مقدمة:
في ساحة هي الأرفع دبلوماسياً في العالم، وعلى منصة الأمم المتحدة التي يترقبها قادة العالم وممثلوهم، ألقى الرئيس “دونالد ترامب” خطاباً تجاوزت مدته 57 دقيقة. لكن بدلاً من أن يكون عرضاً للسياسة الخارجية أو رؤية للسلام العالمي، تحول الخطاب إلى ما وصفه النقّاد بأنه مجرد تكرار لخطاباته الانتخابية في الولايات المتحدة. لقد كان الخطاب، الذي أعلن فيه بفخر عن “عصر أمريكا الذهبي“، استعراضاً مصمماً لإثارة قاعدته الشعبية المعروفة بـ “ماجا” (MAGA)، أكثر منه محاولة لإقناع المجتمع الدولي.
وهم “صانع السلام”: فحص مزاعم إنهاء سبع حروب
في قلب خطابه، تفاخر ترامب بأنه “أنهى سبع حروب لم يكن من الممكن إنهاؤها“، مؤكداً أنه يستحق بجدارة جائزة نوبل للسلام. لقد قدم نفسه على أنه صانع سلام فريد من نوعه، قادر على حل الصراعات التي فشلت فيها المؤسسات الدولية، بما في ذلك الأمم المتحدة. ولكن فحصاً دقيقاً لهذه المزاعم، استناداً إلى تقارير موثوقة من وكالات الأنباء العالمية والمراكز البحثية، يكشف عن تضخيم مفرط للحقائق أو تلفيقها بالكامل.
- مصر وإثيوبيا: زعم ترامب أنه أوقف حرباً بين البلدين. لكن الحقيقة هي أن البلدين لم يكونا في حالة حرب أصلاً، بل كان هناك توتر دبلوماسي حول سد النهضة الإثيوبي الكبير. جهود الوساطة التي قام بها ترامب فشلت في النهاية، والنزاع لا يزال قائماً. وقد وصف الخبراء هذا الادعاء بأنه “مبالغة صارخة”.
- باكستان والهند: ادعى ترامب أنه أوقف الاشتباكات بين البلدين. ورغم وجود هدنة، إلا أن الحكومة الهندية نفت صراحة أن تكون واشنطن قد لعبت أي دور في التوصل إليها، مما يناقض مزاعم ترامب باستخدام الامتيازات التجارية كأداة ضغط. وأشارت تحليلات أخرى إلى أن الدور الأمريكي كان “بنّاء” ولكنه “لم يكن حاسماً” في إنهاء الصراع.
- إسرائيل وإيران: تحدث ترامب عن إيقاف حرب بين إسرائيل وإيران. بينما تم التوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار بوساطة أمريكية وقطرية بعد 12 يوماً من القتال ، إلا أن هذا جاء بعد قرار ترامب بقصف منشآت نووية إيرانية، وهو ما كان يمكن أن يتصاعد إلى حرب شاملة. يرى محللون أن هذه الهدنة كانت مجرد “استراحة مؤقتة” من “حرب باردة” مستمرة، وأن الصراع قد يشتعل مرة أخرى في أي لحظة.
- صربيا وكوسوفو: زعم ترامب أن البلدين كانا على وشك الدخول في حرب. لكن قادة صربيا نفوا وجود أي خطط للحرب، والعلاقات في المنطقة لا تزال غير مستقرة.
- أرمينيا وأذربيجان: في حين تم التوقيع على إعلان سلام في البيت الأبيض، أكد خبراء في السياسة الخارجية أن هذا الإعلان ليس “اتفاق سلام نهائياً”، بل هو خطوة أولى فقط في اتجاه الحل. رابط المصدر
- جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا: ادعى ترامب أن صراعاً بينهما انتهى في جلسة بالبيت الأبيض . لكن الحقائق تشير إلى أن معارك الميليشيات لا تزال مستعرة في المنطقة، والاتفاق الذي توسطت فيه الولايات المتحدة لا يزال “مهزوزاً وغير مستقر”.
- كمبوديا وتايلاند: ذكر ترامب أنه أوقف صراعاً مسلحاً. ورغم أن محادثات بوساطة أمريكية بدأت بالتزامن مع إعلان وقف إطلاق النار ، إلا أن هذا الاتفاق ثبتت هشاشته، حيث تبادل الجانبان الاتهامات بانتهاكه، مما أدى إلى المزيد من التوترات والاحتجاجات.
هذه المزاعم، التي تم تفكيكها بسهولة من قبل وسائل الإعلام الدولية، لا تمثل مجرد أخطاء عابرة في التقدير، بل هي جزء من استراتيجية أوسع. فمن خلال تصوير نفسه على أنه “صانع السلام” الوحيد، يهدف ترامب إلى تقويض دور الأمم المتحدة وتبرير سياساته الأحادية. إن ادعاءه بأنه حل صراعات “بدون أي مساعدة من الأمم المتحدة” هو هجوم مباشر على جوهر وجود المنظمة. هذا الأسلوب يخدم سردية “أمريكا أولاً” التي ترى في الولايات المتحدة القوة الوحيدة القادرة على حل المشكلات العالمية، مما يجعلها قادرة على تجاهل المؤسسات الدولية أو الانسحاب منها متى شاءت. رابط المصدر
| مزاعم ترامب | تقييم الصحافة الدولية (مثال: PolitiFact) | الحقائق المستندة إلى مصادر موثوقة |
| أوقف حرباً بين مصر وإثيوبيا | مضلل – مبالغة صارخة |
البلدان لم يكونا في حالة حرب فعليّة، بل نزاع على المياه. الوساطة الأمريكية فشلت. |
| أوقف حرباً بين صربيا وكوسوفو | مضلل – لا دليل على وجود حرب وشيكة |
قادة صربيا أنكروا وجود أي خطط حرب. العلاقة بين البلدين لا تزال متوترة. |
| أوقف حرباً بين الهند وباكستان | مضلل – دور غير حاسم |
الهند نفت أن تكون للولايات المتحدة أي علاقة بالهدنة. خبراء يصفون الدور الأمريكي بالبناء لا الحاسم. |
| أوقف حرباً بين إسرائيل وإيران | مضلل – هدنة مؤقتة |
الصراع كان هدنة لمدة 12 يوماً بعد قصف أمريكي لمنشآت إيرانية، لكن الصراع الأساسي لا يزال قائماً وقد يتجدد. |
| أوقف حرباً بين أرمينيا وأذربيجان | مضلل – ليس اتفاق سلام نهائياً |
تم توقيع إعلان سلام، لكنه لا يمثل اتفاقاً نهائياً. الصراع الأساسي لم يُحل بشكل كامل. |
| أوقف حرباً بين الكونغو ورواندا | مضلل – الاتفاق مهزوز |
الصراع بين الميليشيات ما زال مستمراً. الاتفاق الذي تم التوصل إليه يعتبر “مهزوزاً”. |
| أوقف حرباً بين كمبوديا وتايلاند | مضلل – فشل الاتفاق |
الهدنة التي تم التوصل إليها لم تصمد. البلدان تبادلتا اتهامات بالانتهاك وعادت التوترات الحدودية. |
أرقام مبالغ فيها ووعود فارغة:
حقيقة “المعجزة الاقتصادية” المزعومة
لم يقتصر خطاب ترامب على الشؤون الخارجية، بل امتد ليشمل الاقتصاد الأمريكي، حيث أصر على أن إدارته جلبت “$17 تريليون دولار” لخزينة البلاد، وأنها حققت “أقوى اقتصاد” في التاريخ. كما زعم أنه نجح في خفض أسعار البقالة وفوائد القروض العقارية، وأنه “هزم التضخم“.
شطح من الخيال
جدول (2): أداء ترامب الاقتصادي المزعوم مقابل البيانات الحكومية الأمريكية الرسمية
| مزاعم ترامب | الحقائق المستندة إلى بيانات حكومية رسمية | المصدر |
| إيرادات 17 تريليون دولار | إيرادات 4.92 تريليون دولار في السنة المالية 2024. |
وزارة الخزانة الأمريكية. |
|
هزيمة التضخم |
التضخم عند 2.9% ويرتفع باستمرار |
مكتب إحصاءات العمل |
| أداء اقتصادي غير مسبوق | ارتفاع معدل البطالة إلى 4.3% وتباطؤ خلق الوظائف |
مكتب إحصاءات العمل |
شيطنة الهجرة:
أسطورة “الملايين” المهاجرة وراءها أهداف سياسية
كانت الهجرة قضية محورية في خطاب ترامب، حيث قدمها على أنها تهديد وجودي للعالم الغربي. لقد زعم أن إدارة بايدن سمحت بتدفق “25 مليون” مهاجر غير نظامي إلى البلاد، وأن الكثير منهم “مُهربون من السجون والمؤسسات العقلية”. لكن هذه الأرقام والمزاعم تم تفنيدها بالكامل من قبل وسائل إعلام متخصصة في تدقيق الحقائق مثل PolitiFact التي وصفتها بـ “كذبة كاملة” (Pants on Fire). رابط المصدر
إن الادعاء بأن دولاً “تُفرغ سجونها” لإرسال مجرمين إلى الولايات المتحدة هو مثال صارخ على خطاب الكراهية. فوفقاً للبيانات الفيدرالية، فإن نسبة الأشخاص الذين لديهم سجلات إجرامية من بين المهاجرين الذين تم اعتقالهم منخفضة للغاية. إن هذه اللغة التي تجرد المهاجرين من إنسانيتهم ليست مجرد مزاعم خاطئة، بل هي أداة سياسية بحد ذاتها. فمن خلال شيطنة المهاجرين وتصويرهم على أنهم تهديد وجودي للمجتمع، يهدف ترامب إلى إثارة مشاعر الخوف وعدم الأمان لدى قاعدته الانتخابية.
هذه السردية الخطيرة لم تتوقف عند حدود الولايات المتحدة، فقد حث ترامب القادة الأوروبيين على أن يحذوا حذوه، زاعماً أن بلدانهم “ذاهبة إلى الجحيم” بسبب سياسات الهجرة. كما اتهم الأمم المتحدة نفسها بأنها “تمول هجوماً على بلدانهم” من خلال “أجندة هجرة عالمية“، على الرغم من أن دور المنظمة يقتصر على تقديم الإغاثة الإنسانية وتشجيع حق اللجوء. هذه السردية تستخدم الأكاذيب لبناء واقع موازٍ، حيث تصبح الهجرة وأجندة الطاقة النظيفة “وحشاً ذا رأسين” يدمر العالم الحر، ويضع ترامب نفسه في موقع المنقذ الوحيد.
إذا كانت الوقائع تشير إلى أن خطاب ترامب كان مليئاً بالأكاذيب، فإن السؤال الأعمق هو: لماذا؟ الجواب يكمن في فهم استراتيجيته التواصلية وخصائص شخصيته. فخطابه في الأمم المتحدة لم يكن موجهاً إلى القادة العالميين، بل كان موجهاً إلى جمهوره في الداخل. كان مجرد “خطاب حملة انتخابية” في ثياب رسمية. لقد أدرك الحاضرون هذه الحقيقة، فبينما كان الخطاب بمثابة “ثرثرة طويلة ومذلة” للقادة الأجانب، كان بمثابة “دليل ماجا” على طريقة ترامب، يلامس كل المواضيع التي تثير حماسة قاعدته الشعبية.
- التكرار: يكرر ترامب نفس المزاعم الكاذبة مراراً وتكراراً، حتى بعد أن يتم تفنيدها. هذه الاستراتيجية تستغل ما يسمى بـ “تأثير الحقيقة الوهمية” (Illusory truth effect)، وهي ظاهرة نفسية تجعل الناس يميلون إلى تصديق المعلومات الخاطئة إذا تعرضوا لها بشكل متكرر. رابط المصدر
- لغة بسيطة وحاسمة: يستخدم ترامب لغة بسيطة ومباشرة، ويعتمد على الألفاظ المطلقة مثل “دائماً” و”أبداً” لتبسيط القضايا المعقدة، مما يخلق عالماً ثنائياً يقسم الأمور إلى “أبيض” و”أسود”.
- “سيل الكذب السافر”: كما وصفه محللون، فإن ترامب يطلق سيلاً من الأكاذيب وبسرعة فائقة لدرجة أنها تُغرق آليات تدقيق الحقائق في وسائل الإعلام. وبدلاً من أن يفند الإعلام كذبة واحدة فقط، يصبح مطالباً بالتعامل مع عشرات الأكاذيب الجديدة، مما يشتت جهوده. هذه الاستراتيجية تعتمد على فكرة أن الحقائق لا تهم، وأن الهدف هو بث حالة من الفوضى المعلوماتية.
تفسر هذه الأساليب من خلال تحليل نفسي لشخصية ترامب، والتي يرى العديد من الخبراء أنها تظهر سمات اضطراب الشخصية النرجسية. فعندما يستخدم ترامب منصة دولية ليعرض مظالمه الشخصية القديمة، مثل فشله في الفوز بمناقصة لتجديد مبنى الأمم المتحدة ، فإن ذلك يؤكد أن خطاباته غالباً ما تكون مدفوعة بحاجة شخصية للسيطرة والإثبات بدلاً من الدوافع الدبلوماسية. إن خطاباته مصممة لإثارة “تحول عاطفي” في أتباعه من خلال استحضار مشاعر السيطرة والشجاعة، وتقديم نفسه على أنه القائد القوي الذي يقاتل ضد “النخبة الفاسدة“. هذا النمط السلوكي يظهر بوضوح في إصراره على أن “الخوف هو القوة الحقيقية” ، وفي سعيه الدائم لإرضاء غروره من خلال تأكيدات على أنه “الرجل الأول” الذي لا يمكن انتقاده.
ردود فعل العالم: صمت محرج وإدانة واضحة
لقد كان لخطاب ترامب غير التقليدي، بما فيه من كذب وتضليل، صدى واسعاً على الساحة العالمية. لم تكن ردود الفعل محصورة في الصدمة أو الاستغراب، بل تحولت إلى صمت محرج، وإدانة واضحة. فوفقاً لبعض التقارير، ساد الصمت قاعة الجمعية العامة، ووصل الأمر إلى حد سماع “الشهقات” من قبل بعض القادة الحاضرين. رابط المصدر
قد أعقب الخطاب انتقادات صريحة من زعماء دوليين:
- زعماء أوروبا: تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن ضرورة “إعادة روح التعاون” التي سادت قبل 80 عاماً، وندد بالحروب التجارية التي تضرب العالم، في تلميح واضح لسياسات ترامب. كما انتقد ماكرون وغيره من القادة الأوروبيين موقف ترامب من قضايا المناخ، خاصة بعد أن وصف ترامب التغير المناخي بأنه “أكبر خدعة في العالم“. رابط المصدر
- قادة من الجنوب العالمي: كان الرئيس البرازيلي لويز إيناسيو لولا دا سيلفا أكثر صراحة. ففي خطابه، وقبل خطاب ترامب مباشرة، وجه انتقادات لاذعة للنزعة الأحادية والتدخلات “التعسفية” في الشؤون الداخلية للدول، في إشارة لا تخطئها العين إلى ترامب. كما تحدث عن “أساطير الاستثنائية الأخلاقية للغرب“، واتهم القوى الكبرى بالتواطؤ في “المذبحة” في غزة بسبب صمتها. وقد لاقى زعيم إندونيسيا ترحيباً حاراً عند تأكيده على أن “القوة لا تصنع الحق، بل الحق هو ما يصنع القوة. لا يمكن لدولة واحدة أن تتنمر على الأسرة البشرية بأكملها“.
- أزمة غزة: اغتنم قادة من الشرق الأوسط، مثل أمير قطر وملك الأردن والرئيس التركي، منصة الأمم المتحدة للتعبير عن غضبهم من العدوان على غزة، وانتقدوا الدول الكبرى لعدم إيقافها الصراع.
- حلفاء سابقون: حتى وزير خارجية ترامب السابق ماركو روبيو انتقد صراحةً عجز الأمم المتحدة عن حل الأزمات، في إشارة إلى أن ترامب غير مهتم بالتوافق مع المؤسسات الدولية. لكن المفارقة كانت في لقاء ترامب مع الأمين العام للأمم المتحدة، حيث تحول موقفه فجأة ليعلن أنه “خلف الأمم المتحدة 100%“. هذا التناقض الصارخ يكشف عن وجود خطابين منفصلين: خطاب موجه للجمهور الداخلي وآخر موجه للدبلوماسية الدولية، وكلاهما يمكن أن يكون متناقضاً تماماً مع الآخر.
إن ردود الفعل العالمية تشير إلى أن قادة العالم لم يعدوا ينظرون إلى سياسات ترامب على أنها انحراف مؤقت عن المسار الأمريكي المعتاد. بل إنهم أصبحوا يدركون أن “أمريكا أولاً” هي تحول جوهري في السياسة الأمريكية، وأن عليهم أن يتأقلموا مع عالم لا يمكن فيه الاعتماد على واشنطن كمرساة للاستقرار الدولي. هذه الحقيقة أثارت تساؤلات حول كيفية عمل العالم في غياب قيادة أمريكية موثوقة، وأدت إلى البحث عن تحالفات جديدة قد تتجاوز الأمم المتحدة التي باتت عاجزة عن العمل بفاعلية. رابط المصدر
خلاصة: عندما ينهار الجدار الفاصل بين الواقع والخطاب السياسي
لقد كشف خطاب دونالد ترامب أمام الأمم المتحدة، بكل وضوح، عن استراتيجية سياسية تجاوزت الحدود التقليدية للكذب والمبالغة. فقد كان الخطاب عبارة عن أسطورة متكاملة، لا تهدف فقط إلى تضليل الجمهور، بل إلى تشكيل واقع بديل بالكامل. من مزاعم “إيقاف الحروب” التي لا أساس لها، إلى الأرقام الاقتصادية المضللة، وخطاب الكراهية المبالغ فيه ضد المهاجرين، أثبت ترامب قدرته على استخدام أعلى منبر دبلوماسي في العالم كمسرح لسياساته الداخلية.
لقد كان ترامب، في جوهر خطابه، يهاجم ثلاثة أسس أساسية لأي مجتمع مفتوح:
- الواقع الموضوعي: من خلال تكرار الأكاذيب وتفنيد الحقائق الرسمية، يعمل ترامب على تقويض الثقة في المؤسسات المستقلة مثل وكالات الإحصاءات الحكومية ووسائل الإعلام التي تقدم الحقائق. رابط المصدر
- المؤسسات الدولية: بتقديمه نفسه كـ “صانع سلام” وحيد وبفعاليته المزعومة، يهدف ترامب إلى إضعاف الأمم المتحدة ومؤسساتها، مما يمهد الطريق لسياسات أحادية الجانب وتجاهل للقانون الدولي.
- اللغة العقلانية: من خلال استخدام لغة بسيطة وعاطفية، يعمد ترامب إلى تخطي التفكير النقدي لدى الجمهور، ويغرق الخطاب العام بـ “سيل من الأكاذيب السافرة” التي تجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والتضليل.
إنَّ الأكاذيب التي وردت في خطابه ليست مجرد أخطاء عابرة، بل هي جزء من استراتيجية متكاملة لتقويض أي مصدر للحقائق بخلاف الشخص نفسه.
هذا النهج يمثل تحدياً خطيراً للدبلوماسية العالمية والمبادئ التي تأسست عليها المؤسسات الدولية. فبدلاً من أن يكون الحوار بين الأمم مبنياً على الحقائق المشتركة والمسؤولية الجماعية، أصبح الخطاب السياسي ساحة حرب لتضليل المعلومات، حيث ينهار الجدار الفاصل بين الواقع والخطاب. هذا التحول يجعل من المهم أكثر من أي وقت مضى أن يكون الجمهور مستعداً لتدقيق الحقائق، وأن تبقى وسائل الإعلام مستقلة وراصدة لهذه الظاهرة الجديدة في عالم السياسة.
خاتمة: عندما يتحوّل الخطاب إلى فخ، وتبقى الحقيقة هي السلاح الأخير
إن الخطاب الذي ألقاه دونالد ترامب أمام الأمم المتحدة لم يكن مجرد عرض للحقائق المشوهة والأرقام المبالغ فيها، بل كان إعلاناً صريحاً عن حرب على الواقع نفسه.
إنه يعتقد أنَّ الحقيقة مجرد مفهوم مرن يمكن تشكيله ليخدم مصالحه، وأنَّ الجمهور، سواء كان أمريكياً أو عالمياً، سيُصدّق أي شيء يُقال بثقة كافية وبصوت مرتفع بما يكفي.
هذا السلوك لا يهدد الديمقراطية الأمريكية وحدها، بل يضع أسس النظام الدولي بأسره على المحك. لقد رأى ترامب في منصة الأمم المتحدة مسرحاً لتصدير “أمريكا أولاً” إلى العالم، معتبراً كل دولة حليفة أو منظمة دولية مجرد أداة يمكن أن تخدم طموحاته، أو يتم التخلص منها إذا فشلت في ذلك. يريد من قادة وشعوب العالم أن يكونوا أشبه بـ “قطط خشبية تصطاد له دون أن تأكل“. هذه هي رؤيته: عالم يطيع أوامره، ويعمل لصالحه، دون أن يطالب بحصته من الفريسة.
إن الخطر الحقيقي لا يكمن في خطاباته فحسب، بل في قبولها أو تجاهلها. على قادة وشعوب العالم أن يضعوا النقاط على الحروف، وأن يدركوا أن الوحدة والتعاون الدوليين ليسا رفاهية، بل هما ضرورة للبقاء في عالم لا تعترف فيه القوة بالعقل. يجب ألا نُخدع بتكشير الأنياب الفارغة، بل أن نلتزم بالحقائق، ونتمسك بمؤسساتنا الدولية، وأن نرفض أن نصبح أدوات في لعبة لا هدف لها سوى إرضاء غرور شخصي. الحقيقة هي السلاح الأخير، وإعادة بناء الثقة في الحقائق هي الخطوة الأولى نحو عالم أكثر استقراراً وأماناً.







