استهلال
«الآن يمكنني أن أموت مرتاح»، بهذه العبارة ودّع المحامي الفرنسي البارز جيل دوفير الحياة يوم الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2024 عن عمر 68 عاماً. جاء رحيله تتويجاً لمسيرة حافلة بالنضال القانوني، تكللت بنجاحه في استصدار مذكرة اعتقال تاريخية من المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة.
جيل دوفير: رحلة من النضال الإنساني إلى تحقيق العدالة الدولية
ولد جيل دوفير عام 1956 في مدينة ليون الفرنسية. بدأ حياته المهنية كممرض قبل أن ينتقل إلى مجال القانون، ليصبح أحد أبرز المحامين الدوليين. انضم إلى نقابة المحامين في ليون ودرّس القانون في جامعة “ليون 3”. قسّم حياته المهنية بين تقديم الدعم الإنساني والاجتماعي، وبين الدفاع عن حقوق الأقليات والقضايا العادلة حول العالم.
أسس دوفير “اللجنة الدولية للمحامين – Comité International des Avocats”، وهي شبكة قانونية تضم أكثر من 500 محامٍ وخبير قانوني ملتزمين بمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب. وكان دوفير المايسترو الدينامو لهذه اللجنة.
مسيرة قانونية: من غزة إلى المحاكم الدولية
كرّس دوفير جهوده القانونية للقضية الفلسطينية، حيث مثّل تحالفاً يضم 350 منظمة غير حكومية و40 محامياً أمام المحكمة الجنائية الدولية. بدأ عمله ضد الاحتلال الإسرائيلي برفع شكوى عام 2009 بشأن جرائم الحرب التي ارتُكبت خلال العدوان على غزة بين عامي 2008 و2009.
في عام 2014، وبعد عدوان آخر على غزة، ضغط دوفير دولياً لتسجيل فلسطين كعضو في نظام روما الأساسي، وهو ما أتاح فتح تحقيق أولي حول الجرائم المرتكبة اعتباراً من 13 يونيو 2014. وفي عام 2018، قدّم دوفير أكثر من 3000 ملف قانوني نيابة عن الضحايا، بينهم أطباء وصيادون وشهداء مسيرة العودة الكبرى.
كما مثل دوفير حركة حماس في محاولتها رفع شكوى قانونية ضد الاحتلال بشأن الاستيطان والتهجير القسري. إلا أن الأحداث التي اندلعت بعد عملية “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023 أدت إلى تعقيد مسار الدعوى.
في 2024، قدّم دوفير وثائق وأدلة حاسمة للمحكمة الجنائية الدولية، ما أدى إلى توجيه الاتهامات رسمياً لنتنياهو وغالانت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
مجريات الدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية
فتح ملف الدعوى ضد الاحتلال الإسرائيلي لم يكن مهمة سهلة. بدأت القضية بتقديم أدلة قوية وثقتها منظمات حقوقية ودولية عملت جنباً إلى جنب مع فريق دوفير المكون من 400 محامٍ.
أبرز التحديات القانونية:
- ضغوط سياسية دولية: تعرضت المحكمة لضغوط من الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة وبعض دول الاتحاد الأوروبي، التي كانت تخشى تداعيات القرار على علاقاتها مع إسرائيل. وكان رد دفير عليهم ساحقاً عندما قال:
«يجب على الحكومات أن تختار المعسكر الذي ستنضم إليه، إذا كانت تدعم حقوق الإنسان أم الإبادة الجماعية. لا يمكنهم إلقاء خطب حول القانون الدولي وحقوق الإنسان ثم قبول هجوم دون أن يفعلوا شيئاً».
- تعقيدات قانونية: اعتمد الاحتلال على ادعاء أن المحكمة الجنائية الدولية ليست مختصة لأن فلسطين ليست دولة ذات سيادة كاملة.
- مقاومة داخل المحكمة نفسها: أشار البعض داخل المحكمة إلى أن القضية قد تؤدي إلى زعزعة استقرار المحكمة دولياً.
- العدل انتصر أخيراً: رغم ذلك، أظهر المدعي العام للمحكمة، عبد الكريم خان، التزاماً غير مسبوق بالعدالة. استند خان في قراره إلى الأدلة المقدمة، مؤكداً أن القضية تتوافر فيها جميع المعايير القانونية اللازمة لتوجيه الاتهامات.
اقتباسات دوفير الحاسمة:
«في حالة فلسطين، لدينا جميع معايير القضايا المتعلقة بالإبادة الجماعية».
«إذا لم تفعل المحكمة الجنائية الدولية شيئاً، فسيكون ذلك نهاية المحكمة».
«لدينا أدلة كافية لإصدار مذكرة توقيف ضد نتنياهو وغالانت».
ردود الفعل الدولية: من الدعم إلى الرفض
كانت أثار القرار مفاجئة للعالم، واقترنت تداعياته بردود فعل متباينة:
- دول داعمة: رحبت دول مثل جنوب إفريقيا وماليزيا وتركيا بالقرار، مؤكدةً على ضرورة تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني.
- دول أوروبية معارضة:
-
- الولايات المتحدة: وصفت القرار بأنه “غير بناء”، مشيرة إلى التزامها بحماية إسرائيل على الساحة الدولية.
- ألمانيا: رفضت القرار بحجة أن المحكمة قد تكون منحازة سياسياً.
- فرنسا: أبدت قلقاً من تأثير القرار على جهود السلام.
- المملكة المتحدة: اعتبرت أن الأولوية يجب أن تكون لاستئناف المفاوضات وليس التصعيد القانوني.
-
- الدول العربية: التزمت معظم الحكومات الصمت خوفاً من التبعات السياسية، باستثناء بعض الإدانات الرمزية.
- دولة الإحتلال الصهيوني: صرح رئيسها يتسحاق هرتسوغ قائلاً:
“الادعاء بأن جنود الجيش يرتكبون أعمال إبادة جماعية وتطهير عرقي ليس فقط خاطئاً ومنفصلاً تماما عن الواقع، ولكنه يضر أيضاً بجنودنا وقادتنا، وبالجهود الأمنية والسياسية لإسرائيل في أوقات الحرب، إنني أدين وأرفض تماماً”
قرار المحكمة ومواعيد المحاكمة
في تاريخ 21 نوفمبر 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق نتنياهو وغالانت، على أن تُعقد أولى جلسات المحاكمة في لاهاي بتاريخ 15 يناير 2025. أكد القرار مسؤولية المتهمين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لا سيما قصف المناطق المدنية واستخدام القوة المفرطة ضد المدنيين في غزة.
خاتمة: إرث دوفير وانتصار العدالة
شكل نجاح جيل دوفير في استصدار مذكرة الاعتقال لحظة فارقة في تاريخ العدالة الدولية، حيث أظهر أن القانون يمكن أن يكون أداة فاعلة لمواجهة قوى الظلم. لم يكن هذا الإنجاز مجرد انتصار للقضية الفلسطينية، بل رسالة أمل لجميع الشعوب المضطهدة حول العالم.
على الرغم من الضغوط السياسية الكبيرة، إلا أن المحكمة الجنائية الدولية أثبتت أنها قادرة على الوقوف بوجه القوى الكبرى. يبقى إرث دوفير شاهداً على أن السعي وراء العدالة يستحق كل تضحية.