والإمارات، بدأت بتعزيز علاقاتها مع دول مثل إسرائيل، في خطوة تهدف إلى التصدي لنفوذ إيران في المنطقة. التحالفات الجديدة، بما في ذلك “اتفاقيات أبراهام”، تهدف إلى خلق توازن قوى جديد في المنطقة يقلل من تأثير طهران.
إلى جانب الضغوط الخارجية، تواجه إيران مشاكل داخلية عميقة. الاحتجاجات المتكررة في إيران ضد الفساد وسوء الإدارة، إضافة إلى العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة، جعلت النظام الإيراني يعاني داخلياً. تراجعت القدرة على تمويل الحركات الخارجية، وأصبح الداخل الإيراني أولوية لدى القيادة في طهران.
حافظ الأسد ومفتاح جهنم
في الحقيقة، إنَّ حافظ الأسد هو من مهد الطريق أمام النفوذ الإيراني وفتح على العرب باب جهنم . ففي الوقت الذي كانت فيه العراق بقيادة صدام حسين تشكل جدار الصد الأول أمام تمدد إيران الإقليمي لسنوات، كانت سوريا تحت حكم الأسد الأب تشكل بوابة مفتوحة للتوسع الإيراني. فبعد سقوط العراق نتيجة الغزو الأميركي في عام 2003، انهار الحاجز الذي كان يحد من تحركات إيران، وبدأت مليشيات ايران تصول وتجول بحرية في المنطقة، مُوسّعةً نفوذها في لبنان وسوريا واليمن والعراق. عندما فتح الأسد هذا الباب، جعل المنطقة العربية تعيش في كنف تصاعد النفوذ الإيراني، الذي لا يزال يلقي بظلاله الثقيلة على المشهد الجيوسياسي في المنطقة حتى اليوم.
ختاماً..
بعد عقود من التوسع، يبدو أن النفوذ الإيراني بدأ يتآكل بفعل الضغوط الدولية والإقليمية، إضافة إلى التحديات الداخلية. إنَّ قص أجنحة إيران في لبنان وسوريا واليمن، إلى جانب الصعود الإقليمي لدول الخليج، قد يكون بداية نهاية حقبة النفوذ الإيراني. ومع تراجع نفوذ إيران، قد نرى مستقبلاً أكثر استقراراً في الشرق الأوسط، ولكن طريق الخروج من جهنم لا يزال طويلاً ومعقد المسالك… ومن الممكن ان يستبدلوا جهنم بجحيم المدّ الصهيوأمريكي على يد إسرائيل كبديل عن ايران.
وكما يقول العامة – كلب ابيض بدل كلب اسود!