حرب حزيران1967 الجزء 4 / 5
تنويه: عند استيقاء مصادر هذا المقال، كان ثمة خطر الوقوع في فخ الانحياز الهوياتي (الايستوريوغرافي Historiography) لكاتب المعلومة، لذلك جهدنا في اخضاع المعلومات الواردة في المقال للمقاربة بغية الوصول إلى المصداقية والموضوعية. وأعطينا أولوية لدراسة خطاب المؤرخين بشأن الوقائع التاريخية كما هي، وليس دراسة الآخرين للوقائع التاريخية نفسها، حيث يبقى الهدف المأمول هو اقتناص المعلومة التي وردت في أكثر المراجع والمصادر ذات الشأن. كما حرصنا على اختزال الكثير من التفاصيل تجنباً للاستطراد غير المستحب في هذا النمط من المقالات.
الأحد 11 حزيران 1967 (اليوم السابع)
أصدر وزير الدفاع السوري حافظ الأسد بلاغاً يختلف محتواه عمّا سبَقه من بلاغات، جاء فيه:
"خلال المعارك القاسية التي جرت بين قواتنا الباسلة وقوات العدوان الإستعماري الثلاثي، حاول العدو اختراق خطوط دفاعنا الأولى أكثر من مرة، بكل ما يملك من أسلحة وطيران متفوق، وكانت قواتنا تصدُّ تلك الهجمات المتكررة وتقصف مواقع العدوّ منزلة بها الدمار، ... لقد قاتل جنودنا الأشاوس بضراوة نادرة، وصمدوا أمام تفوق العدو الآلي وغارات طيرانه الكثيف المتلاحق دون انقطاع، مما أكدَّ بشكل قاطع أنَّه لدول العدوان الثلاثي، وليس لإسرائيل فقط"."... لقد دافع جنودنا الأشاوس عن كل قطعة من أرض الوطن ببسالة منذ بدأ العدوان. ولكنَّ القوى غير المتكافئة بيننا وبين العدو الثلاثي، خاصة الطيران الغزير، مكَّن العدو من اختراق خط دفاعنا الأول في القطاع الشمالي في محاولة لتطويق قواتنا. ولقد قاومت قطعاتنا هذه الخطة بوعي وأحبطتها، ولم تمكن العدو من تنفيذ خطته, وقاتل جنودنا قوات العدوان الثلاثي المتفوقة ببسالة لم يشهد لها مثيل، وهم يتمركزون الآن في خط الدفاع الثاني متحفزين لاستعادة كل شبر من أرض الوطن".
- ناطق عسكري إسرائيلي: قال اليوم إن القوات الإسرائيلية قد استولت على منطقة واسعة من الأراضي السورية خلف الجبهة.
- مجلس الأمن الدولي: عقد اجتماعاً ليلياً بناء على دعوة مستعجلة من سورية التي قالت إن القوات الإسرائيلية لا زالت تتقدم في سورية.
- الدكتور جورج طعمة مندوب سورية: قال: إن القوات الإسرائيلية تحركت إلى الشرق والجنوب من رافد (والصواب أنها رفيد) وقال إن هدفها كان الاستيلاء على منابع نهر اليرموك.
- إسرائيل: نفت الشكوى، وأعلنت إنَّ تحركات الآليات تمت في نطاق خطوط وقف إطلاق النار وليس وراءها (لقد حددت إسرائيل خط وقف القتال على هواها).
- مجلس الأمن: استمع إلى تقرير من الجنرال “أودبول”، جاء فيه “… أن دبابات إسرائيلية شوهدت تتحرك إلى الشرق ثم إلى الجنوب من تقع إلى الجنوب الغربي من رافد (والصواب أنها رفيد). وقال أيضاً:”… إن إسرائيل قد أسرت عدداً من ضباط الاتصال السوريين، ولكنها قالت فيما بعد إن ستة من هؤلاء الأسرى قد أعيدوا إلى سورية”.
- أندرو ويلسون المراسل الحربي لجريدة “الأوبزرفر”: كتب يصف الحرب، في مقال طويل جاء فيه: “… إن النصر الإسرائيلي كان النصر المخطط الأكثر دقة منذ اجتياح جنود هتلر لفرنسا عام 1940، وقال إن الإسرائيليين اعتمدوا في ذلك على أن القوات العربية ليست تحت قيادة موحدة، وأن الأحداث أكدَّت صحة هذا الاعتقاد”. كما قال:”
“.. وعلى الجبهة الشمالية مع سورية، تحققت نبوءة المخططين الإسرائيليين، وكانت عمليات القوات السورية محدودة جداً، فلم يقم السوريون بأية عمليات جدية، لمساعدة المصريين في الخروج من المأزق الذي وقعوا فيه، وانحصرت مساعيهم في هجومات محلية على مستعمرتي حدود إسرائيليتين”.
الاثنين 12 حزيران 1967 (اليوم الثامن)
- جريدة “الثورة السورية” كتبت: “.. كان يمكن أن تكون نتائج المعركة أعظم بكثير لو توافر تنسيق أوسع للاستراتيجية العربية ورافق ذلك توزيع أدق للقوات”. وأردفت متذرعةً:”… كان من المفروض أن تعمل في الصحراء قوى خفيفة وسريعة الحركة مهمتها الضرب والانسحاب، على أن يركز العمل الهجومي من الحدود الأردنية، وتبقى المهمَّة الرئيسيَّة في الصحراء وعلى الجبهة السورية هي الدفاع وإشغال العدو”. وأضافت الجريدة: “… أن الوطن العربي كله يجب أن يتحوّل إلى ثكنةٍ مدربةٍ بأقصى سرعة… و أنَّ القتال الذي دار في القنيطرة بين القوات السورية المعززة بقوات الجيش الشعبي وبين القوات الإسرائيلية، يفوق قتال ستالينجراد وبورسعيد”.
- جريدتا البعث والثورة ووصفتا ذلك القتال، بأنه أشرف قتالٍ عرفه التاريخ الحديث.
إسرائيل تمنع الدخول إلى منطقة المرتفعات السورية (الجولان) إلا بإذن خاص، وصرح الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي “إنَّ من يدخل المنطقة يعرِّض حياته للخطر لأنها زرعت في هذه المناطق الألغام.
الثلاثاء 13 حزيران 1967 (اليوم التاسع)
جريدة الثورة السورية الرسميَّة قالت: ” إن أهم نصر حصل عليه العرب في حربهم مع إسرائيل، هو تلك الاندفاعَّة الثوريَّة التي امتدت من المحيط إلى الخليج”.
الأربعاء 14 حزيران 1967 (اليوم العاشر)
رئيس الدولة السورية الدكتور نور الدين الأتاسي ، أذاع بياناً باسم القيادة القوميَّة لحزب البعث العربي الاشتراكي دعا فيه إلى:
-
- “… استئصال الوجود السياسي والاقتصادي لبريطانيا والولايات المتحدة والدول الأخرى التي ساندت إسرائيل في العالم العربي”.
- وأضاف في بيانه: “… وقد استجابت سورية للقرار بعد وقف القتال في سيناء –يقصد قرار وقف إطلاق النيران –نتيجة لذات الظروف القاسية”.
- وقال أيضاً: “إنه اتضح بما لا يقبل الشك أن الطيران الأمريكي والبريطاني دخل المعركة مع الطيران الإسرائيلي ضد سورية”.
رئيس دائرة أسرى الحرب في الجيش الإسرائيلي “البريجادير صموئيل إيال”، قال:
-
- إن إسرائيل تأمل تبادل 5499 أسيراً عربياً مقابل 16 جندياً إسرائيلياً أسروا خلال الحرب الأخيرة.
- وادعى أن في المعسكرات الإسرائيلية 4،500 أسير مصري و487 أردني و333 سوري بالإضافة إلى 179 من الأسرى الجرحى الذين يعالجون في المستشفيات الإسرائيلية.
- وأضاف أيضاً أن بين الأسرى المصريين 300 ضابط بينهم تسعة برتبة جنرال.
- أما الأسرى الإسرائيليين: تسعة منهم في أيدي المصريين واثنان في كل من العراق وسورية والأردن وواحد في لبنان.
الاثنين 19 حزيران 1967 (اليوم الحادي عشر)
- إن الإسرائيليين تغلبوا على خطوط الدفاع السورية التي تبدو غير قابلة للاختراق، حيث قاموا بالدوران حولها، والسيطرة عليها من الخلف.
- وقال: إنهم استخدموا الطريق التي كان الجميع يظن أنَّه لا يُمكِن اجتيازها، وهي الوادي الضيق الذي يمر شرقاً من مستعمرة دان، الذي يمر فيه نهر بانياس.
- وقال أيضاً: أنَّ الوادي لم يكن محمياً إلا من قبل لواء واحد وقليل من المدفعية، وقد اجتاحها الإسرائيليون خلال الليل ثم استولوا على مواقع المدفعية على مهل.
السبت 24 حزيران 1967 (اليوم الثاني عشر)
“اليوم الذي جعل الجولان أسيراً”
- الساعة 9.30 السبت 10 حزيران 1967، أعلن وزير الدفاع حافظ الأسد البلاغ العسكري رقم 66، وهذا نصه:
"إن القوات الإسرائيلية استولت على القنيطرة بعد قتال عنيف دار منذ الصباح الباكر في منطقة القنيطرة ضمن ظروف غير متكافئة، وكان العدو يغطي سماء المعركة بإمكانات لا تملكها غير دولة كبرى . وقد قذف العدو في المعركة بأعداد كبيرة من الدبابات واستولى على مدينة القنيطرة على الرغم من صمود جنودنا البواسل. إن الجيش لا يزال يخوض معركة قاسية للدفاع عن كل شبر من أرض الوطن كما أن وحدات لم تشترك في القتال بعد قد أخذت مراكزها".
- مع ان الوثائق الرسمية كلها، العربية والعبرية، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك ان القنيطرة سيطر عليها الجيش الاسرائيلي على الاقل بعد يوم من الاعلان المذكور.
- سنكتفي في هذا المقال بذكر ثلاث شهادات تثبت أنَّ هنالك لغز لم يتم حلَّه حتى اليوم، كما أننا سنخصص مقالة أخرى نشرح فيها هذا اللغز الغمض الذي أضاع الجولان السورية.
- “كنت في جولة تفقدية في الجبهة وفي مدينة القنيطرة بالذات عند إذاعة بيان سقوط القنيطرة، وظننت أن خطأً قد حدث، فاتصلت بوزير الدفاع حافظ الأسد وأخبرته أن القنيطرة لم تسقط ولم يقترب منها جندي واحد من العدو وأنا أتحدث من القنيطرة، ودهشت حقًا حين راح “حافظ أسد” يشتمني شتائم مقذعة ويهددني إن تحدثت بمثلها وتدخلت فيما لا يعنيني. فاعتذرت منه وعلمت أنها مؤامرة وعدت إلى دمشق في اليوم الثاني وقدمت استقالتي…”.
- “وصلنا للقنيطرة من دون أي عائق تقريبًا… كان هناك غنائم في كل مكان حولنا. كل شيء كان لا يزال يعمل. محركات الدبابات لم تتوقف، معدات الاتصال لا تزال في وضع العمل، وقد تم التخلي عنها. سيطرنا على القنيطرة دون قتال”.
- “خان راديو دمشق جيشه بإعلان سقوط مدينة القنيطرة قبل حوالي يومين من سقوطها. ذلك التقرير المتحدث عن استسلام مركز قيادتهم حطم معنويات الجنود السوريين الذين بقوا في منطقة الجولان”.
- أصدر وزير الإعلام السوري “محمد الزعبي”، البلاغ 67 الذي سميَّ (البلاغ الترقيعي 67) الذي برر فيه سبب صدور البلاغ 66.
- كما صرح الوزير الزعبي في مؤتمر صحفي رفض سورية للصلح مع إسرائيل، وقال:
-
- “… إن سورية خسرت في المعركة 20 ضابطاً و125 جندياً. وقد جرح 98 ضابطاً و500 جندي بالإضافة إلى 300 جندي من المدنيين والعسكريين أصيبوا بحروق من قنابل النابالم.
- وأضاف أن حوالي 45 ألف سوري نزحوا عن المنطقة المحتلة.
- أما عن الأسرى فقال إنه لا يمكن إحصاؤهم لأن إسرائيل ما زالت تعتقل المواطنين.
- وقال إن الجيش السوري صمد ثلاثة أيام حين هاجمته إسرائيل، إلى أن صدرت له الأوامر بالانسحاب حين رأت القيادة أن خطة إسرائيل كانت تطويق قطعات الجيش السوري”.
-
الجمعة 30 حزيران 1967 (اليوم الثالث عشر)
- قائد سلاح الطيران الإسرائيلي، “البريجادير جنرال مردخاي هود”، قال في حديث له عن أعمال الطيران الإسرائيلي ضد الطيران العربي:
“… إن ثلثي سلاح الطيران السوري دمر خلال ساعة واحدة… وعندئذ انتقل الثلث الباقي إلى مطارات تقع خارج نطاق القتال”.
من الثابت تاريخياً، أن هناك دلائل سياسية وتحركات لوجستية تسبق نشوب أي حرب بين الدول. فالمعارك الكبيرة لا تأتي بالصدفة أو من العدم. هنالك مناخ ذو طبيعة خاصة تتطور فيه دلائل حربٍ متوقعه قبل أن تأتي ساعة الصفر. وخلال تلك الفترة تتهئ الدول سياسياً على الصعيد الداخلي والخارجي لتطوير اقتصادها وجيشها كي يكون جاهزاً عند انلاع الحرب.
لكنَّ ما حدث في سورية من استعداد لحرب 1967 لم يكن سوى رفع وتيرة الخطاب الخشبي المعهود الذي يتبناه حزب البعث الحاكم الذي كان مأزوماً سلفاً بالصراعات الحزبية على كافة الصعد. فلم تلجأ القيادة العليا لنظام البعث المسيطرة على كافة المرافق الحكومية من وضع الخطط والإجراءات التي يستلزمها الدخول في أية معركة رغم تصاعد الدلائل التي تشير إلى أنَّ الحرب مع العدوّالصهيوني آتية بلا ريب.
كان على القيادة – على الأقل- إعلان التعبئة العامة على كل الأصعدة (العسكرية والاقتصادية والعلاقات الخارجية). لقد كانت الأجواء في الفترة التي سبقت الحرب (المؤكدة دلائلها) تشبه المسرحية أو التفنن في عرض خيال الظل (كركوز السوري وعيواظ الإسرائيلي) في مقهى شعبي يسمى (سوريَّة).
كانت القوات المسلحة في سورية هزيلة مهلهلة، حيث بدأ الفساد والضعف يعيث بها بعد أنْ تمَّ تسريح أفضل القادة العسكريين الوطنيين لأسباب طائفيَّة في الظاهر، ونوايا خفيَّة في الباطن. وهذا ليس افتراء على أحد، لأنَّ الشواهد التي سترد لاحقاً تلخص جانباً من ذلك.
ولو أجرينا مقارنة بسيطة في وقفة قصيرة… بين الحزب الحاكم في سوريا.. وحكام إسرائيل، لبدا لنا واضحاً… الفرق الشاسع في مفهوم الغيرة على حماية الأرض، وإعطاء أمنها المحل الأول.. قبل مصلحة وأمن الحزب أو الحاكم. ونخجل أن نتوسع في ذكر تفاصيل المقارنة بين أركان الحكم البعثي في سورية وبين أركان الحكم في الكيان الإسرائيلي الذي جاء من الشتات لينشأ دولة عصابات مارقة في 1948 على أرض لاينتمون إليها، أصلاً، كوطن بل هم مغتصبين وحسب.
مفارقات أبداها أولي الاختصاص في فنون الحرب
لقد جمعنا شذرات من آراء معظم الخبراء العسكريين الذين درسوا تفاصيل المعارك التي استتبطنوا منها حدوث خيانة ما في الكثير من مجريات هذه الحرب.
وصف مختصر لموقع جبهة الجولان السوريَّة
سبق للجيش السوري بعد حرب 1948 أن قام بتحصين مرتفعات الجولان بما يجعلها عصية على احتلالها من قبل العدوّ الإسرائيلي، الذي كان يُجابه بالتصدي في أي تحرك عسكري ولو على مستوى فلاحة أي قطعة من الأراضي المحتلة. وكانت مسالك الدروب الجبليَّة في جبهة الجولان محاطة بالخنادق الحصينة في كل المناطق، وقد تمَّ زرع مختلف أنواع الألغام في كل الأماكن التي تشكل ثغرة يمكن لجيش العدو أن يسلكها في حال تقدمه باتجاه الجبهة السورية. وكان عدم نسف الألغام المزروعة في كل المسالك على مساحة الجبهة الحصينة.
- عند نشوب الحرب في الخامس من حزيران 1967، استغرب الخبراء العسكريين الذين درسوا تفاصيل المعارك عدم تفجير تلك الألغام المزروعة بكثافة عندما تقدمت قوات العدو بازحف لإختراق الجبهة. ولم يجدوا مبرراً لعدم تنفيذ ذلك. فقد كان هدف زرع الألغام هو إعاقة تقدم العدوّ – ولو لساعات طويلة- ولو أنها نسفت لكانت نتيجة المعركة قد تحولت بما جاءت عليه، ولم يَسهل على العدو التقدم بسلاسة دون أن يواجهوا دفاعاً يمنعهم من أنْ يسيطروا على تلك المساحة المحصنَّة جيداً.
- كما أنَّ هؤلاء الخبراء رغم تمحيصهم عن أسباب هذا التقصير، لم يجدوا مبرراً لذلك إلا وجود خبايا تشير إلى وجود صفقة ما بين بعض القادة السوريين وبين إسرائيل. ومن هنا بدأت الشكوك- وما زالت – ترجح أنَّ الجولان قد تعرضَّ لصفقة تسليم بثمن ما قد يكون مفيداً للخائن أن يستثمر اعتلاء كرسي الحكم في سورية مستقبلاً.
- لاحظ الخبراء العسكريين الذين درسوا تفاصيل المعارك أنَّ قوات الدفاع الجوي -خاصة القوات المكلفة باستعمال الأسلحة المضادة للطائرات- والمدفعيّة الأرضيّة، قد أبلوا في أيام الحرب الأولى بلاءً حسناً، وكانت اصاباتهم تستنزف العدو. ولكن فجأة بدأت تصل إليهم الذخائر وهي مطليَّة بالشحم الخاص بالتخزين، مما أدى إلى ارباكهم والتأخر في القيام بالتسديد على الأهداف المعاديَّة في الوقت المطلوب. ومما زاد في تعطيل هذا القطاع الحيوي هو النقص الهائل في أعداد الأفراد المسؤولين عن مستودعات الذخيرة، وهو الأمر الذي منعهم من تنظيف الذخيرة من الشحم وإيصالها نظيفة صالحة إلى المدافع. وبالرغم من ملاحظة ذلك لم تقم الأجهزة المسؤولة بتلافي هذا النقص خلال المراحل اللاحقة لمجريات الحرب.
- وتكرر هذا المشهد في معظم منطاق الجبهة وفي كافة القطعات العسكرية التي تحتاج إلى تجديد التذخير. وعلى سبيل المثال ما قد جرى في القطاع الأوسط بين كفرنفاخ، والقنيطرة، حيث توجد مستودعات ضخمة جداً للذخيرة من كافة أصناف الأسلحة، مخبأة في أنقاب خفيَّة ضمن حفر خاصة في تل خنزير. وللأسف لم تستطع هذه المستودعات تزويد وحدات القطاع الأوسط بكاملها وأية قطعات أخرى تلحق على القطاع بما تحتاجه من ذخائر. ورغم اعلام القيادة العليا بذلك العَوَز، لم تلبِ طلب القوات الجامح، مما أضعف فعاليتها القتاليَّة.
- كان سبب تزاحم مندوبي الوحدات أمام المستودعات لاستلام احتياجها من الذخائر هو النقص الحاد في عدد المسؤولين عن تسليم الذخائر لمندوبي القططعات العسكرية. كان العدد اثنان فقط من رتبة مساعد أول، بالرغم من ضخامة المستودعات وأهميتها التكتيكيَّة في سلاح المدفعية الأرضية والمدفعية المضادة للطائرات. لذلك اعتبر الخبراء أنَّ القيادة العليا هي المسؤولة عن احداث هذا الخلل وعدم تلافيه عندما طُلب منها ذلك.
- في عقيدة الجيش السوري، أنَّ تشكيل ألوية من ضباط وجنود الإحتياط أمر لا مندوحة عنه في المعارك الكبيرة، وبالفعل تمَّ تحشيد ألوية وحدات الإحتياط وزجّهم في المعركة للهجوم على أعتى حصن دفاعي في الجبهة الإسرائيلية الذي يغطي منطقة شاسعة من الأراضي المحتلَّة “منطقة الجليل حتى مدينة صفد وإلى مدينة الناصرة”. وقد أصيب الخبراء العسكريين الذين درسوا تفاصيل المعارك بالذهول، واعتبروا أنَّ قرار القيادة العليا بزجِّ هذه الألوية الإحتياطية التي احتوت على 90% من الضباط والأفراد غير المدربين مطلقاً على مثل هذه المهمات -خاصة لتركهم الخدمة الالزاميَّة منذ عشرات السنين دون تجديث تدريبهم على الأسلحة الجديدة. في حين أنَّ هذه المهمة توكل عادة إلى تشكيلات من النخبة من الجيش (العامل وليس الإحتياط) بعد أن يتم تدريبهم بشكل احترافي على أحدث صنوف الأسلحة وتطبيق الخطط التي تؤهلهم بتنفيذ أكثر مخططات الهجوم تعقيداً وفق طوبغرافية أرض المعركة.
- كانت القيادة الحزبية التي تتحكم في مقدرات البلاد، فاقدة الثقة بجماهير الشعب. فهي تخاف من تسليح المواطنين وتوزيع الذخائر عليهم في حال حدوث انزال مظلي كان متوقعاً أن يتم على العاصمة دمشق ومدن أخرى هامة. والأنكى من ذلك، أدى هذا التخوّف إلى التأخر في توزيع الأسلحة والذخائر على الألوية الاحتياط المكلفة تنفيذ الهجوم على إسرائيل. ولم يتم ذلك إلى أن اقترب وقت الازدلاف من قواعد الانطلاق. وذلك في منطاق وادي حواء، وسنابر، والجمرك، التي كانت على بعد لا يتعدى من 1-2 كيلومتراً حيث قوات العدو، رغم أنها أصبحت عرضة لغاراته الجويَّة، وضمن مدى رماياته بالهاون والمدفعية.
- لقد صدرت الأوامر العسكرية بتطويق هذه الألوية الإحتياطية بكتائب الدبابات، خوفاً من تحرك هذه الألوية بشكل مفاجئ لضرب مراكز الحزب أو غيرها من المراكز الحساسة والانقلاب على نظام الحكم. ومن الجدير بالذكر، عندما تقدم العدو وتمَّ خرق الدفاعات السورية، تراجعت كتائب الدبابات لتحمي مراكز الحكم حوالي دمشق تاركة الألوية الاحتياطية دون حماية أما تقدم العدو. فأصبحت فريسة سهلة وفي استشهاد كارثي لم يكن متوقعاً.
- لم تصدر أوامر الانسحاب الكيفي بشكل رسمي. ولم يتمًّ تبليغها بالطريقة الصحيحة إلى كافة الوحدات، بل تمَّ إبلاغها الضباط الحزبيين من قبل القادة الكبار للتوجه إلى دمشق بحجة حضور اجتماعات حزبية. ومن ثمَّ انتقلت القيادة هاربة من دمشق إلى مدينة حمص بعد أن توقعوا أنَّ دمشق يمكن أنْ تسقط بيد العدو الإسرائيلي. وبذلك أصبح مصير الوحدات الأمامية أو المعزولة، كذلك حرس الحدود المطوقة مجهولاً بعد انقطاع اتصال القيادة العليا عنهم. ومكثوا في أماكنهم حتى جاء يوم الجمعة 9حزيران، فأدركواأنهم قد أصبحوا معزولين عن باقي الوحدات. لذلك بدؤا بالتراجع الكيفي فرادى متسللين ليلاً حتى وصلوا دمشق ليلتحقوا بأقرانهم المتجمعين في ساحة معرض دمشق الدولي، ينتظرون المجهول.
- وجاء رأي الخبراء العسكريين الذين درسوا تفاصيل المعارك عن الهجمات المعاكسة، أنها كانت عبارة عن خطة تقرر تنغيذها لسد الخرق، ورد العدو واستعادة السيطرة على الأرض، ولكن بقيت حلماً وُعد به أهالي الجولان. وبقيت صوراً باهتة من فرضيات القادة البعثيين لم تنفذ على الأرض. ولكن رشح عن القادة الحديث عن الهجمات المقررة على مستوى احتياطات كتائب النسق الأول، واحتياطات ألوية النسق الأول. كانت لإضاعة للوقت دون أية فائدة، مع أنَّها كانت ستشكل مرحلة من أكثر مراحل القتال تعرضاً للأخطار نتيجة الالتحام بالسلاح الأبيض. وهذا النوع من القتال، تنفذه عادة وحدات مدربَّة على طرد العدو ومنعه من السيطرة على الأرض. لكنَّ الألويَّة لم تقاتل، ولم تنفذ هجماتها المعاكسة المقررة.
خاتمة
إنَّ الحديث عن تفاصيل كثيرة جداً تفيض عن سعة مقال واحد، لأنَّ التوسع فيه يحتاج إلى عدة أجزاء من الكتب، وكلما تكشفت الحقائق المخفية في المستقبل، ستحتاج المزيد من الكتَبَة والكُتب أيضاً. لذا اعتمدنا ذكر أهم البلاغات العسكرية ذات الأهميَّة.
لعلَّنا من خلال هذه الأجزاء الأربعة من تلخيص حرب حزيران 1967، قد استطعنا إثارة الفضول عند القارئ كي يتقصى الحقيقة كاملة من عشرات الكتب باللغة العربية والأجنبية التي استخلصنا من بعضها هذه الوقائع، متوخين أن يكون ما ورد فيها هو جزء من الحقيقة الصادقة، لأنَّ تلك الحقائق التاريخية تكون عادة مشوبة ببعض الزيف المُغرض من قبل العدو، وكذلك المبالغة من قبل الذين ظُلموا من مما حدث معهم. ورغم حرصنا على اعتماد التفاصيل بعد وجودها متوافقة مع بعضها في الكثير من المصادر، لكننا نتمنى أن نكون قد تجاوزنا التشويش فيها.
يرجى الضغط هنا لمتابعة (الجزء الخامس/ الأخير)