الإصدار الزوبعة
أصدرت السلطة الانتقالية في سوريا التي تم تنصيبها بإجماع فصائلي مع بداية عام 2025، قراراً بتحديد إطار انتخابات مجلس الشعب، وهو ما أثار مخاوف واسعة لدى النخب السياسية والمثقفين ونشطاء حقوق الإنسان. حيث يرى كثيرون أن هذه الخطوة، رغم كونها جزءاً من مسار انتقالي، لكنها قد تؤسس لنظام تفردي يُعيد إنتاج نموذج “القائد الأوحد” ويهمش دور المؤسسات الدستورية والقانونية في سوريا.
ملامح تكتنفها الريبة
أحد أبرز ملامح هذا القرار هو إسناد مهمة تحديد ثلث أعضاء مجلس الشعب إلى لجنة الانتخابات وهو ثلث قادم على خلفية الإختيار، وليس الترشح والتصويت عبر صناديق الإنتخابات. لكن على افتراض أنهم “كتلة ضامنة“. في الواقع، يُنظر إلى هؤلاء الأعضاء على أنهم موظفون يخدمون أجندة السلطة التنفيذية، مما يمنحها وصف “كتلة معطلة وميسرة في آن واحد”. هذه الكتلة بطبيعتها، ستكون أداة في يد رئيس السلطة وأعوانه، حتى لو لم تكن النية الأصلية كذلك، فإن المنطق السائد يؤكد هذا الاحتمال. إذا كان الأمر خلاف ذلك، فعلى رئيس السلطة الانتقالية إذاً الانتباه لهذه الثغرة الخطيرة والعمل سريعاً على إلغاء فكرة وجود هذه الكتلة المعطلة والميسرة في آنٍ واحد.
تداعيات سلبية
يثير تحديد معايير قبول وإنتخاب المرشحين على أنهم فقط من “الأعيان والمثقفين” تساؤلات جدية حول التمثيل الحقيقي للمجتمع السوري. فهل لا يزال مفهوم “الأعيان” يحمل مدلولاته في سوريا اليوم، بعد خمسة عشر عاماً من الدمار والانقسام الاجتماعي والتشظي الأسري؟ هذا التحديد يقصر مقاعد البرلمان على فئة معينة، غالباً ما تكون مقربة من مراكز السلطة، ويحرم المجتمع من اختيار ممثليه الحقيقيين عبر صناديق الاقتراع. كما أن معيار “المثقفين” يفتقر إلى تحديد واضح، مما يجعله عرضة للتأويل الانتقائي.
الأعيان كمصطلح، هم الأشخاص ذوي النفوذ والسلطة: وهم غالباً من العائلات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة أو الثروة، ولهم تأثير كبير في شؤون المجتمع على المستويات المحلية أو حتى الوطنية. ومنهم الزعامات التقليدية: يمكن أن يكونوا رؤساء قبائل، أو شيوخ عائلات، أو وجهاء لهم كلمة مسموعة ومكانة معترف بها بحكم النسب أو الثروة أو التاريخ. وفي الحالة السورية القائمة، تعتبر هذه الشريحة -بأغلبيتها- ما يسمى (بطانة النظام الحاكم).
هذه المعايير تبدو وكأنها مسألة وظيفية، لا علاقة لها بآلية الانتخابات الديمقراطية. حتى لو كانت نواياها حسنة، فإن مآلها كارثي، لأنها تعيد سوريا إلى حقب متأخرة حيث كان القرار محصوراً بيد “البكاوات والعكايدية والإقطاعيين ومن ثم سلطات الطُغيان الأسدية”
يُظهر القرار أيضاً تجاهلاً واضحاً لوجود طبقة الحرفيين والعمال والفلاحين، الذين يشكلون شريحة واسعة ومهمة من المجتمع السوري. كما أنه يقفز عن ضرورة وجود ممثلين عن المفقودين والمعاقين والعاجزين من ضحايا الحرب والصراع في سوريا، الذين يستحقون تمثيلاً عادلاً يعكس معاناتهم واحتياجاتهم. علاوة على ذلك، أغفل المشرع دور السياسيين من شخصيات وأحزاب وتكتلات سياسية ومنظمات مجتمع مدني ونقابات أهلية، مما يدل على خلل كبير في رؤية بناء دولة حديثة وشاملة تعددية.
آهٍ يا سوريا!
سوريا تستحق أفضل من ذلك. لقد سقط حكم التفرد والقائد الأوحد، وعلينا التأسيس لحكم الدستور والقانون والمؤسسات، وليس العودة إلى الوراء. على السلطة الانتقالية، بوصفها سلطة وليدة جديدة، أن تنتبه للأخطاء الكارثية التي تقع فيها والتي قد تجلب المصائب والويلات للوطن الأم سوريا.
إن فكرة وجود مجلس الشعب أو البرلمان يجب أن تعبر عن كيفية الوصول إلى عقد اجتماعي جديد يتوافق عليه جميع السوريين، وتتقاطع فيه مصالحهم الحقيقية في اتجاه بناء دولة الدستور والقانون والمؤسسات. نريد جميعاً سوريا دولة وطنية تعددية تشاركية، حيث يكون القرار تشاركياً وليس أحادياً.
من نافلة القول “إن الدولة التي تبنى على قواعد الهيمنة والانفراد، هي كالهرم المقلوب؛ مهما علت، فإن أساسها الهش يهددها بالانهيار التام.”
في حسن الظن، نأمل أن يدرك السيد أحمد الشرع، الرئيس المُنصب للمرحلة الانتقالية، هذه المخاطر قبل فوات الأوان. على سوريا أن تتقدم إلى الأمام، وتتجنب هذه الأخطار وغيرها من الأمور المتعلقة حتى بكيفية توظيف وتعيين الشخصيات في الوزارات والقطاعات والمؤسسات والامكانيات. الكفاءات، الخبرات، الاختصاص، المهنية، التي في حال تجاهلها يمكن أن تكون فخاخاً وألغاماً، تأخذ سوريا نحو إنفجار إجتماعي حاد وخصوصاً أن لا شيء يتغير على أرض الواقع وخصوصاً الواقع المعيشي والحياتي اليومي للمواطنين.