مقدمة
عندما أعطت الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر للسيطرة الروسية على سورية 2015، كي تورطها للغوْص في الرمال المتحركة في سورية. تمَّ تدخل روسيا للمرة الأولى ميدانياً لدعم بقاء الأسد، وجرى تمكينه من استعادة معظم المناطق التي سيطر عليها الجيش الحر حيث شملت آنذاك 85% من مساحة البلاد.
وكخطوة أولى، شاركت روسيا في إجراء تعديلات في الخطط الميدانية التي كان يعتمدها جيش النظام وميليشياته. وتركزت الأنشطة الروسية في تحسين القدرة القتالية للقطعات العسكرية، وعززتها بقواتٍ روسيةٍ لقيادة المعارك وخاصة الضربات الجوية المحمومة. وما فتأت خطة روسيا ( إحكام السيطرة الروسية على سورية) قيد التنفيذ.
تحديات واجهت الروس
- وكان التحدي آنذاك، هل يجب على القادة الروس أن يدافعوا عن حد أدنى من التغييرات أم إعادة الهيكلة الكاملة للقوات العسكرية على الجبهات، وكذلك القوى الأمنية بمختلف أنواعها؟
- وكان التحدي الثاني أن تهتم روسيا بإصلاح شامل للخدمات الأمنية السورية بما يكفل مساعدتها على تثبيت موقعها في البلاد لمواجهة النفوذ الإيراني المتنامي.
- لم يكن من بُدٍ أنْ يكفل الروس أمن مواقعهم العسكرية والمنشآت الاقتصادية الروسية، علاوة على أمن الرعايا الروس في سورية.
وبالفعل تحقق للروس ما أرادوا ولكن بأبخس الأثمان، مما أفشل الأمريكان الذين أرادوا لروسيا أن تغوص في رمال متحركة تربك موسكو، وتحرض عليها الشارع العربي كي ينبذها.
العسكر والأمن قوتان متلازمتان لنظام استبدادي
في آن واحد، شرعت القيادة الروسية المتواجدة على الأراضي السورية بتوسيع مطار حميميم باللاذقية، وتعزيز قواتها الجوية والبحرية، وزيادة عدد خبرائها العسكريين وعدد المقاتلين – اضافة إلى جلب قوات فاغنر- للمشاركة في العمليات البرية. أما بخصوص توفير الحماية الأمنية، كان لا بدَّ أن تقوم بإجراء إصلاح في القطاع الأمني التابع للنظام، الذي كان يشكل البطانة الملاصقة لرأس النظام. كما كانت التعيينات في المناصب العليا منوطة بأفراد عائلة الأسد مثل ماهر (أخو الرئيس بشار) الذي كان مقرباً من الإيرانيين لدرجة تقاربت لمستوى الشراكة في حكم البلاد.
في هذا الوقت كانت ركيزة رأس النظام دمشق الأجهزة الأمنية التي رعاها بمزيد التطوير لزيادة كفاءتها، وذلك جعله مستعدًا لقبول اقتراح الروس للمساعدة في إعادة تدوير هيكلية القطاع الأمني، خاصة لمعرفته المؤكدة أنَّ والده حافظ الأسد سبق أن قام بمثل هذا الاجراء بعد تسلقه لحكم سورية 1970، لقناعته بنجاح التجربة الستالينية التي تبنت عقيدة التلازم بين العسكرة والأمن كمفتاح سحري للاستبداد.
التقييم الروسي “استخبارات سورية قاصرة”
كان رأي الخبراء الأمنيين الروس، أن هيكلية القطاع الأمني السوري كان قاصراً منذ تاريخ سورية بعد الاستقلال، حيث كان مكوّناً من أربعة كيانات مخابراتية – أمنية مستقلة، وهي:
- الكيانات العسكرية: (تابعة لوزارة الدفاع)
- مديرية الاستخبارات العسكرية. القوات الجوية السورية.
- الكيانات السياسية: (تابعة لوزارة الداخلية)
-
- مديرية الاستخبارات العامة. يتبع لها (قسم الأمن الداخلي) و (قسم الأمن الخارجي).
- مديرية الأمن السياسي. يتبع لها (قسم الأمن الداخلي) و (قسم الأمن الخارجي).
أما بعد استلاب السلطة من قبل وزير الدفاع الطيار “حافظ الأسد” 1970،تطورت هذه الهيكلية السابقة، عندما تمَّ إحداث قسم “استخبارات القوات الجوية” لتكون البنية الحامية للنظام. وتمَّ تطويرها لتصبح هيئة مستقلة عن أمن الدولة، مختصَّة في مجال:
- الاستخبار الأجنبي منوطاً بهذه الهيئة.
- الاستخبار العسكري داخل الجيش
- كما أنيط به قمع الأنشطة المعارضة للنظام والصادَّة لكل محاولات قلب نظام الحكم.
إيران تقتحم المشهد الاستخباراتي
إثر تحالف نظام “حافظ أسد” مع نظام (الخميني-الملالي الإيراني) أثناء الحرب مع العراق سبتمبر 1980 حتى أغسطس 1988، أصبحت أجهزة الأمن العسكرية بقسميها، أكثر التحاماً مع إيران.
- مثال على هذا التلاحم الذي ما زال قائماً إلى اليوم، هو معارضة الايرانيين – المتواجدين في سورية برضى من النظام – منذ بداية الأزمة السورية للمبادرات الروسية في درعا.
- مثال آخر عن التنافس بين ايران والروس على الساحة السورية، هو أنَّ مديرية الاستخبارات العامة ومديرية الأمن السياسي يربطهما علاقات أوثق مع روسيا. وقد أدى التنافس الروسي-الإيراني في سورية، ازدياد حمى السيطرة على القرار السوري ما بين ايران وروسيا.
تعديل أمني طارئ
قام نظام الأسد في حزيران 2019، بتعديل طارئ على قادة أهم أجهزة الاستخبارات، عندما أحال من يسمون (الحرس القديم – أي البطانة الأمنية لحافظ الأسد)، وترقية علي مملوك من رئيس مكتب الأمن القومي إلى منصب نائب الرئيس للشؤون الأمنية. وقد رشح عن بعض المصادر يومها، تكهنات أنَّ الرئيس رغم ولائه الأكثر لروسيا، اضطر إلى هذا الإجراء لتخفيض حدة التوتر بين الروس والإيرانيين.
التجربة الروسية تتفوق
بعد تقييم الخبراء الروس مؤخراً للقطاع الأمني السوري، رشح عنهم ما يلي:
- تتضمن هذه التجربة الروسية منهجاً أمنياً حازماً وأكثر تشدداً مما هو عليه حال قطاع الأمن السوري اليوم.
- اقترح الخبراء الروس وبتشدد على الأسد إعادة هيكلة القطاع الأمني ليتوافق مع ضبط الأمن بالشكل الذي يكفل بقاء النظام.
ولكن من وراء الأكمة احكام سيطرة الروس على المشاركة في حكم البلاد، واضعاف النفوذ الإيراني بنفس الوقت.
السيناريو الأول:
يجب أن يتم استغلال سمعة وزارة الداخلية لتكون بعض القطاعات الأمنية تحت كنفها.
- إنشاء وزارة الأمن والشؤون الداخلية كي تصبح لها ولاية على:
- مديرية الأمن العام.
- مديرية الأمن السياسي.
وهذا بدوره يعزز وزارة الداخلية، ويمنحها صلاحيات حقيقية في السيطرة على الاستخبارات الأجنبية والاستخبارات داخل البلاد. كما يُسهل أيضاً لعديد من القطاعات المسلحة الموالية لروسيا، مثل فيلق الهجوم الخامس، وفرقة القوات الخاصة الخامس والعشرون، وبعض الجماعات الموالية لروسيا التي لا تكون ميليشياتها من الجيش النظامي، مثل “صائدي داعش”. وبذلك تصبح كجزء من وزارة الداخلية، وتعمل بصفة قوات حماية الحدود (الحد الشمالي الغربي السوري – الحدود العراقية – والحدود الأردنية).
السيناريو الثاني:
يحقق القضاء على ازدواجية المهام المتداخلة فيما بينها، وذلك دون إحداث، بل من خلال توسيع وتنظيم الهيكلية فقط.
على سسبيل المثال:
- تحويل قسم الاستطلاع التابع للقوات الجوية، باعتباره الهيكل الحامي لقادة النظام. وتعطى له الصلاحية لحماية الصف الأول من المسؤولين، وحماية المؤسسات الحساسة السيادية والحكومية. ويقترح مستقيلاً تحويلها كهيئة خدمية خاصة منفصلة عن القوات المسلحة.
- مديرية الأمن العام تصبح وكالة أمنية مستقلة.
- مديرية الأمن السياسي تصبح وكالة أمنية مستقلة.
- تُنقل الوحدات التابعة لاستخبارات القوات الجوية لتصبح هيئة إدارية مستقلة.
- تُنقل الوحدات التابعة لاستخبارات العسكرية لتصبح هيئة إدارية مستقلة.
- بذلك التعديل سيبقى دور وحدة الاستخبارات العسكرية متخصصاً بالعسكر فقط. وسوف ترتبط بهيئة الأركان العامة لأداء المهام التالية:
- الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالقوات المسلحة.
- العلاقات مع الجهات الأجنبية.
- توفير المعلومات الاستخباراتية عن العدو الخارجي مواقع المنشآت العسكرية للعدو.
السيناريو الثالث:
اقترح الخبراء تشكيل وزارة جديدة لأمن الدولة تتولى:
- إنشاء هيئة واحدة للأمن السياسي والاستخبارات.
- تخضع هذه الإدارة للسلطة التشريعية، التي سوف توافق على اختيار الوزراء. كما تمنع إساءة استخدام السلطة.
- تتولى هذه الهيئة أيضاً:
- إدارة الأمن العام.
- إدارة الأمن السياسي.
- الإدارات المسؤولة عن الأمن الداخلي.
- الإدارات المسؤولة عن الاستخبارات السياسية الخارجية.
- الإدارات المسؤولة عن الاستخبارات العسكرية. الإدارات المسؤولة عن الاستخبارات عن القوات الجوية.
- يقترح دمج مهام الاستخبارات التابعة لوحدات القوات الجوية والاستخبارات العسكرية في وكالة استخبارات واحدة وإلغاء قدرتها على جمع المعلومات السياسية.
- إنشاء وكالة أمنية تكون مسؤولة مباشرةً عن الحماية الشخصية للرئيس وكبار المسؤولين والمنشآت الحساسة والحكومية.
مآلات تحسين قطاع الأمن
الاستخبارات العسكرية المضادة
- يستلزم إصلاح الخدمات السورية إجراءات خفيّة لإنشاء استخبارات عسكرية مضادة فعالة كي تشمل مسؤولياتها منع وصول عملاء العدو لاستطلاع ما يجري في صفوف القوات المسلحة السورية. كما يجب على وكالة الأمن هذه أن تحارب الفساد في صفوف القوات المسلحة الذي يقوّض عادة القدرة القتالية للقوات المسلحة السورية، خاصة في فترة ما بعد انتهاء الأزمة الحالية.
- لا بدَّ من تركيز المراقبة بشكل رئيسي على القادة من المرتبتين العليا والمتوسطة لكشف أسباب الثراء الشخصي.
- كانت روسيا مصرة منذ فترة طويلة على وجوب إنشاء لجنة تفتيش لكبح الفسادفي الجيش العربي السوري، ولم يتحقق ذلك من أجل التغطية على القادة السوريين الحاليين .
توجد طريقتان لإصلاح الاستخبارات العسكرية المضادة:
- إنشاء هيكل خاص في إطار القوات المسلحة نفسها، بحيث يكون عرضة للمحاسبة أمام وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة.
- أو إنشاء هيئة خاصة داخل جهاز الأمن السياسي لضمان استقلالية عمل هذه الهيئة عن قيادة الجيش العربي السوري.
القوات الداخلية والحرس الوطني
نوقشت جزئيًا في السيناريو الأول مشكلة إنشاء تشكيلات عسكرية غير تابعة لوزارة الدفاع ولكنها لا تزال قادرة على أداء مجموعة واسعة من المهام العسكرية لوجود العديد من الجماعات المسلحة مثل قوات الدفاع الوطني التي يتطلب الحفاظ عليها بدلاً من تفكيكها. وبموجب السيناريوهات الثلاث، تصبح هذه التشكيلات الجديدة حجر الزاوية للقوات الداخلية والحرس الوطني. كما يمكن أن تشمل أيضاً قوات المعارضة وقوات سورية الديمقراطية، التي يمكن تنظيم أوضاعها وأنشطتها بقانون منفصل، أو أن يعامل أفرادها كعسكريين.
تعمل القوات الداخلية كجزء من وزارة الداخلية، أي كقوات أمنية داخلية يمكنها مثلاً أن تنتشر إلى جانب قوات الدفاع الوطني أو وحدات الاستجابة السريعة التي تهدف إلى قمع الاضطرابات الداخلية. يتكون الحرس الوطني في المقام الأول من قوات قبلية وتشكيلات منفصلة من الأقليات كالمسيحيين والدروز وجماعات المعارضة. وهذه تعمل بمثابة جيش بديل وربما إدارة منفصلة.
حرس الحدود
- يبدو من المناسب تشكيل قوات حدودية كاملة الأهلية لها صلاحيات استخباراتية في سورية ما بعد النزاع. على عكس القوات الداخلية والحرس الوطني، يجب عدم إنشاء حرس الحدود من تشكيلات محلية خشية أنْ يزيد من خطر التهريب، وإساءة استخدام السلطة. كما يجب ألا تكون لأعضائه أية روابط محلية بالمجتمعات الحدودية، وبالتالي ضمان المراقبة المستقلة للمرور على الحدود.
- يجب على حرس الحدود التعامل مع مهام مكافحة داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية المناورة في المناطق الصحراوية بين سورية والعراق، وردع التوسع الإيراني في سورية من خلال “الممر الشيعي”، ومنع أنشطة حزب العمال الكردستاني عبر الحدود السورية التركية.
- يمكن تضمينه إما في وكالة مسؤولة عن الأمن الداخلي، مثل وزارة الداخلية في السيناريو الأول أو وزارة أمن الدولة في السيناريو الثالث، أو أن يكون جزءًا من مؤسسة مستقلة يجري إنشاؤها للإشراف على أنشطته.
الحاجة إلى إصلاح الخدمات الخاصة
من الممكن أن يؤدي الافتقار إلى الإصلاح في الخدمات السورية الخاصة إلى:
- زيادة التنافس بين الفرقاء على تثبيت وجودهم في فترة ما بعدالأزمة، وخصوصًا أولئك الذين يرعون الجماعات المسلحة.
- من المتوقع حدوث نزاعات داخلية بين مختلف فروع الاستخبارات التي تتحكم في بعض المراكز السيادية والاقتصادية..
- من المحتمل أن تنشط في هذه الفترة خلايا داعش النائمة، مما يستدعي زيادة تمكين فروع المخابرات من توسيع سلطتها وافساح المجال لها المشاركة الفعالة في مجال تبادل المعلومات مع جهات أمنية لدول أخرى لها دوراً مهماً في جهود مكافحة الإرهاب.
الخلاصة
إنَّ سعي روسيا كي تبقى مسيطرة بانفراد كشريكٍ رئيسٍ لأي نظام سيحكم سورية – اليوم وفي المستقبل أيضاً -، جعلها تضغط دائماَ على الأسد بحجة تثبيت حكمه عن طريق إعادة هيكلة فروع الأمن. ولكي لا يبقى مستقبل القطاع الأمني السوري غير فعَّال، كان لا بدَّ من إعادة الهيكلة الشاملة للأجهزة الأمنية أمراً لا مفر منه إذا أراد النظام السوري أن يبقى في السلطة. لقد نجحت روسيا في اقناع الأسد بأنْ يستغلَّ القدرات الروسيّة البارعة في تدريب الخبرات الأمنية على نمط تجربة مخابرات الاتحاد السوفيتي و تجربة بوتين الحديثة. لقد جاءت السيناريوهات الثلاث بما يصبو له الأسد كي يحقق اندثار الثورة الشعبية إلى الأبد. لذلك شرع بتنفيذ خطة الروس، وقام بإجراء التغييرات الأمنية في ذيل كانون الأول 2023.