"كل سوري يعتقد نفسه سياسياً وواحداً من اثنين
يعتبر نفسه قائداً وطنياً وواحد من أربعة يعتقد بأنه نبي وواحد من عشرة
يعتقد بأنه الله فكيف يمكن أن تحكم بلداً كهذا ؟"
"شكري القوتلي" - رئيس الجمهورية السورية
فرادَةٌ وتميُّز
هل سمعتم أن رئيساً عربياً قد تخلى عن كرسيه من أجل الوطن والمواطن والمصلحة العامة من دون أي ضغوطات ؟!! بل إننا وجدنا أن الرؤساء العرب قد نكلوا بشعوبهم إثر ثورات الربيع العربي وقتلوا الآلاف ومئات الآلاف والملايين من أجل الكرسي والنماذج مازالت أصداؤها ماثلة في أذهاننا وأمامنا بشار أسد ومعمر القذافي وعبدالله علي صالح و…
ولكن ثمة رئيس سوري أسبق قد تنازل عن كرسي الرئاسة دون أي ضغوط وعن سبق إصرار وتصميم، ورضا نفس من أجل سعادة شعبه ورفاهيته وتقدمه وتطوره، كما تراءى له آنذاك….إنه السيد شكري القوتلي الزعيم السوري الذي تنازل عن الرئاسة لتوحيد سوريا ومصر.
سأسلط الضوء على هذه الشخصية التي تغنى بها كثير من السوريين إبان اندلاع الثورة السورية التي ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء وتهجّر الملايين، من أجل بقاء شخص واحد جاثم على صدورهم ألا وهو المدعو بشار.
هذه الشخصية تحتاج إلى كتاب للوقوف على تفاصيل مسيرتها من المهد إلى اللحد، ولكننا هنا لسنا في صدد دراسة هذه الشخصية بتفاصيلها وإنما سنحاول تكثيف المعلومات واختزالها، والتركيز على المحطات المحورية التي عبرتها.
ولن أحبس قلمي في تقريظ هذه الشخصية والإطراء عليها، فهي ليست شخصية منزهة عن النقائص وخالية من العيوب، وإنما لها مالها، وعليها ما عليها، ولكن موطن الإعجاب ومحل الشاهد في سوق رحلة حياة هذا السياسي هو تخليه عن أرفع منصب ناله من أجل المصلحة العامة. لقد تنقلت حياة شكري القوتلي من النضال والإعدام والرئاسة.
شكري بن محمود القوتلي (21 تشرين الأول 1891 – 30 حزيران 1967)، زعيم سوري من دمشق وأحد مؤسسي الدولة السورية الحديثة، انتُخب رئيساً للجمهورية ثلاث مرات وشهدت رئاسته الأولى جلاء القوات الفرنسية عن سورية يوم 17 نيسان1946، ساهم في تأسيس الجمعية العربية الفتاة في الحرب العالمية الأولى وكان أحد أركان الكتلة الوطنية التي حاربت الانتداب الفرنسي منذ سنة 1927، في عهده دخلت سورية حرب فلسطين سنة 1948 وقدّمت دعماً كبيراً لمصر في العدوان الثلاثي عام 1956، هو أحد مؤسسي جامعة الدول العربية وصانع جمهورية الوحدة مع الرئيس جمال عبد الناصر سنة 1958، وقد أطلق عليه عبد الناصر لقب “المواطن العربي الأول،” أما السوريون أسموه “أبو الجلاء”
سنوات الدراسة
درس شكري القوتلي القرآن الكريم في طفولته وتَعلّم اللغة الفرنسية في مدرسة الآباء العازاريين في منطقة باب توما، قبل أن ينتقل إلى مدرسة مكتب عنبر خلف الجامع الأموي وينال شهادتها الثانوية سنة 1908، سافر القوتلي بعدها إلى إسطنبول لدراسة العلوم السياسية في المعهد الشاهاني الملكي، ومنه تخرج سنة 1912.
الثورة السورية الكبرى (1925-1927)
التحق بالثورة السورية الكبرى عند انطلاقها من جبل الدروز في صيف العام 1925، باع أملاكه في غوطة دمشق التي كان قد ورثها عن أبيه واشترى بثمنها سلاحاً للثوار، وقد تولّى دفع رواتبهم التي وصلت إلى ليرتين ذهبيتين في الشهر الواحد، جمعاً وصلت قيمة تبرعات شكري القوتلي إلى نصف مليون ليرة ذهبية خلال السنوات 1925-1927، وعمل على جمع تبرعات لصالح الثورة من الجاليات العربية المقيمة في المغترب، سافر إلى مصر للاجتماع بسعد باشا زغلول، زعيم حزب الوفد، الذي قدم دعماً مالياً للثورة السورية الكبرى عن طريق شكري القوتلي. ردّت فرنسا بقصف دار القوتلي في منطقة سيدي عامود يوم العدوان على مدينة دمشق في 18 تشرين الأول1925 وصدر قرار إعدام جديد بحقه. ثم صدر عفو بحقه عام 1932.
عمله في الصناعة
بعد قمع الثورة وتفريق شمل قادتها، تأسست الكتلة الوطنية في سورية بقيادة هاشم الأتاسي يوم 25 تشرين الأول 1927، وكان الهدف منها محاربة الاحتلال بالطرق السياسية لا العسكرية، وانضم إليها شكري القوتلي فور عودته إلى دمشق وانتُخب عضواً في مجلسها الدائم سنة 1934، عمل القوتلي في هذه الفترة من حياته بالصناعة وأسس معملاً للكونسروة لتمويل نشاط الكتلة الوطنية ودفع رواتب موظفيها وعائلات المعتقلين من أنصارها، حُدد رأس مال الشركة بثلاثين ألف ليرة عثمانية ذهبية، وزِّعت على خمسة عشر ألف مساهماً، وجال القوتلي على المدن السورية الكبرى لبيع هذه الأسهم بقيمة ليرتين ذهبيتين للسهم الواحد.
الإضراب الستيني
وفي تشرين الثاني من العام 1935، توفي إبراهيم هنانو، زعيم حلب وأحد قادة الكتلة الوطنية، وخرجت له جنازة كبيرة رفعت فيها شعارات منددة بفرنسا ورئيس الحكومة السورية الشيخ تاج الدين الحسني استمرت المظاهرات طيلة شتاء العام 1935 وأسفرت عن اعتقال نائب دمشق فخري البارودي في 21 كانون الثاني 1936، وهو أيضاً من زعماء الكتلة الوطنية أطلقت الكتلة على أثرها الإضراب الستيني الذي ساهم القوتلي بفرضه في دمشق، فتم اعتقاله ووضعه قيد الإقامة الجبرية في داره.
وقد أدى الإضراب الستيني إلى استقالة حكومة الشيخ تاج والتوصل إلى اتفاق مع هاشم الأتاسي لإنهاء العصيان الاقتصادي مقابل إطلاق سراح كل المعتقلين، وفي مقدمتهم فخري البارودي، مقابل سفر وفد من الكتلة الوطنية إلى فرنسا للتفاوض على مستقبل سورية.
توجه الوفد برئاسة الأتاسي إلى باريس في 26 آذار 1936، وكان مؤلفاً من سعد الله الجابري وفارس الخوري وجميل مردم بك أمّا شكري القوتلي، فقد بقي في دمشق وعُيّن رئيساً بالوكالة للكتلة الوطنية، ممثلاً عن الأتاسي ومسؤولاً عن متابعة مجريات الثورة الفلسطينية التي كانت قد انطلقت من القدس بقيادة صديقه القديم المفتي أمين الحسيني توصل وفد الكتلة إلى معاهدة مع رئيس الحكومة الفرنسية ليون بلوم، أعطيت بموجبها الجمهورية السورية استقلالاً تدريجياً ومشروطاً، مقابل امتيازات عسكرية واقتصادية وثقافية للجمهورية الفرنسية في سورية، وفي نهاية شهر أيلول من العام 1936، عاد وفد الكتلة الوطنية إلى دمشق رافعاً شعار النصر، وقدم رئيس الجمهورية محمد علي العابد استقالته، داعياً إلى انتخابات نيابية ورئاسية مُبكرة، خاضت الكتلة الوطنية تلك الانتخابات بكامل ثقلها السياسي وفاز شكري القوتلي بمقعد نيابي عن دمشق وانتُخِب هاشم الأتاسي رئيساً للجمهورية في 21 كانون الأول 1936.
القوتلي وزيراً
كُلّف جميل مردم بك بتشكيل حكومة الكتلة الوطنية الأولى، وعُيّن القوتلي وزيراً للدفاع والمالية، كانت حقيبة الدفاع هي إحدى الامتيازات التي منحتها معاهدة عام1936 بعد أن كانت فرنسا قد ألغتها منذ هزيمة الجيش السوري وحلّه بعد معركة ميسلون سنة 1920، وقد تسلمها القوتلي شكلياً فقط لأن سلطة الانتداب منعت السوريين من تأسيس أي جيش وطني واكتفت بقوة الأمن الداخلي والشرطة.
أولى مهام الحكومة المردمية كان المصادقة على معاهدة عام 1936 ولكن البرلمان الفرنسي قام برفضها تحسباً لاحتمال اندلاع حرب عالمية جديدة، بعد تنامي طموحات الزعيم الألماني أدولف هتلر الجغرافية والسياسية في أوروبا، أُجبر جميل مردم بك على السفر إلى باريس للتوقيع على ملاحق إضافية للمعاهدة، أملاً أن يساهم ذلك في إقناع المشرعين الفرنسيين لقبولها، وفي غيابه المتكرر عن دمشق كان القوتلي ينوب عنه بصفة رئيس وزراء بالوكالة.
ولكن صداماً وقع بين القوتلي ومردم بك في شباط 1937، عند إصرار الأخير على تجديد عقود اقتصادية مع فرنسا، حول التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية وإصدار عملة سورية الورقية عبر مصرف سورية ولبنان، كان القوتلي رافضاً لتجديد هذه الاتفاقيات، وقد استغل مردم بك سفره إلى السعودية لأداء فريضة الحج وقام بتوقيعها، غَضب القوتلي من هذا التجاوز له ولصلاحياته كوزير مالية، وفي 22 آذار 1937، قدم استقالته إلى رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي وفي بيان الاستقالة الذي وزِّع على الصحف السورية، قال إنه غادر الحكم لأسباب صحية، رافضاً انتقاد جميل مردم بك بشكل علني وصريح لكيلا يُضر بسمعة العهد الوطني.
الحرب العالمية الثانية
سقط عهد الكتلة الوطنية في صيف العام 1939، إثر فشله في تمرير معاهدة عام 1936 والحفاظ على منطقة لواء إسكندرون، التي سُلخت عن سورية وضُمّت إلى الأراضي التركية لضمان حيادها في الحرب العالمية الثانية وعند اندلاع الحرب في 1 أيلول 1939 أُشيع أن “شكري القوتلي” كان مؤيداً لألمانيا النازية، نظراً لكرهه الشديد لسياسات فرنسا الاستعمارية في الشرق الأوسط، وقد اجتمع مع عدد من الشخصيات النازية بدمشق، ما أدى إلى نفيه خارج البلاد سنة 1940، بتهمة التعاطف مع هتلر وتقاضي أموال من الرايخ الثالث.
وفي 14 حزيران 1940 سقطت باريس تحت الحكم النازي، وقاد الجنرال شارل ديغول مقاومة وطنية ضد الاحتلال الألماني لبلاده، بمساعدة عسكرية وغطاء سياسي من رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل بعدها بعام، دخلت قوات الحلفاء إلى سورية لتحريرها من الحكم النازي، ودارت معارك طاحنة على الأراضي السورية، فازت بها بريطانيا وفرنسا الحرة، وعد ديغول بإنهاء الانتداب، وأعلن منح سورية استقلالها ولكنّه اشترط بقاء القوات الفرنسية حتى انتهاء المعارك في أوروبا، وعند قدومه إلى سورية اجتمع ديغول مع هاشم الأتاسي وعرض عليه العودة إلى الرئاسة، ولكنّ الأخير رفض بسبب سوء تجربته السابقة مع فرنسا وعدم مصادقة برلمانها على معاهدة عام 1936، وعندما وصل ديغول إلى طريق مسدود مع الكتلة الوطنية قام بتعيين الشيخ تاج الدين الحسني في الرئاسة، الذي توفي وهو في سدّة الحكم يوم 17 كانون الثاني 1943، دعت فرنسا إلى انتخابات نيابية ورئاسية، خاضها القوتلي بعد عودته من المنفى، وفي 17 آب 1943 رشح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية وفاز بغالبية أصوات البرلمان.
الولاية الدستورية الأولى (1943-1947)
ذهبت رئاسة المجلس لفارس الخوري، وكُلّف سعد الله الجابري بتشكيل الحكومة، وقد خاضت حكومة الجابري مفاوضات شاقة مع الفرنسيين، وسافر أعضاؤها إلى مصر للمشاركة بتأسيس جامعة الدول العربية سنة 1944، أملاً بحشد دعم عربي واسع لقضية استقلال سورية، حصل العهد الجديد على دعم كبير من الملك فاروق والملك عبد العزيز، ولكن الأردن رفض التعاون مع رئيس سورية الجديد نظراً للعداء التاريخي بين القوتلي والملك عبد الله الأول، منذ أن عارض طموحاته في تسلّم عرش سورية خلفاً لشقيقه الملك فيصل.
حرص القوتلي على فتح قنوات دولية للترويج لقضية استقلال سورية وفي تشرين الأول 1943، أوفد وزير خارجيته جميل مردم بك إلى الكويت ومصر والعراق للحصول على دعم من قادة تلك الدول العربية، وبعث برسائل مماثلة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والزعيم السوفيتي جوزيف ستالين والصيني شيانج كاي شيك، مذكراً بمبادئ الحرية والعدالة التي كان الحلفاء يحاربون من أجلها، وفي تموز 1944، استقبل القوتلي فياتشيسلاف مولوتوف وزير خارجية الاتحاد السوفيتي لتبادل السفراء مع موسكو.
قمة القوتلي – تشرشل
وفي شباط 1945، توجه القوتلي إلى مصر للاجتماع مع الرؤساء روزفلت وتشرشل، بعد عودتهما من مؤتمر يالطا رُتب هذا اللقاء من قبل الملك عبد العزيز، وكان بضيافة الملك فاروق وحضور هيلا سلاسي، إمبراطور إثيوبيا، لم يتمكن الرئيس روزفلت من حضور القمة نظراً لتدهور حالته الصحية، وجرى اللقاء بين القوتلي وتشرشل في القاهرة يوم 17 شباط 1945.
طلب تشرشل إلى الرئيس السوري عقد معاهدة جديدة مع فرنسا، فرد القوتلي بالقول: “فرنسا جسم غريب في منطقتنا، لن أعترف بها… لن أمد لها يدي…ولن أتفق معها مهما كانت الأسباب والظروف، والله ثم والله لن أرتكب هذه الجريمة بحق وطني، ولن أرضخ لأي ضغط ولو أصبحت مياه البحر حمراء قانية.
أجابه تشرشل“لقد قُلت لك إن لفرنسا مصالح في بلادكم فاعملوا معها معاهدة ثقافية، وأنا كفيلها بكل ما تطلبون، ” رد القوتلي: “ليس لها أملاك سوى دار واحدة بمنطقة الجسر الأبيض وأنا مستعد أن أشتريها منها وأسكنها لأني لا أملك داراً للسكن في دمشق بعد أن أحرقت فرنسا داري ودار أجدادي كما دمّرت الحيّ الدمشقي بأكمله الذي كان بيتنا فيه.
وقد انتهى الاجتماع بموافقة القوتلي على إعلان الحرب على دول المحور وتقديم دعم للمجهود الحربي البريطاني مقابل دعوة سورية لحضور مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة كان من المقرر عقده في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية في نيسان 1945.
انضمام سورية إلى الأمم المتحدة
فور عودته من مصر، أعلن القوتلي الحرب على ألمانيا وإيطاليا واليابان، وبعدها جرى تبادل العلاقات الدبلوماسية بين سورية والولايات المتحدة، مع تعيين الدكتور ناظم القدسي وزيراً مفوضاً في واشنطن وكما وعد تشرشل، دعيت سورية رسمياً لحضور مؤتمر الأمم المتحدة وقد عُيّن فارس الخوري رئيساً للوفد السوري المؤسس والدائم في الأمم المتحدة، ومعه نخبة من الشخصيات السورية مثل السفير ناظم القدسي والمحامي نعيم أنطاكي والبروفيسور قسطنطين زريق، أستاذ التاريخ في جامعة بيروت الأميركية.
العدوان الفرنسي يوم 29 أيار 1945
في 19 أيار 1945، عقدت قمة سورية – لبنانية في بلدة شتورا، جمعت بين الرئيس القوتلي ونظيره اللبناني بشارة الخوري، تقرر فيها تجميد المفاوضات مع فرنسا إلى أن يتم تحديد فترة زمنية لإنهاء الانتداب وجلاء الجيوش الأجنبية عن سورية ولبنان. أرسلت فرنسا تعزيزات عسكرية إلى شواطئ بيروت، نُقلت فوراً إلى دمشق، تمهيداً للعدوان الذي وقع عصر يوم 29 أيار 1945. وقد جاءت أوامر قصف المدينة من الكولونيل أوليفيا روجيه، حاكم دمشق العسكري المُعين حديثاً من قبل شارل ديغول أراد اعتقال القوتلي وجميل مردم بك وسعد الله الجابري، بصفتهم “أعداء” فرنسا الحرة
أُحرقت مناطق كاملة من دمشق، منها سوق ساروجا، وقُصف القلعة ومبنى البرلمان في شارع العابد جاء السفير البريطاني تيرانس شون إلى منزل القوتلي في جادة الرئيس وعرض عليه الخروج الآمن من سورية، تحت حماية بريطانية، وقال إن فرنسا تنوي اعتقاله أو قتله، كان القوتلي مقعداً في فراشه يومها، بأمر من طبيبه الخاص حسني سبح، يُعاني من نزيف حاد بالمعدة بسبب قرحة مزمنة، نهض وخاطب السفير البريطاني بغضب: “ألمثلي يُقال هذا؟ أنا لم أغادر دمشق ولن أغادر دمشق، وأريد أن تنقلوا سريري وتضعوه على أبواب المجلس النيابي، لكي أستشهد هناك مع هؤلاء الأبطال.” ثم طَلب إحضار والدته وزوجته وأولاده وخاطب السفير شون قائلاً: “ما عندي أغلى من ديني ووطني وهؤلاء؟ والله لو قطعتم أصابعي بعد أن دمّر الفرنسيون بلدي، لن أوقع لهم ما يريدون.” لقد كانت مسيرة شكري القوتلي ما بين النضال والإعدام والرئاسة
ثم أوفد سعد الله الجابري إلى مصر لعقد جلسة طارئة لمجلس جامعة الدول العربية، مُعلناً أن “مجزرة رهيبة يندى لها الجبين قد حدثت أمس في دمشق،” وبعدها بيوم واحد، صدر إنذار بريطاني صارم من لندن، موقع من ونستون تشرشل، يطالب القوات الفرنسية بالانسحاب الفوري من سورية، دون أي قيد أو شرط، تطبيقاً لوعد الاستقلال الذي قطعه شارل ديغول على نفسه سنة 1941، وفي 1 حزيران 1945، فرضت حكومة بريطانيا وقف إطلاق النار في سورية وبدأت فرنسا بالانسحاب. سلّمت كل المطارات والثكنات والمواقع العسكرية إلى حكومة الرئيس سعد الله الجابري، تلاها تسليم جميع المستشفيات والمدارس والسجون، ومعها سجن أرواد وسجن قلعة حلب وسجن قلعة دمشق.
عيد الجلاء 1946
أعلن الرئيس شكري القوتلي يوم 1 آب 1945 عيداً وطنياً لتأسيس الجيش السوري وفي 17 نيسان 1946، أقيم عيد الجلاء الأول بمشاركة عربية واسعة، رفع شكري القوتلي علم سورية فوق سماء دمشق، قائلاً إنه لن يرفع أي عَلم فوق هذه الراية إلّا علم الوحدة العربية وقد جاء في خطاب القوتلي يوم عيد الجلاء الأول:
بني وطني… هذا يوم تشرق فيه شمس الحرية الساطعة على وطنكم، فلا يخفق فيه إلا علمكم، ولا تعلو فيه إلا رايتكم، أهنئ اليوم هذه الأمة، شباباً وشيباً، هلالاً وصليباً، أهنئ ذلك الفلاح، دعاه داعي الوطن فلباه، هجر مزرعته وتنكب بندقيته، وراح يذود عن أمته ويثأر لكرامته. أهنئ العامل الكادح، يجعل من نفسه لوطنه الفداء، وهو فيما يصيبه لمن السعداء. أهنئ ذلك الطالب، تتأجج روحه حماسة، ويغلي مرجله إباء. أهنئ الأستاذ يبث العزة القومية، والشاعر يهز الروح الوطنية، والكاتب ينافح عن الحق ويشدد العزائم. أهنئ ذلك التاجر طالما غادر متجره احتجاجاً على ظلم صارخ، ودفعاً لعدوان نازل. أهنئ رجل الأحياء تثيره النخوة ويستجيب للحمية. وأبارك للسيدة تؤدي واجبها جهداً وثباتاً وصبراً.
الولاية الدستورية الثانية (1947-1949)
انتهت ولاية الرئيس سنة 1947 ولكن حلفاء القوتلي أصروا على بقائه في الحكم، على الرغم من تعارض ذلك مع المادة 68 من الدستور السوري، التي حددت ولاية رئيس الجمهورية بأربع سنوات، غير قابلة للتمديد، وقد تبنى عدد من السياسيين فكرة تعديل الدستور لصالح ولاية جديدة للقوتلي، كان من بينهم جميل مردم بك ولطفي الحفار وصبري العسلي وفارس الخوري dيعهم من الحزب الوطني)، وعارضهم كتلة نيابية مؤلفة نواب حلب ناظم القدسي ورشدي الكيخيا ونائب حماة أكرم الحوراني، وانضم إلى صفوفهم رئيس الحكومة الحالي سعد الله الجابري والسابق خالد العظم ومع ذلك، تمكن حلفاء القوتلي في الحزب الوطني – وريث الكتلة الوطنية – من تعديل الدستور وإعادة انتخابه رئيساً في 17 آب 1947، وقد حصل القوتلي يومها على 123 صوتاً من أصل 125 صوتاً من أعضاء المجلس النيابي. وقد أدى هذا التعديل لظهور حزب معارض في حلب، بقيادة الكيخيا والقدسي، عرف بحزب الشعب، وكان موالياً للأسرة الهاشمية ومحسوباً على العراق.
حرب فلسطين الأولى
توجه القوتلي إلى مدينة انشاص المصرية لحضور أول قمة عربية في 28-29 أيار 1946 حيث ناقش الأوضاع العامة في فلسطين ودعا لعقد مؤتمر خاص بالقضية الفلسطينية في بلدة بلودان السورية، ووقف فارس الخوري في وجه قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947، ووصفه الرئيس السوري قائلاً: “لن يمر ولن يقبل به العرب.”
اندلعت المظاهرات الغاضبة في المدن السورية كافة، احتجاجاً على قرار التقسيم، وفتحت دمشق أبواب الجهاد ضد الصهيونية قررت جامعة الدول العربية تأسيس جيش الإنقاذ لنصرة فلسطين، ذهبت قيادته إلى الضابط المتقاعد فوزي القاوقجي، وقامت حكومة جميل مردم بك بتمويل %25 من نفقاته، وعند إعلان دافيد بن غوريون ولادة دولة إسرائيل في 14 أيار 1948، دخل الجيش السوري إلى ميدان المعركة بقوة قتالية وصلت إلى ثلاثة آلاف جندي، ولكن نتيجة الحرب الفلسطينية لم تكن لصالح العرب، فقد هزموا مجتمعين، ما أثر كثيراً على القوتلي من الناحية النفسية والسياسية.
انقلاب حسني الزعيم (29 آذار 1949)
وقد أدت هزيمة القوات السورية في فلسطين إلى نقمة في صفوف العسكر، وتحديداً لدى الضباط الموجودين على الجبهة، استغل حسني الزعيم هذه النقمة للقيام بانقلابه على شكري القوتلي ليلة 29 آذار 1949، أمر باعتقال القوتلي ووضعه في سجن المزة، قبل نقله إلى مستشفى الشهيد يوسف العظمة بسبب تدهور حالته الصحية، فرض الزعيم نفسه حاكماً عسكرياً على سورية، وتقدم القوتلي باستقالته من الرئاسة في يوم 6 نيسان 1949 عبر وساطة قام بها رئيس المجلس النيابي فارس الخوري. كُتب نص الاستقالة بخطّ اليد، ووجهه القوتلي إلى الشعب السوري وليس إلى حسني الزعيم“أقدم إلى الشعب السوري الكريم استقالتي من رئاسة الجمهورية السورية، راجياً له العز والمجد.”
سنوات المنفى
سمح الزعيم للقوتلي بمغادرة سورية إلى منفى اختياري فتوجه إلى سويسرا أولاً ثم إلى مصر، ليحل ضيفاً على صديقه القديم الملك فاروق وفي سنوات المنفى لم يمارس القوتلي أي نشاط سياسي واكتفى بكتابة مقدمة كتاب عن الاستقلال، للصحفي السوري سعيد تلّاوي، صاحب جريدة الفيحاء رفضت معظم الدول العربية الاعتراف بحكم حسني الزعيم في بدايته، ولكنها سرعان ما غيرت من موقفها وقبلت به كأمر واقع، وكان في مقدمتها مصر التي زارها الزعيم في نيسان 1949 والتقى بالملك فاروق واعترفت به السعودية وجامعة الدول العربية، وبقي لبنان وحده بين دول المنطقة رافضاً الاعتراف بشرعية الزعيم ومتمسكاً بالقوتلي حتى تموز 1949.
سقط حسني الزعيم من الحكم بعد 137 يوماً على استلامه الحكم وأعدم رمياً بالرصاص يوم 14 آب 1949. تعاقب على سورية من بعده ثلاثة حكام عسكريين: سامي الحناوي (1 آب – 19 كانون الأول 1949)، فوزي سلو (3 كانون الأول 1951 – 11 تموز 1953) وأديب الشيشكلي (11 تموز – 25 شباط 1954). لم يتدخل القوتلي في أي من هذه الانقلابات العسكرية وقرر العودة إلى دمشق بعد سقوط حكم الشيشكلي وعودة هاشم الأتاسي لتولّي الرئاسة إكمالاً لولايته الدستورية التي عطلت مع انقلاب عام 1951.
وقد تغيّر الحكم في مصر أيضاً بعد ثورة الضباط الأحرار على الملك فاروق ووصول جمال عبد الناصر إلى رئاسة الجمهورية في شباط 1954. تزامنت الثورة المصرية مع وجود القوتلي في الإسكندرية، وقد نشأت صداقة بينه وبين عبد الناصر، الذي كان يحترم ماضيه في محاربة الاستعمار في سورية. وقد أقنعه عبد الناصر بالعودة إلى سورية والترشح مجدداً لرئاسة الجمهورية. وفي 7 آب 1954 عاد القوتلي إلى دمشق كان في استقباله رئيس الحكومة صبري العسلي وحشد من المحبين والحلفاء القدامى، معلناً رغبته بالترشح للرئاسة وخلافة هاشم الأتاسي.
القوتلي سنة 1955
الولاية الدستورية الثالثة
كانت معركة الرئاسة عام 1954 بين شكري القوتلي وخالد العظم، الذي عارض تجديد الدستور سنة 1947 وكان رئيساً للحكومة في نهاية حكم القوتلي الأول عشية انقلاب حسني الزعيم وفي 18 آب 1954، فاز القوتلي على العظم بفارق تسعة وأربعين صوتاً من أصوات النواب الذي بلغ عددهم 142 نائباً. وفي 5 أيلول 1955، أقسم اليمين الدستوري، رئيساً للجمهورية لولاية ثالثة وأخيرة. وقد جرت مراسيم الاستلام بينه وبين الرئيس هاشم الأتاسي داخل مجلس النواب، بإشراف رئيسه الدكتور ناظم القدسي، هي المرة الأولى والأخيرة في تاريخ سورية التي يجري فيها تداول السلطة بهذا الشكل السلمي، دون استقالة أو إقالة أو انقلاب.
المؤامرة العراقية
شكل المحامي المستقل سعيد الغزي أولى حكومات العهد الجديد، تلتها حكومة صبري العسلي، صديق القوتلي منذ مرحلة العشرينيات وأمين عام الحزب الوطني. وفي حكومة العسلي الرابعة سنة 1956 أجبر على إسناد وزارة الخارجية لصلاح البيطار، أحد مؤسسي حزب البعث، وذهبت رئاسة المجلس النيابي لزميله البعثي أكرم الحوراني، وذلك بسبب فوز حزبهم بسبعة عشر مقعداً في انتخابات سنة 1954. كان حزب البعث يومها متحالفاً مع عبد الحميد السراج، مدير المكتب الثاني، واللواء عفيف البزري، رئيس أركان الجيش الشيوعي المحسوب على الاتحاد السوفيتي بفضل هؤلاء توسعت سلطة المباحث في سورية وصدرت قرارات إغلاق صحف مؤيدة للغرب، مثل جريدة الناس التي نُفي صاحبها حسني البرازي إلى تركيا بعد صدور حكم بالإعدام بحقه.
لم يقبل القوتلي بهذه القرارات ولكنّه لم يعارضها، خوفاً من نقمة المؤسسة العسكرية. وفي عهده اعتُقل الدكتور عدنان الأتاسي(ابن هاشم الأتاسي سنة 1956 بتهمة تقاضي أموال من العراق لتنفيذ انقلاب عسكري، يُطيح بعبد الحميد السراج وبقية الضباط الموالين لجمال عبد الناصر في سورية. وبالنسبة للرئيس القوتلي، فقد كان أعضاء “المؤامرة العراقية” يريدون وضعه أمام خيار صعب: إمّا التخلّي عن الحكم أو عن علاقته بعبد الناصر كشفت المؤامرة من قبل أجهزة السراج واعتُقل عدد من السياسيين الكبار، منهم نائب دمشق الدكتور منير العجلاني والدكتور سامي كبارة، صاحب جريدة النضال المعارضة للقوتلي منذ سنة 1948. وقد صدرت عن المحكمة العسكرية التي تولّت محاكمتهم أحكام تراوحت بين الإعدام والسجن المؤبد، وحاول القوتلي التوسط لأجلهم، وتحديداً لعدنان الأتاسي، نظراً لصداقته القديمة مع أبيه، ولكنّ وساطته رفضت من قبل السراج. وكان آخر طلب له من مجلس النواب قبل مغادرة الحكم سنة 1958 هو الإفراج عن عدنان الأتاسي وصحبه ولكن رئيس المجلس أكرم الحوراني رفض الاستجابة.
التوجه شرقاً
اتّسم عهد القوتلي الثالث بتقارب كبير مع دول المعسكر الشرقي وتبادل سفراء مع كل من رومانيا وتشيكوسلوفاكيا وجمهورية الصين الشعبية، وسافر إلى موسكو في 30 شهر تشرين الأول 1956 للحصول على دعم عسكري لعبد الناصر في العدوان الثلاثي على مصر، وفي أول زيارة لرئيس سوري إلى الاتحاد السوفيتي خاطب الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف بإلحاح وغضب قائلاً: “يريدون تدمير مصر أرسلوا الجيش الأحمرذلك الجيش العظيم الذي هزم هتلر ولكن القيادة السوفيتية اعتذرت وقالت إن أي تدخل عسكري من هذا النوع قد يُشعل حرباً عالمية ثالثة.
وفي أثناء العدوان الثلاثي قامت سورية بقطع علاقتها الدبلوماسية مع كل من فرنسا وبريطانيا، وأشرف عبد الحميد السراج على نسف أنابيب النفط البريطانية المارة عبر الأراضي السورية. وقد وقّعت في عهد القوتلي سلسلة من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية مع الاتحاد السوفيتي، أبرمها وزير الدفاع خالد العظم في آب 1957. مُنحت سورية بموجبها سلاحاً روسياً بقيمة 570 مليون دولار، تسدّد قيمته على مدى اثنتي عشرة سنة بالتقسيط المريح.
محاولة الانقلاب الأمريكي
أدى التقارب السوري – السوفيتي إلى دق ناقوس الخطر في الولايات المتحدة الأميركية، لأنه جاء في أوج الحرب الباردة وبدأت وكالة الاستخبارات الأمريكية بالتحضير لانقلاب جديد في سورية، يُطيح بالقوتلي مجدداً. وفي 12 آب 1957، كُشِفت عن المؤامرة الأميركية وطرد السفير الأمريكي جيمس موس من دمشق، فردت إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور بطرد السفير السوري فريد زين الدين من واشنطن وبغياب سفراء الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا أصبح الاتحاد السوفيتي هو البلد الوحيد الناشط في الساحة السياسة السورية والأكثر نفوذاً في قصر الرئيس القوتلي في الأشهر التي سبقت قيام الوحدة مع مصر سنة 1958.
الوحدة السورية المصرية عام 1958
توجه وفد من الضباط السوريين إلى القاهرة يوم 11 كانون الثاني 1958، يتقدمهم رئيس الأركان عفيف البزري، للمطالبة بتوحيد سورية ومصر، تحت راية جمال عبد الناصر لم يكن الرئيس السوري على علم بسفرهم، فقد استقلوا طائرة خاصة من مطار دمشق وسافروا إلى مصر برفقة الملحق العسكري المصري عبد المحسن أبو النور. حتى وزير الدفاع خالد العظم لم يُبلّغ وقد علِم بسفر الضباط في صباح اليوم التالي عبر نائب رئيس الأركان أمين النفوري. تأخر عبد الناصر في استقبالهم وعندما فعل، سألهم عن موقف الرئيس القوتلي من هذه الوحدة، مُؤَكِّداً أنه الوحيد المخول بالتفاوض باسم الشعب السوري والدولة السورية.
بدلاً من معاقبة الضباط وفصلهم عن الجيش بتهمة التآمر والسفر دون موافقة من القيادة، قرر القوتلي دعمهم في السعي نحو الوحدة العربية. قال إن هذه الوحدة كانت حلماً بالنسبة له منذ مرحلة الشباب، ولن يقف في وجهها حتى لو كان فيها تجاوز له ولصلاحياته الدستورية. عارضه خالد العظم وطالب بفصل الضباط ومحاكمتهم، ولكنّ القوتلي قام بإرسال وزير الخارجية صلاح البيطار إلى القاهرة للتفاوض رسمياً على الوحدة باسم الحكومة السورية.
اشترط عبد الناصر أن تكون الوحدة اندماجية لا فيدرالية، وأن تصبح عاصمتها القاهرة وليس دمشق، مع شرط ثالث وهو حلّ جميع الأحزاب السورية. وافق صلاح البيطار على كل هذه الشروط وعاد إلى دمشق لطرحها على جلسة حكومية طارئة، عُقدت بحضور القوتلي. وبعد أخذ موافقة المجلس النيابي الذي صوت بالإجماع لصالح الوحدة، سافر القوتلي إلى مصر لإعلانها مع عبد الناصر في شباط 1958. تنازل بعدها طوعياً عن رئاسة سورية لصالح جمال عبد الناصر الذي كرمه بلقب “المواطن العربي الأول” وقال إنه “الوجه العربي المُشرق لسورية.”
القوتلي يدعم الانفصال
قضى شكري القوتلي سنوات الوحدة متقاعداً عن العمل السياسي ومتنقلاً بين دمشق والقاهرة وجنيف، وظلّت أخباره تتصدر أولى صفحات الجرائد السورية، ما أزعج عبد الناصر كثيراً. وقد استدعى وزير الثقافة رياض المالكي وقال له: “الأضواء لا يجب أن تُسلّط بعد اليوم إلا على شخص سيادة رئيس الجمهورية، دون غيره من الشخصيات.”
اتسعت الهوة بين القوتلي وعبد الناصر بعد منع عزف النشيد الوطني السوري حماة الديار في المناسبات الوطنية وإلغاء احتفالات عيد الجلاء يوم 17 نيسان 1958، حيث عدّ الرئيس المصري أن للجمهورية العربية المتحدة عيداً واحداً فقط هو عيد ثورة يوليو. ثم جاء قانون الإصلاح الزراعي في أيلول 1958، تلاه قرار تأميم المصارف والمصانع في تموز 196، الذي أسقط النخبة الاقتصادية السورية المتحالفة مع القوتلي منذ زمن الانتداب. وبطلب من أعضاء غرفة تجارة دمشق، ذهب القوتلي إلى مصر لزيارة عبد الناصر وقال له: “أخاف على الوحدة التي صنعناها معاً يا أبا خالد، أخاف عليها من هذه القرارات الاشتراكية الارتجالية وغير المدروسة.” طلب منه طيّ قرار التأميم، ولكن عبد الناصر لم يقبل وطمأن القوتلي بالقول: “لا تخف على الوحدة، ستستمر 100 عام بعون الله.”
بعدها بشهرين، سقطت جمهورية الوحدة إبان انقلاب عسكري بدمشق في 28 أيلول 1961 قام به المقدم عبد الكريم النحلاوي مع مجموعة من الضباط الدمشقيين. كان القوتلي يومها في سويسرا، وحاول عبد الناصر الاتصال به ولكنه لم يأخذ المكالمة. وفي 23 تشرين الأول 1961، أي بعد انقلاب الانفصال بقرابة الشهر، ظهر القوتلي على شاشة التلفزيون السوري وشنّ هجوماً عنيفاً على الوحدة والتجاوزات المصرية التي تخللتها. وقد جاء في كلمته المتلفزة:
لقد كان في أساس الأخطاء كلها قاعدة واحدة: تأمين الأقلية وتخوين الأكثرية، وتسليط هيئات مصطنعة وأفراد على تنفيذ اشتراكية تعاونية لا يؤمنون بها، ولا يعملون من أجلها، ولا يفهمون أي مبدأ من مبادئ العدالة والتعاون، وكان كل مدار الثقة بهم أنهم حاقدون يكرهون الناس، ويتطيرون من وجوه الخير.
أضاف القوتلي:
“الوحدة لا تعني عملية ضم، والنظام الرئاسي لا يعني انعزال الراعي عن الرعية.” ووصف جهاز الحكم أيام المصري بجلّاد الشعب، وقال: “لو طال به (عبد الناصر( الزمان لآل مصير الجمهورية كلّها إلى مجموعة أقاليم يحكمها أفراد متنافرون. جهاز غريب عجيب، أنبت للجسم الواحد عدة رؤوس، وللرأس الواحد عدة ميول ونزوات وشهوات.”
وتطرّق القوتلي إلى انعدام الديمقراطية في عهد عبد الناصر بالقول:
“ولطالما شكا النواب المعينون لمجلس الأمة من عدم جدوى وجودهم تحت قبة المجلس، لأنه ليس لهم من وظائف التمثيل النيابي سوى إقرار المشروعات التي كتبها موظفو الدولة والتصويت عليها برفع الأيدي الصامتة.”
ختم القوتلي كلمته بمباركة انقلاب الانفصال قائلاً:
كلمتي الأخيرة إليكم إنكم أنتم وحدكم مسؤولون عن تقرير المستقبل، وأن القيادات في صفوفكم عناوين زائلة، وتبقون أنتم الشعب سطور البقاء والخلود. ولقد استطعت على خدمة نضالكم وجهادكم، مواطناً عادياً وجندياً مكافحاً، أكثر مما أتيح لي أن أتوفر لهذه الخدمة الشريفة، رئيساً وحاكماً ومسؤولاً. وإن أعظم ما أطمح إليه عامل في الحقل العام، عانق القضية المقدسة منذ مطلع هذا القرن: فتى وشاباً وشيخاً أن يستحق استمرار الرضى عنه في صفوف المواطنين العاديين، مواطناً صالحاً وجندياً أميناً.
فكر ضباط الانفصال جدياً بدعوة القوتلي للعودة إلى الحكم لمرة رابعة وأخيرة، مع الدستور القديم والمجلس النيابي المنتخب سنة 1954. وقد عدّ بعضهم أن عهد الوحدة لم يمر على سورية، كما جرى عند عودة هاشم الأتاسي بعد سقوط الشيشكلي. ولكن القوتلي رفض العودة إلى الرئاسة، وقال إن صحته لم تعد تتحمل أعباء الحكم.
مرقد الرئيس شكري القوتلي في مقبرة الباب الصغير
في منتصف عام 1964، انتقل شكري القوتلي للعيش في بيروت، وفيها توفي عن عمر ناهز 75 عاماً يوم 30 حزيران 1967، بعد تعرضه لذبحة قلبية عند سماعه نبأ سقوط الجولان في يد إسرائيل أعيد جثمانه إلى دمشق بناء على وصيته، مُجللاً بالعلم السوري، وخرجت له جنازة شعبية مهيبة لم تشهد مثلها دمشق من قبل، صاح فيها المشيعون: “لا إله إلّا الله وشكري بك حبيب الله.” صلى عليه أهالي الشام في الجامع الأموي ووري الثرى في مدافن الأسرة في مقبرة الباب الصغير بدمشق.
تخليد ذكرى القوتلي
أُطلق اسم الرئيس شكري القوتلي على شوارع رئيسية في جميع المدن السورية وفي القاهرة، وأصبح الشارع الذي يحمل اسمه في دمشق، الواصل بين ساحتي المرجة والأمويين، مقراً لمعرض دمشق الدولي وعدد من الفنادق الفخمة، مثل المريديان والفورسيزنز. وأطلق اسمه على الحيّ الذي كان يسكن فيه قبل انقلاب 1949 والذي يُعرف من يومها ببستان الرئيس أو جادة الرئيس.
وصدر كتاب عن حياته وجهاده في مصر سنة 1959، حمل عنوان شكري القوتلي: تاريخ أمة في حياة رجل للصحفي السوري عبد اللطيف يونس، تلاه كتاب في بيروت سنة 2003، للقاضي عبد الله الخاني (أمين عام الرئاسة السورية في عهد القوتلي)، بعنوان جهاد شكري القوتلي وقد وضع الكاتب السوري سامي مروان مبيّض كتاباً ثالثاً عن حياة شكري القوتلي بعنوان جورج واشنطن سورية صدر باللغة الإنجليزية في بيروت سنة 2005.
أقوالهم في الرئيس شكري القوتلي
أيها المواطنون … لابد من أن أذكر لكم جهاد الرجل العربي الذي جاهد في سبيل الوحدة العربية مدة تزيد على الخمسين عاماً. أتحدث إليكم عن جهاد شكري القوتلي الذي حارب في سبيل استقلال بلاده، وفي سبيل استقلال وطنه. حارب فرنسا، وسجن، وحكم عليه بالإعدام. حارب من أجل القومية العربية، ومن أجل الوحدة العربية. فإذا كنت أهنئكم اليوم فإنني أهنئ شكري القوتلي الذي استطاع أن يحقق الآمال. بهذه الصفات، وبهذه القيم، نستطيع أن نثبت المبادئ، وأن نثبت المثل العليا، على هذه المثل ستسير الجمهورية العربية قدماً إلى الأمام، وراء المثل العليا، التي بناها، وعبر عنها، وأظهرها، شكري القوتلي. فباسمكم جميعاً أتكلم إلى أخي الأكبر شكري القوتلي، وأقول له: إننا جميعاً نحييك، وإننا جميعاً نحيي جهادك، وإن الشعب العربي في كل مكان سيذكر على مرّ الزمن ما قمت به، وإن الجمهورية العربية المتحدة هي خير هدية نقدمها لك اليوم، بإعلان مولدها، لأنها هي النتيجة الكبرى لجهودك في سبيل الوحدة العربية، وفي سبيل القومية العربية.
“جمال عبدالناصر” رئيس جمهورية مصر العربية
لقد استقبلنا في هذه المدينة عدة شخصيات كبيرة في الماضي، وسمعنا خطابات رسمية كثيرة، ولكن من حسن حظنا أننا لم نستمع من فخامة الرئيس القوتلي إلى خطاب رسمي، بل إلى كشف سياسي بليغ، له أهميته الخاصة التي لن تقتصر على غربي آسية فحسب بل تتعداها إلى العالم كله. لقد كشف فخامة الرئيس القوتلي عن سير الأحداث في الشرق وليس هناك شخص أجدر من الرئيس القوتلي بالتحدث عن أحداث آسية الغربية وعرض مشاكلها، وهو المعروف بماضيه الطويل في النضال، من أجل الحرية والاستقلال.
“جواهر لال نهرو” رئيس وزراء الهند
يسرني بالغ السرور أن يتسلم مقاليد الرئاسة رجل عرف بصدق عزيمته، وعظيم إخلاصه لوطنه، وحرصه على مصلحة بلاده، ومصلحة البلاد العربية بأسرها – صاحب الفخامة الرئيس شكري القوتلي، وإني أسأل الله القادر على كل شيء أن يمده بمعونته حتى يحقق أفضل الأماني المعقودة على رئاسته الجديدة.
“هاشم الأتاسي” – رئيس الجمهورية السورية الأسبق
من خطاب لفخامته بمناسبة انتهاء مدة رياسته وانتخاب القوتلي رئيساً للجمهورية 18/8/1955 شكري القوتلي رمز الوطنية الحقة، والعروبة الصادقة، والجهاد العظيم، وهو يضم إلى مقامه السامي الرفيع تاريخاً حافلا بجليل الأعمال، حاملا إكليل النضال والكفاح، في خدمة أمته ووطنه. “بشارة الخوري” – رئيس الجمهورية اللبنانية