تنويه: أسباب كتابة هذا المقال
لقد أتيحت لي فرصة العمل مع فريق من المحللين الاستراتيجيين – من جنسيات مختلفة – لإعداد دراسة تحليلية حول موقف إيران من الضربة الإسرائيلية الثانية في أكتوبر 2024. وبعد أن وضعنا الأسس التحليلية وتوزعت الأدوار بيننا، فوجئنا بتوجيهات من إدارة مركز الدراسات توقفنا عن استكمال المشروع دون تقديم تفسير واضح. ومع تسارع الأحداث اليومية في الشرق الأوسط، تلوح مؤشرات متزايدة على أن المنطقة تمر بمرحلة حرجة من التحولات التي قد تعيد تشكيلها، مما يُهدد استقرار الحضارات التاريخية كحضارة بلدي سوريا، التي أراها مهددة بالتفكك في ظل الضغوط المتزايدة التي تُعيد رسم خرائط قديمة-جديدة كسايكس-بيكو.
لقد استفزني إلغاء مركز الدراسات كتابة الدراسة التحليلية دون ايضاح الأسباب لذلك، اخترت عبر منصة "مآلات" أن أقدم هذا المقال، لتسليط الضوء على تداعيات الضربة الإسرائيلية لإيران، التي فرضت نفوذها على سوريا إلى درجة اختزال سيادة الدولة. لقد تحولت إيران إلى "أسد سوريا"، في حين أصبح الأسد نفسه شبحاً متراجعاً على مسرح القوى الإقليمية والدولية. بهذا التحليل، أهدف إلى كشف أبعاد هذا الصراع على مستقبل سوريا، والشرق الأوسط بعامة، وكيف يعيد ذلك تشكيل اللعبة بين القوى المتصارعة على المنطقة.
شذرات من تحليل الوضع الإيراني بعد الضربة الثانية من إسرائيل
يبدو أن الضربة التأديبية الأخيرة التي وجهتها إسرائيل لإيران قد أثارت جدلاً واسعاً بين المحللين الاستراتيجيين حول احتمالات رد طهران، سواء عبر هجوم مباشر أو بواسطة حلفائها الإقليميين. فالتقييمات تختلف حول مدى استعداد طهران للرد، وسط تقديرات بضعف التواصل الداخلي والتقييم غير الواقعي للوضع الميداني.
من جهة الولايات المتحدة، لم تسفر الهجمات الإيرانية الأخيرة على إسرائيل، في نيسان وتشرين الأول، عن أي تأثير ملموس. بل على العكس، أدت الضربات الإسرائيلية إلى إضعاف القدرات العسكرية الإيرانية بشكل ملحوظ، وهو ما يثير تساؤلات حول رغبة طهران في الرد مرة أخرى.
ولكن، قد يظل النظام الإيراني متمسكاً بموقفه العدائي، ما يجعل احتمالية الرد واردة في أي وقت. إذا كانت واشنطن تهدف إلى تخفيف التوتر، فعليها الكف عن استفزاز إيران بالمقاطعة، ومن ثمَّ يجب بعدها توضيح العواقب المحتملة لطهران.
هل إيران في حالة إنكار للواقع؟
رغم أن الغرب رأى أن الهجمات الإيرانية على إسرائيل فشلت، إلا أن طهران رأت فيها نجاحاً يستدعي التكرار. هذا التباين يعكس الفجوة في تقييم النجاحات العسكرية، ويثير تساؤلات حول مدى صحة المعلومات التي تصل إلى القادة الإيرانيين. قد يكون لدى قادة النظام رؤى مشوهة، حيث يتم تضليلهم بانتظام من قبل المسؤولين الأمنيين حول نتائج المواجهات مع إسرائيل.
التقديرات المحجوبة تحت طبقات من المبالغات
يبدو أن القيادات الإيرانية، بما في ذلك الحرس الثوري، تعاني من عدم الواقعية في تقدير الأوضاع. والمثال الذي يشهد على ذلك، حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانية عام 2020، التي تشير إلى محاولات الحرس الثوري بتضليل القيادة العليا. وربما شهدت الهجمات الأخيرة على قادة في “الحرس الثوري” بداية حملة للبحث عن جواسيس داخليين قد يكونون وراء تسريب معلومات حساسة.
وجهات النظر الغربية تجاه إيران
تميل الشخصيات الإيرانية ذات التوجهات البراغماتية، مثل محمد جواد ظريف، إلى تبني مواقف متوازنة تدعو إلى ضبط النفس، إلا أن نفوذ هذه الشخصيات محدود داخل النظام. فالمسؤولون المعتدلون يجدون أنفسهم مجبرين على الامتثال لقرارات القادة المتشددين الذين يهيمنون على عملية اتخاذ القرار في قضايا الأمن القومي.
هل تنوي إيران فعلاً الرد؟
بعد الضربة الإسرائيلية في 26 تشرين الأول، صدرت تصريحات متشددة من شخصيات بارزة في إيران تهدد برد قاسً على إسرائيل. فمثلاً، غلام حسين محمدي كلبايكاني، رئيس مكتب المرشد الأعلى، وصف الضربة بأنها “جبانة”، بينما أكد قائد الحرس الثوري حسين سلامي أن “العواقب ستكون وخيمة”.
ما بين القدرة والعجز تتولّد لهجة التهديد. لقد ثبت تاريخياً أن تصريحات إيران غالباً ما تكون للاستهلاك الإعلامي. ومع ذلك، قد تختلف الأمور في هذا التصعيد الحالي.
خيارات إيران عبر العراق
أشارت تقارير إلى أن العراق قد يصبح منصة للرد الإيراني في تشرين الثاني، مع تزايد وتيرة الهجمات عبر الطائرات بدون طيار ضد إسرائيل. في حال قررت طهران استخدام صواريخ باليستية عبر العراق، قد يؤدي ذلك إلى تحديات دفاعية أكبر لإسرائيل، كون المسافة بين مواقع الإطلاق العراقية وأهدافها أقرب نسبياً مقارنة بإيران.
تكتيكات محتملة
قد تسعى إيران لتوحيد جبهاتها عبر حلفائها في العراق ولبنان. وفي حال ردّت إسرائيل على الهجمات من العراق، قد تستخدم الميليشيات العراقية هذه الذريعة لتصعيد الدعوات المطالبة بانسحاب أمريكي من العراق، مستغلةً هذا الحدث لتعزيز نفوذها الإقليمي.
التوجه الأمريكي
مع محدودية القدرة الأمريكية على التأثير في القرارات الإيرانية، قد تلجأ واشنطن إلى تقديم أدلة استخباراتية حول الهجمات، ودفع قادة العراق لاتخاذ مواقف أكثر حزماً تجاه الميليشيات الإيرانية. كما قد تشجع الولايات المتحدة حلفاءها على تعزيز التعاون لمواجهة التصعيد الإيراني المحتمل، مما يزيد من الضغط الدولي على طهران لضبط تحركاتها.
الأمور منوطة بخواتيمها
“إن الأمور تُحسَم بخواتيمها”، فنتائج أي حدث أو قرار تعتمد بشكل أساسي على كيفية انتهائه. بمعنى آخر، لا يمكن الحكم على أمر ما قبل رؤية نهايته الحقيقية. فقد تبدو الأحداث مشجعة في بداياتها، لكنها قد تكشف في النهاية عن واقع مختلف تماماً.
وفي التاريخ أمثلة لا حصر لها، حيث بدأت حروب بوعود واعدة، وانتهت بخسائر فادحة؛ فحكمت الشعوب عليها كحروب خاسرة. لذا، من الضروري التحلي بالصبر والتأني في إصدار الأحكام، والنظر للأحداث بحذر. فالنتائج النهائية هي التي تحدد قيمة أي خطوة أو قرار، ويجب أن نستعد لها بتدابير حكيمة قبل أن نجد أنفسنا أمام نتائج لا رجعة فيها بعد أن وقع الفأس على الرأس.