يشهد الشرق الأوسط حالياً إرهاصات سياسية وحراكاً دبلوماسياً بدأ واضحاً مع الهجوم على غزة بالتوازي مع قصف الأسد لمناطق ادلب دون أي مسوّغ سوى استغلال تأييد دول العالم ما تقوم به دولة الكيان الصهيوني للقضاء على الشعب الفلسطيني بدءاً من غزّة وانتهاءً بالضفة الغربية وعرب 1948 مستقبلاً. لذلك أراد الأسد أن يوائم بين المسألة الصهيونية والمسألة السورية.
مما يثير العديد من التساؤلات، حول العوامل والتداعيات التي تقف وراء هذه التسارع المفاجئ في تغيير مواقف العديد من دول المنطقة، بخصوص العلاقة الاستراتيجية المستجدة مع النظام السوري بشكل يناقض ما كانت عليه سابقاَ خلال العقد الذي مضى. لذلك تبنى الأسد ما يسمى (الحلُّ الصفريُّ المطلق).
لقد فشلت كل محاولات الأنظمة العربية الأخيرة أنْ تبدّل مسار النظام السوري كي ينخرط في المسار الدبلوماسي العربي، وإعادة نظام الأسد ليتبوأ مقعد سوريَّة الشاغر في الجامعة العربية. لكنْ ورغم حضور بشار الأسد القمة العربية في جدة، لم يجنِ العرب إلا مزيداً من الخيبة بعد الكثير من الجدل والنقاش مطبقاً نظرية الحل الصفري المطلق.
يعتقد البعض بوجود علاقة بين هذا التحول ومخاوف النظام السوري من قانون مكافحة “الكبتاغون” الأمريكي المنتظر تطبيقه الحازم في الأيام القادمة، وبدأت بوادره بعد قيام الطيران الحربي الأردني بعملية القصف الأخيرة لمواقع في جنوب سوريَّة، بحجة مكافحة تجارة المخدرات، لكنَّ بعض التحليلات المعمقة أفادت بأنَّ هذه التصعيد الميداني جاء للتصدي على نفوذ إيران على الحدود الجنوبية السورية، وفي سياق متصل، تتابع تحليلات أخرى لتشير إلى أن الأنظمة العربية تقوم بجذب النظام السوري إلى ما يمكن وصفه بمصيدة، من خلال إعادته للانضمام إلى الجامعة العربية.
وباختصار، يمكن أن نصف محاولات الأنظمة العربية بأنها هرولة ثابتة في المكان نفسه. ويمكن أن نعزوها إلى الموقف الأمريكي / الغربي الذي أفصح عن عدم رضاه على إعادة دمج النظام السوري إقليمياً، ومن ثمَّ انكشف وجود هوّة ماتزال قائمة بين الولايات المتحدة وبعض أقرب شركائها في الشرق الأوسط. ومما يؤكد ذلك ما ورد في تقرير نشرته صحيفة “Washington Post” الأمريكية “أن الفجوة ماتزال كبيرة جداً بين جميع الأطراف الحاضرة، حتى ان الأسد ظهر محاولاً خلال خطابه في الجامعة الضغط على الجهات العربية لتخفيض مطالبها، التي تنتظر تنازلاً منه مقابل إعادته إلى محيطه العربي، وعليه أنْ يُظهر مرونة ملموسة ورغبة في قبول تقديم تنازلات تفضي إلى حلول ناجعة في المسألة السورية، ولكن القمة شهدت تكراراً معتاداً في مضمونها ونتائجها، باستثناء بعض الأصوات التي نادت من بعيد بتطبيق القرار الأممي رقم / اضغط هنا 2254/، الذي ينص على حل سياسي في سوريَّة”.
لقد أصبح يقيناً، أنَّ ما يجري اليوم هو تهافت بعض الدول الإقليمية، وخاصة العربية، بالبحث عن مصالحها المنفردة، من خلال تعاملها مع نظام الأسد، وحماية نفسها من شرور النظام وأذرع ايران في المنطقة. أما التنازلات المطلوبة من الأسد عسيرة التحقيق، لأنَّه يطبق استراتيجية مبدأ المماطلة واللعب على الوقت، وإغراق الآخرين بالتفاصيل، وهو ما نسميه بـ”الحل الصفري المطلق” ، وشاهدنا على ذلك تأكيدات الأسد على التلفزة بعدم وجود نيّات لديه لإجراء أي تغيير جذري او تقديم أي تنازلات ولو طفيفة. وأصبح بيد قادة العالم ورقة خضراء لتمرير مصالحها مستندة إلى ثبات الأسد على عدم تقديم أية تنازلات ستؤدي إلى زواله.
جاءت الأحداث الحالية مواتية لبقاء الأسد مكابراً يتصرف، كعادته، بنهج سياسي لا يعير أهمية للأخلاق، يعتمد على كسب الوقت لحين تغير الظروف والمصالح. بينما الدول العربية، خاصة الخليجية، تبقى سياستها قصيرة النفس. ولكنْ من يقرأ المشهد الحالي بدقة، لا بُدَّ أن يستشرف أنَّ باطن الأمر ليس كظاهره، وأنَّ النظام السوري ما زال مهدداً وإطالة الوقت ليس في صالحه. وأن الخارطة الجيوسياسية للمنطقة ككل، ستتغير جذرياً، ولن يكون فيها وجود للأسد بسبب ضرورة إسناد سورية لقيادة سوريَّة يتوافق نسيجها مع المعطيات المستجدة.
وكخاتمة، إنَّ ما يجري الآن هو استنفار بعض الدول العربية بتحصين أنفسهم ضد شرور أذرع النظام السوري وإيران، ومحاولة تجنبها، وتحقيق مصالح دولهم، ولن يستفيد النظام من المساومة والابتزاز حتى لو حصل على بعض المنافع الآنيّة مقابل أوراق يتخلى عنها في مرحلة قادمة، لكن دون جدوى وليست منقذة له.
لقد وقع الأسد دون أن يتوقع في مستنقع رمال أحداث غزّة المتحركة مثلما وقع حلفاؤه التقليديون أيضاً.