تاريخ سورية الحديث سَطَرَّ في طياته العديد من الشخصيات الوطنية البارزة التي قدمت التضحيات من أجل الحرية والاستقلال. واحدة من تلك الشخصيات البارزة هي فوزي الغزي .. أبو الدستور السوري، والذي لطالما ترك بصمة قوية في تاريخ سورية. ورغم مساهماته في نضال تحرير الوطن، إلا أنَّ الجدل والغموض المحيط بوفاته المبكرة ورأي المجتمع فيه، ما زالت خفيَّة يَعوزها التحقق والاستقصاء.
البدايات والتعليم
ولد فوزي الغزي في دمشق، وسط المدينة القديمة (حي العقيبة)، التي شكلت مشهدًا مهمًا في حياته. تلقى تعليمه الأولي في مدارس دمشق قبل أن ينتقل إلى المعهد الملكي العالي في الآستانة لمتابعة دراسته في مجال الحقوق. كان هذا الفترة من حياته هي البداية التعليمية التي ساهمت في تشكيل رؤيته وفهمه للقضايا الوطنية. وفي فترة لاحقة، درس القانون الدولي في معهد الحقوق في دمشق. وزاول مهنة في المحاماة بنجاح وكفاءة.
شهدت حياة فوزي الغزي تحولًا هامًا بعد الحرب العالمية الأولى (1914). خدم في صفوف الجيش العثماني وشارك في القتال في مناطق مختلفة مثل القفقاس والعراق. وبعد تتويج الأمير فيصل بن الشريف حسين في مبنى البلدية في ساحة المرجة بدمشق يوم 8 مارس 1920 ملكاً لما سمي آنذاك “المملكة السورية العربية”، كدولة تشمل كل أراضي سورية العثمانية (سورية الطبيعية أو بلاد الشام – سوريا ولبنان والأردن وفلسطين التاريخية والأقاليم السورية الشمالية ولواء اسكندرون) . تولى فوزي الغزي مناصب حكومية بارزة فيها. شغل مناصب قائم مقام راشيا وحاصبيا على التوالي، ثم عين أمينًا لسر وزارة الداخلية. خدم الغزي في هذه المناصب بامتياز وساهم في تنظيم الأمور الحكومية في وقت صعب من تاريخ سورية. ودام ذلك حتى أنهيت المملكة العربية السورية في أعقاب معركة ميسلون والاحتلال الفرنسي لسورية والبريطاني لسورية الجنوبية (فلسطين والأردن)..
دوره في الثورة السورية الكبرى
انتسب فوزي الغزي أبو الدستور السوري إلى حزب الشعب، الذي أُسّس في حزيران 1925، وهو أول حزب سياسي عرفته البلاد في ظلّ الانتداب الفرنسي.
كان الحزب برئاسة الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد رموز الحركة الوطنية في سورية، وكان أمين السر فيه هو المحامي إحسان الشريف، شريك فوزي الغزي في مكتب المحاماة بدمشق.
آنذاك، طالب الحزب بتحرير البلاد من الحكم الفرنسي وتوحيد الأراضي السورية التي قُسّمت على يد الفرنسيين. لكن وبعد أسابيع قليلة من إنشاء الحزب، انطلقت الثورة السورية الكبرى ضد حكم الانتداب، بقيادة سلطان باشا الأطرش، فانضم إليها جميع قادة الصف الأول من حزب الشعب، وكان في طليعتهم فوزي الغزي.
عمل فوزي على تأمين السلاح إلى ثوار غوطة دمشق، فألقي القبض عليه، وسيق مكبلاً مهاناً إلى سجن أرواد، ومن ثمّ فرضت عليه الإقامة الجبرية في منفاه بمدينة الحسكة. تسبب اعتقاله وتعذيبه بتراجع حاد في صحته بالرغم من صغر سنه، وتساقطت أسنانه من بعدها، ليظهر في جميع الصور المتوفرة له مُبتسماً ابتسامة خفيفة، لا يضحك أبداً.
بعد خروجه من المعتقل مع نهاية الثورة عام 1927، عُرضت عليه حقيبة الداخلية في حكومة وفاق وطني شكّلها الداماد أحمد نامي، ولكنه رفض وفضّل العودة لممارسة المحاماة والتدريس.
الدستور .. بصمة الغزي
دستور عام 1928
انضم فوزي الغزي أبو الدستور السوري إلى الكتلة الوطنية فور تأسيسها، ودعا لتفعيل النضال السياسي ضد الفرنسيين، بدلاً من العسكري، كما طالب الثوار بإلقاء سلاحهم مقابل إنهاء الانتداب بطريقة سلمية وقانونية. وفي عام 1928 فاز الغزي بمقعد في المجلس التأسيسي المنتخب والمكلّف بصياغة أول دستور جمهوري للبلاد. انتُخب هاشم الأتاسي رئيساً لهذا المجلس، وعُيّن الغزي رئيساً ثانياً له. وخلال الحملة الانتخابية، قاد الغزي مظاهرات كبيرة في دمشق ضد الفرنسيين، ما أدى لاعتقاله مجدداً لبضعة أيام.
كان فوزي الغزي هو العقل القانوني في اللجنة الدستورية التي أنجزت أعمالها بأسبوعين، معلنة عن جاهزية دستور مؤلف من 115 مادة، معظمها مستلهم من الدساتير الأوروبية العصرية. جاء في خطابه أمام المجلس التأسيسي:
“الأمم لا تموت أيها السادة، إلا إذا أراد لها أبناؤها هذا الموت. والشعوب لا تفنى إلا إذا أراد لها الفناء أهلها. فامشوا أيها السادة على سنن الكون إذ أردتم الحياة، واستسلموا إلى الخنوع والخضوع إذا أردتم الموت”.
أسس الدستور الجديد لنظام رئاسي وبرلماني في سورية، مع انتخابات تشريعية ورئاسية، حُدّدت فيها ولاية رئيس الجمهورية بأربع سنوات. أصرّ الغزي على عدم ذكر الانتداب في أي مادة من مواد الدستور، كيلا يعطي الفرنسيين أي شرعية في سورية، كما حدد جغرافية الجمهورية السورية بحدودها الطبيعية مع فلسطين، الأردن ولبنان، في إشارة إلى عدم اعترافه بالحدود المصطنعة التي فرضت على سورية، عبر اتفاقية سايكس-بيكو المبرمة بين حكومتي فرنسا وبريطانيا سنة 1916. وأخيراً أعطى الدستور الجديد رئيس الجمهورية السوري المنتخب، بدلاً من المفوض السامي الفرنسي، حق إعلان السلم والحرب وإبرام الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
اعترضت المفوضية الفرنسية العليا في بيروت على ست مواد من الدستور، منها حدود سورية الطبيعية، صلاحيات رئيس الجمهورية وعدم الاعتراف بشرعية الانتداب، وطالبت بتعديلها أو شطبها، ولكن الأتاسي والغزي رفضا هذا الطلب وقرّرا طرحه على التصويت، لكي يكتسب شرعية من الشارع السوري. غضب المفوض السامي من هذا التحدي وقام بحل المجلس وبتعطيل العمل بالدستور إلى أجل غير مُسمّى.
تفاصيل تستحق الوقوف عليها
- كان ضابطا في الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى. و حارب في القفقاس والعراق.
- اختارته حكومة الملك فيصل قائم مقام راشيا وحاصبيا على التوالي. ومن ثم عين أمينا لسر وزارة الداخلية. بعد الاحتلال الفرنسي لسورية.
- نفي إلى الحسكة مع سعد الله الجابري ووزراء حكومة الداماد أحمد نامي بيك المستقيلين (فارس الخوري وحسني البرازي ولطفي الحفار). وبعدها نفي إلى لبنان.
- وانتخب نائباً عن دمشق في 24 نيسان 1928 التي كان اسمها “الجمعيه التأسيسيه”. وعمل مع أقرانه المنتَخَبين أمثال إحسان الشريف، لطفي الحفار، فخري البارودي، فوزي البكري، فايز الخوري، تاج الدين الحسيني، عبد القادر الخطيب، أحمد اللحام، سعيد الغزي، زكي الخطيب.
- كلفت “الجمعيه التأسيسيه” لجنه برئاسة إبراهيم هنانو وضع دستور لسورية، وكان فوزي الغزي مشرفاً بشكل رئيسي على صياغته،.
- احتوى الدستور على (115 مادة). لكنَّ فرنسا حاولت تغيير 6 مواد منها، مستعينه برئيس الوزراء تاج الدين الحسيني. ولكن نواب سورية رفضوا ذلك. ويعود الفضل الرئيس في كتابة دستور البلاد لفوزي الغزي ورفيقه فايز الخوري.
- وبفضل حرفية الغزي وتحرُّقه الوطني، أتم انجاز الدستور خلال خمسة عشر يوماً فقط.
- وافقت الجمعية على مسودة الدستور المؤلف من 115 مادة.
- رفض الغزي التدخل الفرنسي بالدستور السوري بشكل قاطع.
- استمر الغزي مدافعا عن الدستور مستعينا بثقافة دستورية قل نظيرها، مع رفاقه النواب الذين حملوا إجازة الحقوق. أغلب رجال الاستقلال السوريين كانوا يحملون إجازة في الحقوق والإدارة من الآستانة.
- ومن أبرز المحاور التي ركز عليها الغزي هي:
سورية دولة مستقله ذات سياده (لا يجوز السماح باقتطاع أي جزء من أراضيها).
-
- الحرية الشخصية مصونه ولا يجوز توقيف أحد او حبسه إلا في الأحوال المحدده في القانون.
- كل شخص أوقف أو حبس يجب ابلاغه خلال 24 ساعه بالأسباب التي دعت إلى توقيفه وإعلامه بالسلطه التي أمرت بذلك، ويجب في المده ذاتها أن يعطى كل التسهيلات للدفاع عن نفسه.
- التعذيب الجسدي ممنوع .
- أماكن العبادة ومرابع التعليم والمنازل السكنية لها حرمتها، فلا يحوز دخولها إلا في الأحوال المبينه في القانون.
- حرية الفكر مكفولة، ولكل مواطن له الحق في التعبير عن فكره بالقول والكتابة والخطابة والتصوير.
- المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية مكتومة ومصونة من كل مراقبة.
لذلك استحق فوزي الغزي أن يطلق عليه الشعب السوري (أبو الدستور).
وفاةُ يكتنفها الغموض
في مساء الخامس من حزيران 1929، دخل أحد شباب الكتلة الوطنية إلى مكتب مديرها المسؤول، أديب الصفدي، قادماً من غوطة دمشق. وقال مرتجفاً: “فوزي بك مات… قتلوا فوزي الغزي…” كان “فوزي بك أبو الدستور” .
لم يكن الغزي قد تجاوز الثانية والثلاثين من عمره حينها، قد عُثر عليه مسموماً في منزله الصيفي بريف دمشق. الجميع أيقن أن الجريمة كانت سياسية بامتياز. وقد كُلّف مدير الشرطة بهيج الخطيب بالتحقيق في جريمة الغزي، وتبين له لدى تشريح الجثة أنه مات مسموماً بسمّ زعاف.
التحقيقات الأولية بينت أنَّ زوجة الغزي الشابة كانت على علاقة عاطفية مع ابن شقيقه رضا، وكانا قد استأجرا منزلاً في حيّ الشعلان المشيّد حديثاً يومها، للاجتماع سراً. من هنا اتفق العاشقان على التخلص من الغزي والسفر سوياً إلى استانبول للزواج، بعيداً عن المجتمع الدمشقي وألسنته. قام رضا الغزي بشراء حبتين من السم من صيدلي في حيّ العمارة، قال إنه يحتاجها لقتل كلب مسعور.
في يوم الجريمة كانت العطلة القضائية في سورية، حيث قام فوزي الغزي أبو الدستور السوري بأخذ زوجته وابنته الوحيدة إلى مزرعته في غوطة دمشق. جرّبت الزوجة السمّ على كلب المزرعة فمات فوراً، فقرّرت إعطائه لزوجها الذي كان يشكو من إسهال شديد، فقدمت له الحبّة على أنها دواء للإسهال، فقتل إثرها متأثراً بالسمّ.
تم اعتقال الزوجة والعشيق مع الصيدلي الذي باعهم السمّ، وحكم عليهم بالإعدام، قبل أن يتم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد، بطلب من المفوض السامي الفرنسي غابريل بونسو. وقد ورد في كثير من المراجع التاريخية أن الزوجة ظلّت في السجن حتى عام 1949، عندما أطلق سراحها بعفو خاص من حسني الزعيم، صاحب الانقلاب الأول في سورية. ولكن الحقيقة أنها خرجت من السجن عند قصف دمشق وقلعتها التاريخية من قبل الفرنسيين يوم 29 أيار 1945.
جنازة فقيد الوطن
خرجت جنازة مهيبة لفوزي الغزي، حُمل فيها نعشه على الأكتاف وطاف به المشيعون شوارع مدينة دمشق، رافعين رايات كبيرة كُتب عليها:
“مات أبو الدستور، فليحيا الدستور!”.
رثاه فارس الخوري بقصيدة طويلة جاء في مطلعها:
“يبكيكَ أحرار سورية وأنت أخٌ / ويبكيكَ دستور سورية وأنت أبُ”.
وفي أولى جلسات المجلس النيابي بعد رحيله، طالب نائب دمشق، فخري البارودي، بالوقوف دقيقة صمت حداداً على روح فوزي الغزي، وعلى دستور سورية الذي تمّ إجهاضه، ومات صاحبه قبل أن يراه نافذاً، مطبّقاً ومحترماً من قبل الجميع.
جنازة فوزي الغزي
جرت جنازة فوزي الغزي أبو الدستور السوري في 6 تموز 1929، وهي جنازة كبيرة شهدتها دمشق وحشد هائل من الناس لوداع هذا البطل. كانت العراضات تسير في شوارع المدينة والأهالي يهتفون بالحزن والفخر “هللي بدموعك سورية وكل البلاد العربية“. كانت هذه الجنازة تجسد وحدة وتلاحم الشعب السوري في مواجهة محنة فقدان أحد أبنائهم في سن مبكرة.
وقد أبنَّه وجهاء المجتمع واصفين الغزي بلقب “أبو الدستور” ومن هذه العبارات:
“فقدنا في فوزي الغزي رمزًا للنضال والحرية. كان دستوره هو درعنا ضد الاحتلال والتدخل الأجنبي”. حزب الشعب السوري.
“كان فوزي الغزي شخصًية وطنية بارزة، وإرثه سيظل حية في قلوب السوريين. إنه كان مؤسسًا للحرية والعدالة في سورية”. مجموعة السياسيين السوريين.
“فوزي الغزي لم يكن فقط رجلاً وطنيًا، بل كان رمزًا للمثالية والتفاني. لقب بـ ‘أبو الدستور’ لأنه كان يحمل دستور سورية في قلبه”. ممثلوا الجمعيات الوطنية.
“فوزي الغزي كان يمثل مفهوم الوفاء للوطن. إنها خسارة كبيرة لسورية وللعالم العربي بأسره”. ممثلوا المثقفين والصحفيين
الختام:
فوزي الغزي أبو الدستور السوري ليس مجرد سردية لشخصية تاريخية، بل هو رمز يجسد النضال والحرية في سورية، لأنَّ حياته وإرثه رسخت تضحيات الأبطال من أجل مبادئهم وقضيتهم. لذلك ينبغي على الأجيال السورية كافةً الاستفادة من تاريخه والتمسك بالقيم والحقوق التي يمثلها الدستور والتي كان يدافع عنها بشجاعة. ورغم استمرار الجدل والغموض المحيط بوفاته، يبقى تاريخ فوزي الغزي أبو الدستور محفزًا للسوريين للمضي قدماً في النضال من أجل سورية الحرية والكرامة والعدالة.