ثمة ظاهرة مرضيَّة عالميَّة تنتشر رائحتها الآسنة بين الفينة والأخرى، وأحياناً يشتد أوارها لكنها لا تلبث أن تتقهقر، وتعود إلى حجمها الطبيعي المتقزم، ألا وهي داء العنصرية، فماهي العنصرية؟
العنصرية هي الأفكار والمُعتقدات والقناعات والتَّصرفات التي ترفع من قيمة مجموعة معينة أو فئة معينة على حساب الفئات الأخرى، بناءً على أمور مورّثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم، وتعتمد في بعض الأحيان على لون البشرة، أو الثقافة، أو مكان السّكن، أو العادات، أو اللغة، أو المعتقدات.
كما أنّها يُمكن أن تعطي الحق للفئة التي رُفع شأنها بالتحكّم بالفئات الأخرى في مصائرهم، وكينونتهم، وسلب حقوقهم، وازدرائهم بدون حق أو سبب واضحٍ، ويكون الهدف منها محاولة التفوق على الآخرين.
تعدُّ العنصرية أحد أسباب الفتنة، وأبرز أسباب الحروب والتفرقة، وهي من أشد الأمراض فتكًا بالمجتمعات، ولم يخلُ عصر من العصور منها، إذ تُعتبر رفضًا جذريًّا لمجموعة من الأشخاص، واستثناء من ناحية أخرى.
أسباب العنصرية
لا بد من أسباب تقف وراء إثارة العنصرية، أو دَعنا نسميها مُحفزات النَفْس العنصري، والتي تشعل هذا السلوك في النَفْسِ البشرية، إذ يمكن أن نستعرض منها:
- التفاخر بالأنساب والطعن فيه.
- الفروق المادية،الجهل وعدم الوعي بمفهوم العنصري.
- مشاكل نفسية كالغرور والتكبر.
- اختلاف اللغة.
- الطمع والجشع والاستغلال.
- بعض الممارسات الموروثة المتعلقة بالعقيدة والفكر والثقافة.
كل هذه الأسباب، وغيرها، يمكن أن تثير خصال العنصرية في النفس البشرية، وتختلف آثارها باختلاف الظروف التي تنشأ فيها، ويمكن استعراض أمثلة شتى على نتائج هذه الأسباب، منها النازية، ومنها العبودية… كما يمكن جرّ العديد من الأمثلة المعاصرة كالشعور بالنقص عند بعض الأفراد الذين ليسوا من أصل البلد وإنما جاءوا مهاجرين ولاجئين في يوم من الأيام.
تركيا اليوم
تتوجه أنظار العالم في هذه الأيام إلى الجمهورية التركية التي يرتفع فيها منسوب العنصرية بشكل مفرط، علماً أنها دولة مسلمة، والدين الإسلامي يناهض هذه الظاهرة بشدة، و الحقيقة أن المجتمع التركي والساسة الأتراك منشطرون إلى علمانيين وقوميين لا يرون إلا تركيا في الدنيا، وبين إسلاميين معتدلين منفتحين يرون أن تركيا جزء من المجتمع الدولي ويجب أن تتفاعل معه، بقبول اللاجئين والمهاجرين وفق القوانين الدولية السارية على جميع البلدان.
إن انتشار هذه الظاهرة في دولة نامية مثل تركيا لم تعرف طريقها إلى التطور والتقدم إلا منذ ربع قرن تقريباً يثير الانتباه، ويجعل المرء في حيرة وعجب، فقبل خمسة عشر عاما لم يكن أحد من الناس يولي وجهه شطر تركيا لا بطريقة شرعية نظامية ولا بغيرها؛ لأن تركيا ليست سوقاً للعمل، وليست منهلاً للعلم، فالشعوب العربية على سبيل المثال إذا أرادت نيل الشهادات والعلم توجهت إلى أمريكا أو أوربا، وإذا أرادت العمل توجهت إلى دول الخليج.
ولكن ما الذي جعل الشعوب الإسلامية والعربية تتوافد إلى تركيا زرافات ووحدانا؟
إنه الربيع العربي الذي حوَّله أعداء الحرية والعدالة والديمقراطية إلى خريف بل إلى جحيم يتلظى.
لقد شعرت الشعوب العربية أن لها الحق في العيش بحرية وكرامة على غرار الشعوب الأخرى بعد أن جثم على صدورهم الطغاة والمستبدون عشرات السنين، فخلعت ثوب الخوف، ورأت أن الفرصة قد أصبحت سانحة، ثم انفجرت في وجه طغاتها، ولكن العالم بأسره خذلها وساند جلادها، وأمده بالمال والسلاح كي يدمر شعبه، فما كان من الشعوب إلا أن تفرقت شذر مذر، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من دخل غيابة المعتقلات، ومنهم من فرّ من السلاح الفتاك الذي سُلط عليه. ومن الطبيعي في كل الحروب أن يلجأ الناس – ولاسيما الأطفال والنساء والشيوخ – إلى الدول المجاورة.
مآسي الثورة السورية
وبما أن الثورة السورية كانت أشد وطأة من جميع الثورات التي حصلت، فقد بقي سفاح سورية جالسا على كرسيه فوق ركام مئات الآلاف من الجماجم، في حين أن جميع الشعوب العربية قد تخلصت من حكامها الذين انتفضت عليهم – مع أنهم للأسف لم يحققوا ما أرادوا بسبب الثورات المضادة – فما كان من الشعب السوري إلا أن توجه إلى دول الجوار – لينجو من براميل الأسد – مثل لبنان والأردن، والعراق. وتركيا التي هي محور حديثنا.
فقد كان نسبة الذين توجهوا إلى تركيا من حيث العدد النسبة الأكبر بين دول الجوار أما من ناحية النسبة والتناسب فالعدد يمكن أن يكون أقلها، فمثلا الذين توجهوا إلى لبنان يمكن أن يقدروا بنصف سكان لبنان، أما الذين توجهوا إلى تركيا فأعدادهم تقارب الأربعة ملايين، وعدد سكان تركيا يزيد على الخمس والثمانين مليون نسمة، أي أن نسبتهم ضئيلة، ولا ننسى أنه كان هناك ترحيب وتشجيع كبير من القيادة آنذاك، للتوجه إلى تركيا.
لجوء السوريين
بعد أن حطّ اللاجئون السوريون رحالهم في تركيا على نيَّة العودة القريبة إلى سورية بعد التخلص من النظام القائم الذي كان وراء لجوئهم، تغيرت المعادلات الدولية، وثبت النظام أقدامه، بدعم من الأنظمة المستبدة الشريرة التي على شاكلته، فما كان من اللاجئين إلى أن انبروا إلى ميادين العمل في تركيا كي لا يكونوا عالة على الحكومة والشعب، وفعلا اندمجوا بالمجتمع وراحوا يكسبون المال بعرق جبينهم.
ولكن يبدو أن هناك أجساماً سياسية متطرفة لم يرق لها هذا الأمر ورأت أن هؤلاء اللاجئين يهددون كيانهم السياسي، فهم مهزومون في صناديق الاقتراع، وهؤلاء السوريون أقرب إلى حزب العدالة والتنمية في نهجهم، فراحوا يتحدثون بصراحة وبعيداً عن التعريض والتورية، أن هؤلاء سيغيرون الديموغرافية التركية، أي سيجعلون كفة التنمية والعدالة ستزداد رجحاناً، مما دفع بهم لإعلان الحرب على أولئك المساكين، وشرعوا في مراقبتهم، ورصد حركاتهم وسكناتهم، حتى وصل بهم الأمر لمراقبة طعامهم وشرابهم ودوائهم، وبدأت تُنسَج القصص والروايات عن السوريين، بأنهم يعيشون أفضل من الأتراك وأن الدولة تقدم لهم كل شيء مجاناً، وكان على رأس أولئك الحاقدين العنصريين رئيس حزب ما يسمى بـ (ظفر) المدعو أوميت أوزداغ.
ولد "أوزداغ" في طوكيو - اليابان عام 1961، حيث كان والده يعمل مستشاراً للحكومة التركية هناك. درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد في جامعة "لودفيغ ماكسيميليان" في ميونيخ قبل أن يكمل درجة الماجستير في التنمية الاستراتيجية التركية ومؤسسات التخطيط الحكومية.
لقد تجاوز هذا الفاشي المتطرف جميع المعارضين في حقده وكرهه وتحريضه ضد السوريين لدرجة أن حصلت حوادث قتل بين شبان سوريين وأتراك كانت آراءه وراءها، كل أهداف حزبه وبرامجه تنصب حول طرد السوريين ولو إلى الجحيم، وهو في الحقيقة يسعى إلى إرسالهم لمقصلة مجرم العصر بشار – الذي بزّ هتلر وستالين ونيرون وكاليجولا…وكل الطغاة في سفكه للدماء – وعلى الرغم من أن أوزداغ يزعم أنه بروفيسور فمعظم إن لم أقل كل حكاياته وقصصه عن السوريين هي افتراء وكذب، بل وقلب للحقائق أحياناً.
ومن نافلة القول أنْ نذكر بعضها:
نشر أوميت أوزداغ، رئيس حزب (الظفر) المعادي للاجئين، تغريدة قال فيها:
إنه بينما كان نائب رئيس الجمهورية يتحدث ظهر في البث المباشر شخص سوري يسرق هاتف أحد عمال الإطفاء أثناء عمله في رفع الأنقاض. وبعد وقت قصير نشر الشخص المتهم فيديو يوضح فيه أنه مواطن تركي يعمل في وقف الديانة، ولم يسرق هاتف عامل الإطفاء، ليقوم أوزداغ بحذف تغريدته دون أي اعتذار، مع استكمال نشر افتراءات أخرى تتهم السوريين بالقيام بعمليات نهب وقتل واغتصاب في مناطق الزلزال.
- أنكر هذا الفاشي المتطرف أنَّ السوريين اضطروا لترك منازلهم بسبب القصف العنيف الذي نفذه نظام أسد وحليفته موسكو عليهم.
- قال في مقابلة: “لم يأت السوريون إلى تركيا لأن منازلهم قُصفت، بل قصفوا لكي يأتوا إلى تركيا”.
- -نشر تغريدة زعم فيها بوجود برنامج لتزويج التركيّات بالأجانب تدعمه وزارة الداخلية.
أما القائمون على برنامج “هاروموني” المعني بتحسين صورة اللاجئين ودعم الانسجام المجتمعي في تركيا، أصدروا بياناً يوضّح حقيقة الأمر، بصفتهم الجهة المنظّمة له. هذا وقد نفى البيان صحة مزاعم “أوزداغ” بوجود أي تعاون بين البرنامج التابع لمنبر منظمات المجتمع المدني، وبين وزارة الداخلية.
“هاروموني” أكد على أن فعالياته تهدف لـ “تحقيق تكيّف اللاجئين وطالبي اللجوء والأجانب في المجتمع، وتمكينهم من المرور بمرحلة الاندماج بشكل إيجابي، وتصحيح المفاهيم المغلوطة المنتشرة بحقهم، ومكافحة سوء تفسير المعلومات المتعلقة باللاجئين بما لا يتعارض مع مصلحة الدولة التركية.
لقد وصل الأمر بهذا الفاشي المتطرف للتوجه مرة للحدود التركية السورية
ومحاولة زرع ألغاماً لكي يقتل كل من حاول العبور إلى تركيا.
علاج العنصرية ومناهضتها:
لا تعد ظاهرة العنصرية بالأمر المستعصي والذي لا يمكن علاجه، ولكن في الحقيقة هي تتطلب جهداً عظيماً من قبل الأفراد والمجتمعات والسلطات كذلك، وقد حدث وتخلصت بعض الأمم من تلك الآفة الضارة وتمكنت من النجاح في علاجها، ويمكن اقتراح سرب من الحلول لعلاج ومناهضة العنصرية، لعل أهمها:
-
على الحكومات أن تحاول تضييق دائرة الخلافات بين القبائل، وبين الفصائل المختلفة في المجتمع.
-
على الحكومات أن تتغلب على العنصرية من خلال تطبيق مبدأ العدل والمساواة بين أبناء المجتمع.
-
للإعلام دور كبير جداً في التأثير على المجتمع، وعلينا أن نحرص أن يكون هذا الدور إيجابياً في نبذ العنصرية والتمييز.
-
فرض عقوبات على من يثير الفتن والنزاعات بين أبناء المجتمع الواحد.
-
تلعب تقوية الوازع الديني في نفوس الأفراد أحياناً دوراً جيداً في نبذ العنصرية.
-
تعتبر الأسرة النواة الأولى في المجتمع، لذا يتوجب عليها زرع أفضل القيم في نفوس أبنائها، وتربيتهم على حب الآخرين، ونبذ التفاخر واحتقار الآخرين.
-
يقع على عاتق المؤسسات التعليمية والجامعات والمدارس دور كبير في توعية الجيل الجديد وتثقيفهم وزرع الأفكار الصحيحة في عقولهم ونفوسهم.
-
لمنظمات حقوق الإنسان دور كبير في هذا المجال أيضاً، وذلك من خلال عقد الدورات التثقيفية ونشر الكتيبات التوعوية حول أهمية المساواة ونبذ الفتنة والعنصرية والتمييز بجميع أشكاله.
كما ذكرنا آنفاً، فإن العنصرية التي نالت من كثير من المجتمعات، لم تتمكن من المجتمعات التي عملت على إيجاد حلول حقيقية تخلصها من عواقب هذه الظاهرة، ما مكّنها بعد ذلك من بناء أمجاد عتيدة، بعد أن آمنت بالمساواة في الحصول على الفرص، وأيقنت أن التفوّق ليس حكراً على فئة واحدة، فصهرت جميع الإمكانات المتوفرة في أبنائها لترسم أجمل صور التكافل والتكاتف في الطريق إلى الحضارة.
الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري
نذكر طرفاً من هذه الاتفاقية ونسلط الضوء عليه لأن ما جاء فيها جدير بالنظر والتأمل فيه إذا ما توفرت الجهود الصادقة والنيات الحسنة لتطبيقه.
إن الدول الأطراف في هذه الاتفاقية، إذ ترى أن ميثاق الأمم المتحدة يقوم على مبدأيّ الكرامة والتساوي الأصيلين في جميع البشر، وأن جميع الدول الأعضاء قد تعهدت باتخاذ إجراءات جماعية وفردية، بالتعاون مع المنظمة، بغية إدراك أحد مقاصد الأمم المتحدة المتمثل في تعزيز وتشجيع الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للناس جميعا، دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين.
وإذ ترى الأمم المتحدة أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يعلن أن البشر يولدون جميعا أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وأن لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المقررة فيه، دون أي تمييز لا سيما بسبب العرق أو اللون أو الأصل القومي، وإذ ترى أن جميع البشر متساوون أمام القانون ولهم حق متساو في حمايته لهم من أي تمييز ومن أي تحريض على التمييز، وإذ ترى أن الأمم المتحدة قد شجبت الاستعمار وجميع ممارسات العزل والتمييز المقترنة به، بكافة أشكالها وحيثما وجدت.
الأمم المتحدة والتمييز العنصري
وترى أن إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري الصادر في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1963 (قرار الجمعية العامة 1904 (د-18) يؤكد رسميا ضرورة القضاء السريع على التمييز العنصري في جميع أنحاء العالم، بكافة أشكاله ومظاهره، وضرورة تأمين فهم كرامة الشخص الإنساني واحترامها.
وإيمانا من الأمم المتحدة بأن أي مذهب للتفوق القائم على التفرقة العنصرية مذهب خاطئ علمياً ومشجوب أدبياً وظالم وخطر اجتماعياً، وبأنه لا يوجد أي مبرر نظري أو عملي للتمييز العنصري في أي مكان، وإذ تؤكد من جديد أن التمييز بين البشر بسبب العرق أو اللون أو الأصل الاثني يشكل عقبة تعترض العلاقات الودية والسلمية بين الأمم، وواقعا من شأنه تعكير السلم والأمن بين الشعوب والإخلال بالوئام بين أشخاص يعيشون جنبا إلى جنب حتى في داخل الدولة الواحدة.
وقد تجلى إيمان هذه المنظمة بأن وجود حواجز عنصرية أمر منافٍ للمثل العليا لأي مجتمع إنساني، وإذ يساورها شديد القلق لمظاهر التمييز العنصري التي لا تزال ملحوظة في بعض مناطق العالم، وللسياسات الحكومية القائمة على أساس التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية مثل سياسات الفصل العنصري أو العزل أو التفرقة.
وقد عقدت الأمم المتحدة على اتخاذ جميع التدابير اللازمة للقضاء السريع على التمييز العنصري بكافة أشكاله ومظاهره، وعلى منع المذاهب والممارسات العنصرية ومكافحتها بغية تعزيز التفاهم بين الأجناس وبناء مجتمع عالمي متحرر من جميع أشكال العزل والتمييز العنصريين.