مقدمة
ابتهج أدباء مدينة حلب ومثقفوها بعودة “شامة الجنان” وهو لقب الأديبة مارينا مرّاش، عندما عادت من باريس، لتواصل استقبالهم في صالونها الأدبي بمنزل والدها فَتح الله الذي أسّس لأبنائه الثَّلاثة (فرنسيس، عبد الله، مريانا) مكتبة ضخمة في حيِّز من منزله أسماها “المكتبة المرَّاشيّة” كي ينهلوا منها العلوم والفنون المختلفة. كان هذا الأب ميسور الحال لعمله في التجارة. ولكنَّ ولعه الشديد في تطوير ثقافته، كان يرحب بمن يرتاد مكتبته من أعلام الثقافة والأدب في مدينة حلب، وجعل مكتبته بوابة للأدب والثقافة.
محطات في حياة ماريانا
في ولاية حلب التي كانت من أبرز الولايات السورية أيام الاحتلال العثماني، ولدَت مريانا مرَّاش عام 1848 لعائلة تتبع الطائفة الملكانيّة ( وهي تسمية تطلق على المسيحيين من الروم الأرثوذكس والكاثوليك الذين يتبعون الطقس البيزنطي، وهم من المسيحيين الأوائل من أحفاد حواريي المسيح). وكانت هذه العائلة قد برزت في الأوساط الحلبية بنشاطها في التجارة وجمعها لثروة طائلة خلال القرن الثامن عشر.
في تلك الفترة، كان على والد ماريانا أن يتجاوز المألوف في مجتمع كان العلم فيه أمراً مستهجناَ للإناث، إذ يحظر اختلاط النساء في مجتمع ذكوري لأيّ سببٍ كان، نتيجةَ التخلف والجهل السائدين في أوساط المجتمع بسبب الحكم العثمانيّ. ولكن الوسط الإجتماعي لهذه العائلة كان بخلاف ذلك لتميزهم في المجتمع الحلبيّ بالازدهار الأدبيّ والثقافيّ في تلك الحقبة المظلمة.
لذلك، في الخامسة من عمرها، دخلت مارينا مع أخويها المدرسة المارونية وتلقَّت أيضاً التعليم بإشراف راهبات القديس يوسف في حلب، ثمّ انتقلت إلى المدرسة الإنجيليّة في بيروت كي تدرس مبادئ اللغة العربية -في وقت كان العثمانيون يفرضون اللغة التركية كبديل للعربية- كما اهتمت في دراسة الحساب وبعض العلوم، إضافة إلى اللغة الفرنسية، وقد ساعدها والدها في تطوير تعليمها أصول اللغة الفرنسية، وقواعد الصرف والنحو والعروض في اللغة العربية عندما بلغت سن الخامسة عشر من عمرها، كما تتلمذت، أيضاً، بمساعدة أخويها في الأدب والمعرفة، ودراسة الموسيقا، ثم أتقنت جيداً -بجهد شخصي- الغناء والعزف على آلة القانون والبيانو.
وفي مرحلة متقدمة، انتقلت ماريانا إلى بيروت لمتابعة تعليمها في المدارس التبشيرية، فأحبّت اللّغة الفرنسيّة كثيراً. وهذا الشغف جعلها على معرفة وبيّنة على المجتمع الفرنسيّ وآدابه وعلومه. كما استنارت بالمبادئ الثوريّة في الأدب ومبدعي الحضارة الفرنسيّة، وأصبحت تحلم بزيارة فرنسا، وبأن تنقل مبادئها الثقافيّة إلى المجتمع العربيّ الذي كان متواضع الثقافة آنذاك.
لقد حرصت ماريانا على دحض التشويه الذي تعرضت المرأة السورية في العصور السابقة، حيث وُصِفت المرأة السورية – آنذاك – بالعزلة الإجتماعية التي أدت إلى افتقارها للعلم والثقافة والأدب. لكنَّ اقتحام ماريانا بجرأة وطموح شكَّل منعطفاً حاداً أ كان له أثر ٌفي تاريخ المرأة السورية والعربية كي تواكب المعاصرة التي تخدم مجتمعها.
مريانا الأدبية
أعطت مريانا اهتماماً خاصاَ من خلال إنتاجها الأدبي على ضرورة تحرير المرأة من قمقم الذكورية ثقافيّاً وفكريّاً لتأخذ دورها بشكل جاد ليصبَّ ايجابياً في رفع الوعي المجتمعي، مستندة في ذلك على التجربة الفرنسية آخذة بعين الإعتبار صياغة أفكارهنَّ التقدميَّة بما يتوائم مع العقائد الدينية والقيم العربية الأصيلة السائدة في تلك الفترة.
وجاء في باكورة مقالاتها دعوتها المرأة السورية قائلة:
”فما لنا لا نخلع عنا أثواب التَّواني والكسل. ونلبس أثواب النّشاط ونُقدم على العمل. ونحن من بنات القرن التاسع عشر الذي فاق في التمدّن كلَّ قرون البشر. كيف لا نُبيّن للرجال لزوم دخول النساء إلى جنَّات العلوم الأدبيَّة.“
الصالون الأدبي:
في تلك الحقبة المظلمة من حياة المجتمع السوري العثماني، كان من الأمور المعيبة أنْ ينعقد أي اجتماع يختلط فيه الرجال والنساء، خاصة في منتدى ثقافي واحد. لكنّ ماريانا تجرَّأت وجمعتهم في صالونها الأدبيّ حيث توجد المكتبة المرَّاشيَّة في منزل عائلتها. واعتبر ذلك الحدث، كأول ظاهرة انطلقت من سورية كي تُطبق مثيلاتها – فيما بعد- في مصر وبعض الدول الأخرى.
بدأت اللقاءات الثقافية في صالون ماريانا تزداد ألقاً عندما كانت الموسيقى والغناء تحتلان مساحة لا بأس بها مع السجالات الثقافة والمعرفية، ومنها مناقشة المعلّقات، وأعمال فرانسوا رابليه وغيرها من الأدباء الفرنسيين وسواهم.
وكان من أبرز الحاضرين في تلك الاجتماعات الثقافيّة رزق الله حسون، وقسطاكي الحمصي، وجبرائيل دلال، وكامل الغزي، والكثير من مثقفي حلب من الجنسين، إضافةً إلى دبلوماسيين أجانب.
المقالات الصَّحفيَّة:
تعدّ مريانا مرَّاش من أوائل النساء العربيّات اللواتي نشرن في المجلات العربيّة باسمهنّ الصريح. وكان أول مقال لها (شامة الجنان) في مجلّة الجنان عام 1870، في العدد الخامس عشر في عامها الأول من النشر. طرحت فيها موضوعات نقديّة للأعمال الأدبيّة في تلك الحقبة. ثمّ تتالت مقالاتها في مجلَّة (لسان حال)
إذ تطرَقت إلى موضوعات مجتمعيّة. حثّت فيها أبناء شعبها وبناته على التخليّ عن مظاهر الجهل في العادات والتقاليد السائدة،إضافةً إلى دعوتها لاقتباس المظاهر الحضاريّة المفيدة من الأمم المختلفة للنهوض بالمجتمع السوريّ.
لم تكن مقالات مريانا مرَّاش بدائيّة النهج، بل كانت تصيغها بلغة أديبةٍ مُبدعةٍ، تُمكّنُ المتلقي استلهام ما تبتغيه من أفكار بسلاسةٍ وجزلٍ مع إثرائها بالصور الحضاريّة المنوّعة، لكي تُرشد أبناء بلدها على المناحي الفكريّة والثقافيّة والإجتماعيّة.
نتاج فكري بحلَّة أدبية
كانت ماريانا تطرح القضايا الفكريّة المختلفة بأسلوبها الأدبي الرفيع، الذي كان يلقى استحسان كل روّادها من أهل الفكر والشعر والأدب. لذلك تمَّ تصنيفها من أوائل الشاعرات العربيّات، خاصة بعد أنْ صدر لها أول مجموعة شعريّة – لامرأة سوريّة -، تحت عنوان (بنت فكر) الذي طبع في بيروت عام 1893. وهو الديوان الشعري الوحيد في أعمالها.
جاء ديوان (بنت فكر) حافلاً بما لديها من فكرٍ - غريزيّ - متنوع، مما شكلَّ لها بصمة متميزة يتجلى فيها الحب والتفكير والتحرّر من الحال السائد في المجتمع المتخلف.
ومن ذكائها البارع، أنْ قامت ماريانا بإهداء ديوانها الشعريّ إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، كي تنبهه بشيء من العتب إلى أهمية تداول اللغة العربية بدلاً من اقصائها الذي فرضته فرمانات العثمانيين آنذاك. وكذلك كشفَت للسلطان بتورية أخّاذَة وهي تصف حالها، وما تعرّضت له من مضايقات بسبب فكرها المنفتح.
ومن أبيات هذه القصيدة:
إذا مددْتَ يداً في يومِ معركةٍ فتخمد النّار والأبطال ترتعد فلو كانت الأيَّام تنصف أهلها لما كان بينُ شتت الشَّمل بالبُعد
وبعدها توالت أعمالها الفكريّة مثل (تاريخ سوريا الحديث) الذي تحدّث فيه عن إرهاصات تاريخ سورية في أواخر حكم العهد العثمانيّ لها.
بصمات مرَّاش الإجتماعية
كان أثر أفكار ماريانا يتجاوز حدود مقالاتها، حتى أنه كان سبباً في ولادة حركة نسوية سورية ، عندما أقدمت عام 1880 على تأسيس جمعية علمية أدبية نسائية بمشاركة بعض سيدات سوريَّات تحت اسم (باكورة سوريا). وكانت أهدافهن تجسد أفكار مريانا ورؤاها في رفع الوعي النسائي لتحسين مركزهنَّ الإجتماعي. وجاءت مقالة ماريانا بعنوان “التربية”، كدعوة لطرد الخوف والوجل، داعية النساء لأن يَعتلينَّ ميادين الأدب بالخطاب العاقل والعمل الصالح.
ولم تخلُ مقالات ماريانا من تساؤلها حول الكتابة والمحتوى الأدبي والفكري، لطالما انتقدت أساليب الكتّاب المقعّرة في ذلك العصر ، داعية إلى تطوير أساليب الكتابة النمطيّة والإنشاء السفيف وتنويع الموضوعات.
وعندما سمع المصريون بصدى أعمال ماريانا، تشجعت السيدة “فريدة شكور” – مديرة مدرسة البنات الأميركية في القاهرة، بكتابة مقالة بعنوان “في النساء” نشرتها في مجلة “الجنان” عام 1874 استندت في صياغةتها على أفكار مريانا مرَّاش حول ضرورة تربية البنات كي يُصبحن مؤهلات لإعداد الأسر المتمدنة مستقبلاً.
ومن نشاط ماريانا، هو سعيها إلى نسج شبكة واسعة من العلاقات الثقافية ذات الاهتمام بالقضايا النسوية مع رائدات عصرها، كعائشة التيمورية (1840-1902) ووردة اليازجي (1838-1924) ووردة الترك (المتوفية 1873)، وصولاً إلى “مي زيادة“(1886-1941). وتؤكد البحوث عن الحركات النسائية في العالم العربي أنَّ ماريانا السوريَّة كانت أوّل سيدة عربية تكتب في الصحف، وأولى من أسست صالوناً أدبياً، سبقت زمنياً صالون “مي زيادة” في مصر.
ماريانا .. وأول صحيفة سورية
شهد عام 1865م صدور أول جريدة في هذه بلاد الشام، واسمها “سورية”، أصدرها “محمد راشد باشا” والي دمشق، حيث كانت تميل إلى بث الروح الوطنية السورية بأسلوب من التورية كي لاتتعارض مع الحكم العثماني آنذاك. وكان على رأس أهدافها إحياء اللغة العربية وآدابها. وقد اهتمت بنشر الأخبار أسبوعياً – كل يوم خميس – ستعرض النشاطات السياسية والاقتصادية والأحداث المحلية في كل من دمشق وحمص وحماة ودرعا.
استقطبت هذه الجريدة الكثير من الكتاب والأدباء ومنهم مريانا مراش - كأول سيدة تدخل عالم الصحافة السورية - ومعها عبد الرحمن الكواكبي وأحمد فارس الشدياق ورزق الله حسون وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وفرنسيس مرّاش (أخو ماريانا).
وبعد خمس سنوات توسعت ماريانا بنشر مقالات لها في جرائد ظهرت لاحقاً.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الثورة الصحفية امتدت في كل المدن السورية، حتى بلغ مجموع الجرائد والمجلات الصادرة خلال عامين، 42 جريدة، و13مجلة. وبذلك بات في سورية 55 دورية بين جريدة ومجلة، وهو رقم لم تعرفه الصحافة السورية في أي وقت. ولكن تغيَّر الحال بعد الإحتلال الفرنسي الذي قمع حرية الصحافة بقوانين جائرة.
قالوا في ماريانا مرَّاش
- كتب أشهر مؤرخي الصحافة العربية “الفيكونت فيليب دي طرازي” في كتابه “تاريخ الصحافة العربية” المنشور عام 1913م ترجمة كاملة عن”مريانا مرّاش” يؤكد فيها أنّها كانت أوّل سيدة عربية كتبت في الصحف “السيارة”، أي إنها الرائدة الحقيقية في هذا المجال. وأنَّها ولدت لأبٍ – فتح الله مرَّاش – الأديب الذي عُني بالمطالعة واقتناء الكتب، وجمع مكتبة نفيسة، وله كتابات عديدة مختلفة لم تطبع”.
-
تكتب هيلين سيكسوس وصفت ثورة مرَّاش قائلة: “إن الكتابة الأنثوية المنشودة، ككتابة، تتجاوز السلطة الذكورية في مغامرة البحث عن الذات، وككتابة، تستكشف قدرات المرأة المسكونة بالرعب، وترسم نساء في حالة طيران، وليس في حالة سير على الأقدام”
- الأديب قسطاكي حمصيّ قال: «كانت مريانا مرَّاش رقرقة الشمائل، عذبة المنطق، طيبة العشرة، تميل إلى المزاح، وقد تمكن منها داء العُصَاب في آخر سنيِّ حياتها حتى كانت تتمنى الموت كل ساعة».
-
سامي الكيالي «عاشت مريانا حياتها في جو من النعم والألم، عاشت مع الأدباء والشعراء ورجال الفن وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيين وأدباء العرب فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث». واعتبر ظهور مريانا مرّاش "في هذه الليالي المظلمة كنجم ساطع في وسط السموات".
- يرى د. محمد علي اسماعيل: ” أن ريادتها تتأتى من كونها صاحبة الموضوع الأول المشتمل على الأفكار الأولى؛ التي أثرت في الآخرين، فتأثر بها الآخرون وساروا على منوالها، أو استفادوا منها”
-
كتب المؤرخ الحلبيّ محمد راغب الطبّاخ أنها كانت إحدى الشخصيّات الفريدة في مدينة حلب، إذ يقول: «فنظر الناس إليها بغير العين التي ينظرون بها إلى غيرها»، ويكمل قائلا: «وتهافت الشبان على طلب يدها»، إذ أنه ورغم تقدَّم الكثير من الشباب لخطبتها، إلا أنها آثَرَت في البداية أن تبقى عزباء.إلا أنها اقتنعت بالزواج بعد وفاة والدتها، وتزوَّجت من حبيب الغضبان، سليل العائلة المسيحيّة المحليّة. وقد أنجبا ثلاثة أطفال، فتاتين وولد.
وفاة ماريانا
توفيت مريانا مرَّاش عام 1919 في مدينة حلب، عن عمر يناهز 71 سنة.
وحسب ما جاء في تعريف بمريانا كتبته الصحفية اللبنانية “لبيبة هاشم” في صحيفتها “فتاة الشرق”، أنَّ ماريانا في أخريات سنيها كانت تعاني من مرض “العصاب” الذي أودى بحياتها في حزيران من عام 1919 عن عمر يناهز 71 سنة. وبعد وفاة المرَّاش قامت صاحبة المطبوعة “هاشم” بسدِّ الفراغ الذي تركته ماريانا بأن استكتب الباحث “إسكندر المعلوف” لباب “شهيرات النساء” في ذات الصحيفة، لكن البعض يعتبر أنّ أوّل من كتب عن ماريانا بعد وفاتها هو الأديب الشهير “جرجي نقولا باز” في كانون الأول/ يناير من العام 1919، لمجلة “الخدر” النسائية لصاحبتها عفيفة صعب.
ختام القول
تُجِمع الدراسات التي تناولت حياة مريانا مرَّاش على أهميتها في الصحافة العربية المعاصرة، وريادتها التي تمثلت في تأثيرها على بنات جيلها والجيل الذي يليه. ومن الجدير بالذكر أنها جاءت في زمن أطبق الظلم على المرأة العربية تحت وطأة الجهل السائد جراء تطبيق ثقافة السلاطين العثمانيين وولاتهم في الأمصار العربية آنذاك، لكنَّ انشغال ماريانا بقضايا التخلف بشكل عام، والمرأة العربية بشكل خاص، كان أشبه باخراج مارد التحرر من القمقم العثماني. وبعدها شرعت في تأسيس الجمعيات النسائية ليجدوا الحلول المناسبة لتحرير النساء من خلال التعليم ورفع مستوى الوعي والاستنارة بالتحرر الخلاق من القيود، مما أدى لاحقاً لبلورة مشاريع فكرية قامت بها النساء في سورية ومصر والوطن العربي.