المشهد السوري في العيون الأمريكية
في المشهد السوري المتحول، تفتح تصريحات المسؤولين الأميركيين نافذة على نقاش عميق بشأن مستقبل السلطة في دمشق. ليست كل المواقف متشابهة، ولا كل الأصوات متناغمة. ففي واشنطن، هناك من يرى في التغيير السوري لحظة يمكن التقاطها، وهناك من يراها بوابة فوضى جديدة لا يُستحب فتحها.
خارجية مرنة، وأمن قومي متوجّس
في تصريح لافت، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية “تامي بروس” إن بلادها “تأمل في رؤية سوريا شاملة وتمثيلية” في ضوء الإعلان عن حكومة انتقالية جديدة في دمشق. (المصدر: تصريحات رسمية لوزارة الخارجية الأميركية، نقلتها وسائل إعلام في مارس 2025)

هذا الخطاب، الذي بدا أكثر انفتاحاً، يعكس اتجاهاً داخل الخارجية الأميركية يرى في التحول السوري فرصة لتعديل التوازنات في المنطقة. لكن هذا الانفتاح مشروط، ومربوط بسلوك السلطة الجديدة ومدى التزامها بمعايير الحكم الرشيد، لا بمجرد إسقاط نظام الأسد.
نموذجان داخل البيت الأبيض
بينما تحاول الخارجية الأميركية الحفاظ على لغة دبلوماسية مرنة، جاء تصريح “سيباستيان غوركا“، كبير مستشاري الأمن القومي، مختلفاً تماماً. وصف غوركا السلطة الجديدة بأنها “امتداد لتنظيمات جهادية سابقة”، وأضاف أن رئيس الحكومة الانتقالية “ليس ديمقراطياً على طريقة جيفرسون”. (المصدر: مقابلة غوركا مع شبكة “ذا ناشيونال إنترست”، مارس 2025)
يبدو أن غوركا يمثل خطاً صارماً داخل الإدارة الأميركية، يربط أي تحوّل في دمشق بتهديدات أمنية محتملة. خطابه ليس رفضاً لعملية التغيير بحد ذاتها، بل تخوفاً من طبيعة البديل، إن كان يحمل في جوهره مشروعاً طائفياً أو دينياً مغلقاً.
الاعتراف المشروط: السياسة الأميركية تنتظر البرهان
لا تمنح واشنطن اعترافها لأي كيان سياسي جديد بناءً على النوايا. فكما تقول الكاتبة السياسية كارين دي يونغ في “واشنطن بوست”، فإن “الاعتراف يُبنى على اختبار واقعي، لا على وعود انتقالية”. (المصدر: The Washington Post، مقال بتاريخ 5 أبريل 2025)

ما يعني أن الشرعية من منظور العلاقات الدولية لم تعد ترتبط بالسيطرة على الأرض فقط، بل بمدى القدرة على تمثيل الشعب بطريقة عقلانية وتشاركية، وعلى إنتاج مؤسسات تعمل ضمن أطر القانون والمساءلة.
السلطة الانتقالية بين التطلعات والحقائق
ما يزال الواقع في الداخل السوري معقدًا. فوجود مقاتلين أجانب في البنية الأمنية، وغياب مسار عدالة انتقالية شفاف، وتضارب في المرجعيات السياسية والتشريعية، كلها تُبقي الحكم في سوريا أقرب إلى “الدولة الهجينة”، كما وصفها الباحث توماس كارديناس. (المصدر: Thomas Cardenas, “Hybrid States in Post-Conflict Regions”, Journal of Political Transitions, 2022)
هذه الهشاشة لا تُعطي الانطباع بأن سوريا على أعتاب استقرار، ولا تمنح المجتمع الدولي الثقة الكافية للاعتراف الكامل بالسلطة الجديدة.
الدين والدولة… فصل لم يتم بعد
من بين التحديات الأكثر وضوحاً، ما يتعلق بتداخل الدين مع مؤسسات الدولة. استمرار تدخل مجلس الإفتاء الأعلى، ووجود مجلس شورى دينيّ يؤثران على صنع القرار المحلي، يشكّلان عائقاً أمام بناء دولة مدنية فعلية.
كما أشار الكاتب هادي العبدالله في ورقة صادرة عن “مركز حرمون للدراسات المعاصرة“، فإن “أي مشروع وطني لا يمكنه الاستمرار إذا بُني على أساس تمييزي أو إقصائي ديني أو طائفي”. (المصدر: مركز حرمون، فبراير 2025)
وهنا تُطرح الأسئلة الكبيرة: هل تملك السلطة الانتقالية بصفتها صاحبة الإرادة السياسية الفصل بين المجالين؟ وهل تستطيع التحرر من البنى الموروثة عن النظام السابق، دون أن تقع في فخ نسخها بشكل مغاير؟
التمثيل الحقيقي أم الرمزي؟
التمثيل السياسي لا يعني وجود أفراد من طوائف مختلفة في الحكومة، بل ضمان مشاركة حقيقية في القرار، وتوزيع عادل للسلطة، وعدم تحويل الهوية الطائفية أو العرقية إلى أداة للمناورة السياسية.
وفي هذا السياق، يشير تقرير صادر عن “معهد كارنيغي للشرق الأوسط” إلى أن “أغلب التعيينات الحالية في الحكومة السورية الانتقالية تبدو رمزية، ولا تعبّر عن شراكة فعلية في اتخاذ القرار”. (المصدر: Carnegie Middle East Center، مارس 2025)
بين التصريحات والمواقف الفعلية
في نهاية المطاف، لا يمكن للسلطة السورية الجديدة أن تبني مستقبلها على التصريحات الإيجابية الصادرة عن بعض الأطراف الغربية. فكما أشار الباحث “ستيفن سايمون” المستشار السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي، فإن “اللغة الدبلوماسية قد تكون ناعمة، لكن السياسات تُبنى على الوقائع لا على المجاملات”. (المصدر: Foreign Affairs، مارس 2025)

وبالتالي، لا يمكن الرهان على الانفتاح الأميركي وحده، بل يجب تقديم نموذج سياسي مختلف، واقعي، ومدني، ليكون الرد العملي على المخاوف الدولية، والأهم، على تطلعات السوريين أنفسهم.
خاتمة: عندما لا يكون الزمن وحده كفيلاً بالحل
ليس الزمن وحده من يصنع التغيير. بل تلك الخيارات الصعبة التي تتخذها الشعوب في اللحظات الحاسمة، والقرارات التي تُبنى على وعي، لا على ردود الفعل. سوريا اليوم ليست بحاجة إلى مجرد إدارة انتقالية، بل إلى عقد اجتماعي جديد، يضع أسس المواطنة قبل الولاءات، ويقدّم الدولة على الجماعة.
الشرعية لا تأتي بالتمنّي، ولا بالخطابات. إنها تُصنع كل يوم، بالفعل، بالقانون والاعتراف بالآخر.
وما ينتظره السوريون ليس مجرد رفع علم جديد فوق مؤسسة قديمة، بل بداية حقيقية لحياة مختلفة.