بداية الرحلة إلى دير الزور
بعد أنْ تقطع مسافة 450 كيلومتراً من العاصمة دمشق، باتجاه الشمال الشرقي، تصل إلى مدينة دير الزور التي هي ثاني أكبر المحافظات السورية مساحةً بعد حمص – مساحتها نحو 33 كيلومتراً مربعاً وتشكل 17% من مساحة سورية.
لعلك لا تدري وأنت تقف على ضفاف نهر الفرات هناك، أنك تقف على مكامن الذهب الأسود (البترول) في تجاويف غائرة باطن الأرض – 40% من الثروة النفطية في سورية. تلك الثروة الباطنية التي كان ينهبها حافظ الأسد ووريثه بشار قبل أنْ خرجت عن سيطرته بعد اندلاع الثورة، ونشوب صراعات عليها بين “الجيش الحر” و”جبهة النصرة”، لما لها من عائدات مالية ضخمة، ومن ثمَّ سيطرت عليها تنظيم “داعش” بشكل كامل في 2014، لتصبح الممول الأضخم لعملياته، إذ أشارت تقارير اقتصادية أن التنظيم كان يربح ما لا يقل عن مليوني دولار يومياً من بيع النفط لجهات عديدة منها النظام عن طريق وسطاء. وليست بمفارقة أن تخضع هذ الثروة لسيطرة الأمريكات بعد أن أوكلوا إلى بعض ميليشيات الكردية حماية المصالح الأمريكية في استثمار تلك الآبار.
وإلى جانب آبار النفط، تبرز أهمية “دير الزور – درة الفرات” في مساهمتها بتزويد سورية بحوالي 30% من المحاصيل الزراعية، على رأسها القمح والقطن. إضافة إلى الصوامع والمحالج التي بنيت لخدمة هذة الموارد. وتتميز أيضاً بثروتها الحيوانية، كما توجد فيها صخور وعروق ملحية يستخرج منها الملح الصخري، إضافة إلى أنها تعتبر أضخم مصدرٍ للمياه العذبة، لوجود نهر الفرات إلى جانب أنهار أخرى كالخابور وينابيع وآبار.
ولربما لا تدري -أيضاً- أنَّ نَعليك تَطأ أرضاً خصبةً شهدت عبر تاريخها سلسلة من الحضارات السورية منذ بدايتها (مليون وأربعة مائة -حسب دراسات أركيولوجية بدأت منذ عام 1960 في الجنوب الغربي للمدينة، عند حوضة الكوم). وخير شاهد عليها هو تعدد المواقع الأثرية فيها، ومن أبرزها:
آثار مملكة ماري:
وهي إحدى ممالك الحضارات السورية القديمة والتي ازدهرت حوالي عام 2900 قبل الميلاد وأطلالها موجود حتى اليوم في تل الحريري، في محافظة دير الزور، سورية. كانت حضارة مزدهرة أنارت بتطورها وقوانينها وتجارتها العالم القديم. وكانت ماري عاصمة المملكة ذات دور هام في الطريق التجاري الذي يتبع مسلك الفرات في بلاد الشام. و فيها ميناء على نهر الفرات يربط هذا النهر بقناة مجهزة للملاحة النهرية واستقبال المراكب والسفن التجارية. وكان موقعه الجغرافي يربط ضفتي نهر الفرات كواصلة تتوسط المسافة بين شطري البلاد، مما عزز ازدهارها كحضارة متميزة بين أهم الحضارات القديمةفي المنطقة.
آثار مدينة الصالحيَّة (دورا أوروبس):
هي مدينة بابليّة أثرية سورية تقع في بادية الشام قرب دير الزور. تمتد حدودها على حوالي 1كم من الشمال إلى الجنوب، وحوالي 700 متر من مجرى نهر الفرات حتى حائط الصحراء أي حوالي الـ 50 هكتار وتضم أول كنيسة منزلية في العالم، ورسومات كنيس يهودي تعتبر الأجمل. وتقع قبور المدينة إلى الغرب في حين يوجد مباني خدمية ومكب للنفايات خارج بوابة تدمر وخارج أسوار المدينة.
في داخل سور المدينة، يوجد العديد من الآثار التي تم الكشف عنها، وهي تعود بمجملها للفترة الأخيرة من تاريخ المدينة وخصوصاً الحقبة الرومانية، حيث أن الرومان اعتنوا بها واعتبروها خط دفاع ونقطة حماية رئيسية. كانت المدينة خليط من السكان السوريين بشكل أعظمي ويشاركهم اليونان والفرس والرومان والبربر القادمين مع الجنود الرومان وحضارات الشرق الأقصى من خلال وقوعها على طريق الحرير. فيها ديانات عدة، بدءاً بالإله بعل وبعض الآلهة السورية المحلية، وأيضاً الآلهة اليونانية والفارسية والرومانية، واليهودية والمسيحية التي أنشئت في دورا أوروبوس أول كنيسة ويمكن القول بأن دورا أوروبس وخلال كل فترات وجودها كان يوجد فيها ما لا يقل عن خمس ديانات في آن واحد.
قلاع الرحبة:
على بعد40 كم عن مدينة دير الزور وبالقرب من مدينة الميادين تتربص قلعة الرحبة كي تدافع عن عراقة منطقة وادي الفرات.وقد أنشأت هذه القلعة على أنقاض مدينة رحبوت الآرامية،
ويشير تاريخها أنها بنيت منذ 2500 ق .م حيث سكنها في البداية الآراميون ثم العموريون والعرب و اﻷتراك السلاجقة، وبرزت كحاضرة على نهر الفرات على الساحة الدولية في العهد العباسي، وكان قمة ازدهارها في العهد الأيوبي. ومن تاريخها أنَّ الخليفة العباس المأمون اقطعها في عهده إلى “مالك بن طوق التغلبي” من أجل تطويرها لتكون مدينة تصل بلاد الشام بعاصمة الخلافة بغداد، فقام ببناء مدينة الميادين الحالية على الأطلال المتبقية من مدينة رحبوت الآرامية. وقد دعمت هذه القلعة في العهد الأيوبي، عندما اقطع نور الدين الزنكي لقائده أسد الدين شيركوه والي حمص آنذاك. كما توسعت القلعة بإضافة منشآت عمرانية أخرى على أسوارها.
حلبية وزلبية مدينتان توأم على الفرات:
حلبيّة كانت مدينة صغيرة وفيها قلعة وحصن أثري، تقع على بعد 58 كم شمال دير الزور على نهر الفرات شرق سورية. جاء ذكرها أول مرة في أيام الملك الآشوري آشور ناصر بعل الأول (حوالي 1149- 1131 ق.م)، وكانت حصناً للدول الآشورية ثم البابلية ثم الأرامية وللحضارات المتعاقبة في سورية، سيطرت عليها مملكة تدمر لفترة طويلة وكانت معبر التجارة التدمرية بين الشرق والغرب ومحطة وملجأ للتدمريين ابان الحروب التدمرية مع ماركوس أنطونيوس والامبراطورية الرومانية عام 41 ق.م، ويشمخ هذا الحصن ويمتد لمسافة كبيرة.و تقع لجهة الجنوب من نهر الفرات.
قبل أن تُنَّقِل خطواتك على ثرى دير الزور، يجب أن تتذكر ما قاله الشاعر عمر الخيام:
فكم تَوالى الليل بعد النهار
وطال بالأنجم هذا المدار
فامْشِ الهُوَيْنا إنَّ هذا الثَرى
من أعْيُنٍ ساحِرَةِ الاِحْوِرار
نعم … لقد خلقت تلك الأعين الساحرة تلك الحضارات التي سادت على تلك الأرض في الأزمنة الخالية.
ونلخص منها – للايجاز فقط – الفترة التي تلت استقرار إنسان الهومو-سابيان في هذه المنطقة بما يلي:
- العصر الحجري الحديث: يعود تاريخ استيطان دير الزور إلى الألف التاسع قبل الميلاد، حيث تم العثور على أدوات حجرية تدل على وجود حضارة متقدمة في ذلك الوقت.
- الحضارة الآشورية: سيطرت الإمبراطورية الآشورية على دير الزور في القرن التاسع قبل الميلاد، وبنت فيها العديد من المعابد والقصور.
- الحضارة البابلية: سيطرت الإمبراطورية البابلية على دير الزور في القرن السادس قبل الميلاد، وتركت وراءها العديد من الآثار، مثل بوابة عشتار.
- الحضارة الرومانية: سيطرت الإمبراطورية الرومانية على دير الزور في القرن الأول الميلادي، وبنت فيها العديد من الطرق والجسور والقنوات.
- الحضارة الإسلامية: دخلت دير الزور الإسلام في القرن السابع الميلادي، وشهدت المدينة ازدهاراً كبيراً في العصر الأموي والعباسي.
أما الغزوات التي شهدتها هذه المدينة، كان أهمها:
-
-
- الغزوات الرومانية: تعرضت دير الزور لغزوات رومانية متكررة في القرن الأول الميلادي، لكنّها تمكنت من الصمود أمام هذه الغزوات.
- الغزوات الفارسية: تعرضت دير الزور لغزوات فارسية متكررة في القرن السابع الميلادي، لكنّها تمكنت من الصمود أمام هذه الغزوات أيضاً.
- الغزوات المغولية: تعرضت دير الزور لغزوات مغولية في القرن الثالث عشر الميلادي، ودُمرت المدينة بشكل كبير.
- الغزوات العثمانية: سيطر العثمانيون على دير الزور في القرن السادس عشر الميلادي، وظلت تحت حكمهم حتى عام 1918.
-
أما حالها بعد أن شاركت المدينة في انتفاضة شعبها إلى جانب أخواتها من المدن السورية، لم يكن أحسن حالاً من الأخريات حيث تكالبت كل عصابات الأسد والمرتزقة عليها، ومن المراحل البارزة في تهافت الدول على دير الزور يمكن أن نلخصها ببعض الأحداث المفصلية في تاريخ نضالها:
بعد أعوام ثلاث من سيطرة مرتزقة “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام”، بدأت القوى المسلحة التسابق للسيطرة على هذه المدينة وحواضرها، خاصة قوات الأسد المدعومة إيرانياً وروسياً، والتي تحاول السيطرة على غرب الفرات بكامله، في الوقت الذي كانت فيه “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) تحاول بعد أنْ دعمتها قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا، السيطرة على أجزاء المحافظة الشرقية.
لم يكن هذا التسابق بسبب أهمية دير الزور الاقتصادية – فقط -، بل تعداه لأسباب جيوبوليتيكية تتعلق بكل طرف من أطراف التسابق. وفي قراءة لمجريات الأحداث، يتبين جلياً أنَّ النظام وحليفته روسيا وجدا فرصة لتوسيع مساحة السيطرة على الأرض يؤدي إلى تقوية الموقف التفاوضي المطروح دولياً على النظام مع المعارضة، ويسهل ما فرضه الحل الروسي في مفرزات مؤتمر أستانا الذي يمكن له ضمان بقاء الأسد في المرحلة الانتقالية. وهناك سبباً جوهرياً آخر، ألا وهو حاجة النظام وحليفه الروسي إلى عودة ثروات هذه المدينة لإلى السلة الإقتصادية المفلسة.
في الوقت نفسه، كان لعاب لإيران يسيل من شهيتها على السيطرة على دير الزور كي تكون طريقاً بديلاً عن معبر التنف الذي سيطرت عليه الولايات المتحدة، وذلك لتحقيق مشروعها الاستراتيجي بإنجاز وصيانة الكاريدور الشيعي الذي يصل طهران ببيروت ماراً بالعراق وسورية، خاصة لمجابهة المشروع الأمريكي لقطع الطريق على المشروع الإيراني في دير الزور بعد التنف وخصوصًا في منطقة البوكمال. ومن المعروف بشكل استراتيجي أنَّ دير الزور تشكل لأمريكا صلة الوصل بين مناطق نفوذها في سورية في الشمال الشرقي (مناطق الأكراد)، حيث توجد عدة قواعد أمريكية هناك كي تأمن العودة العسكرية الأمريكية للمنطقة فيما إذا انسحبت من العراق مستقبلاً.
بهذا التاريخ الطويل، يظهر أن دير الزور لم تكن مجرد مكاناً جغرافياً، بل كانت محوراً حضارياً شهد تبادل الثقافات والأفكار ونقلها عبر الأجيال. إن فهم أصول هذه المنطقة يسهم في فهم أعماق تاريخ البشرية وتطورها المستمر.
السياحة مقرونة باستتباب الأمن
لن تستطيع قدماك التي تقف عليها اليوم أن تتيح لك زيارة أهم المواقع السياحية في هذه المدينة بسبب الوضع الغير آمن هذه الفترة. ولكنَّ بمجرد توفر السلم الأهلي واستقرار الحياة الآمنة، يمكنك زيارة أهم المعالم السياحية هناك، ومنها.
1. قلعة دير الزور القديمة:
تعتبر قلعة دير الزور القديمة واحدة من أبرز المعالم التاريخية في المدينة. تمتاز القلعة بتصميمها الفريد الذي يعكس العمارة العسكرية في العصور الوسطى. تُستخدم القلعة كشاهد على التحولات التاريخية التي شهدتها المنطقة، وقد تعرضت للتأثيرات المختلفة خلال فترات الحروب والغزوات.
2. الكنائس القديمة:
تعد الكنائس القديمة في دير الزور مرآة للفترات التاريخية المختلفة التي عاشتها المنطقة. تحمل هذه الكنائس آثار العصور الوسطى والفترات البيزنطية، مما يجعلها مواقع تاريخية غنية بالتراث. يعكس التصميم المعماري للكنائس جمالاً فريداً وتعقيداً فنياً.
3. الأثار الأثرية:
تنتشر العديد من الآثار الأثرية في أنحاء دير الزور، مثل المعابد والهياكل الأثرية التي تعود إلى الحضارات القديمة. وتعمل هذه الآثار على إضفاء طابع تاريخي خاص على المنطقة وتسهم في فهم الحضارات التي ازدهرت فيها.
4. البيوت التاريخية:
تحتضن دير الزور القديمة مجموعة من البيوت التاريخية التي تعكس طابع العمارة التقليدية في المنطقة. تتنوع هذه البيوت بين المنازل السكنية والأماكن العامة، وتحتفظ بسمات تصميم فريدة تعكس حياة السكان في الماضي.
وخلال زيارتك لمدينة دير الزور سوف تتعرَّف أيضاً على:
الحياة الثقافية في دير الزور:
1. المهرجانات السنوية:
يُعَدُّ الحياة الثقافية في دير الزور ملونة وحيوية بفضل المهرجانات السنوية التي تُقَام. تكون هذه المهرجانات فرصة للاحتفال بالتراث الثقافي من خلال العروض الفنية والمعارض الفنية. يشهد السكان والزوار تجمعات اجتماعية تتألق ما بين البهجة والرقي الثقافي.
2. الفنون التقليدية:
تُعتَبَرُ الفنون التقليدية جزءاً لا يتجزأ من حياة دير الزور. تشمل هذه الفنون الحرف اليدوية التقليدية مثل النسيج والخياطة والنحت، والتي يتم توريثها من جيل إلى جيل. يُظهر الفنانون المحليون مهاراتهم في الأعمال اليدوية، مما يُسهم في إبقاء هذه التقاليد حية.
3. الموسيقى والأدب:
تتميز دير الزور بتراث موسيقي غني، حيث تلعب الموسيقى دوراً مهماً في التعبير عن الهوية الثقافية. يمكن رؤية الحفلات الموسيقية التقليدية والفرق المحلية وهي تحيي اللحظات الفريدة في المدينة. بالإضافة إلى ذلك، تحتضن دير الزور أيضاً فعاليات أدبية تعزز محبي الأدب والقراءة.
4. المأكولات التقليدية:
تُعتبر المأكولات التقليدية جزءاً لا يتجزأ من الحياة الثقافية في دير الزور. تشمل هذه المأكولات تنوعاً من المأكولات الشهية التي تعكس التراث والتقاليد الغذائية للمنطقة.
ختامًا .. المُستقبل المُشرق آتٍ لا مَحالة:
على الرغم من التحديات الصعبة والمعقدة، التي تواجه دير الزور، خاصة الأوضاع الأمنية السياسية وكذلك الاقتصادية، لكنَّ سكان المدينة يظلون قويين ومصممين على مواجهة هذه التحديات وبناء مستقبل أفضل. وعليهم بذل الجهود لإعادة تطوير البنية التحتية وتعزيز الاقتصاد المحلي، وذلك بإطلاق المشاريع الصناعية والبنية التحتية تلعب دوراً رئيسياً في خلق فرص العمل وتحسين مستوى المعيشة. وينظر سكان المدينة أنَّ الحرص على ترميم التراث التاريخي ستكون له أولوية في تعزيز التطوير الاقتصادي. وعندها ستعود المدينة إلى خلق تلاقي الماضي والحاضر برونقه الجديد، كي تصبح حكايتها التي لا تنسى حقيقة تربط بين تاريخها الغني وتحدياتها الحديثة، وتظل مكاناً استثنائياً يستحق الاكتشاف والاحترام.