تمهيد
ككاتبة تحمل في وعيها الجمعي جذوراً أرمنية وتربيت على أرضٍ سورية، أعجز عن التعبير عن الروابط العميقة التي تجمعني بتاريخين أليمين لهذين البلدين. ولدت ونشأت في سوريَّة، في كنف عائلة أرمنية حيث كان جدي -وهو في التسعين من عمره- يلقنني بما شَكَّلَ جزءاً من هويتي الأرمنية، وصاغ باقي أجزاءها من قصصه عن احتضان السوريين للأرمن الذين بقوا أحياءً ووصلوا هذا البلد، وأسكنوهم بيوتهم سراً، رغم أنف السلاطين الأتراك الذين كانوا يحتلون تلك الدول العربية. لقد كانت قصص جدي مؤثرةً في تكوين شخصيتي وأنا طفلة لأنها تركت في قلبي جروحاً عميقة لا تُنسى.
سرديات .. كانت البداية
كنت أسمع قصصاً عن أرمينيا الأم وأهلها، عن ثقافتهم الغنيَّة وتاريخهم العريق، وكانت أحلامي تُحَلِّق بين سحب الحنين إلى الوطن الذي لم أزره إلا في فترات لاحقة بعد انفراط الإتحاد السوفييتي عام 1991. لكنْ في الوقت نفسه، كانت سوريَّة الوطن الحقيقي الذي عشت فيه أسعد أيام حياتي، حيث كان أصدقاء الدراسة والجيران جزءاً من عائلتي والشوارع وأزقة “باب شرقي”، و”سوق الحميدية” كلها تزيد صباي بألقها التاريخي الذي ما زال حياً ويتجدد.
ولكن الحياة أحيانًا تقدم لنا مفاجآت لا تُنسى، وعلى الرغم من حبي الشديد لسوريَّة، اضطررت لمغادرتها بسبب الظروف القاسية التي تعصف بالبلاد. الرحيل كان قرارًا مؤلمًا، تركت خلفي أمنياتي وأحلامي وذكرياتي، وانطلقت في رحلة اللجوء -كما فعل أجدادي الأرمن- بحثًا عن أمان وأمل جديد.
وها أنا الآن في بلد الاغتراب القسري السويد. بلدٌ جديدٌ يحمل في طياته الأمل والفرص، لكن قلبي ما زال ينبض بحنينٍ وشوقٍ لأرمينيا وسوريَّة، لتلك الأماكن التي شكلتني وصقلت شخصيتي، لتلك الثقافات الغنية والتاريخ العريق الذي يجعلني أفتخر وأتحسر في الوقت نفسه.
انبثاقُ الكامن في الوعي
إن المجزرتين التي تعرض لها شعبي الأرمن والسوريين، ليست مجرد أحداث تاريخية بالنسبة لي، بل هي أجزاء من تكوين شخصيتي وارتباطها العميق في كينونتي التي يتماهى بها الوطن مع الأصول. من خلال كتابة هذا المقال، أرغب في إلقاء الضوء على التشابه والتباين بين هاتين الكارثتين الإنسانيتين، وإيصال صوتي كمواطنة سوريَّة متأثر’ ومشاركة في تاريخهما المؤلم.
لذلك، أدعوكم إلى الانغماس معي في رحلة لاستكشاف تلك القصص المؤلمة، والتأمل في دروسها والبحث عن آفاق جديدة للأمل والتضامن الإنساني. ولنتحدث معاً عن تلك القصص، ولنبني جسورًا من الفهم والتعاطف والتضامن.
تشابه وتباين: مجازر الأرمن ومأساة الشعب السوري
مجازر الأتراك بالشعب الأرمني
تشير “مجزرة الأرمن” إلى سلسلة من الأحداث الوحشية التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى وخلال الفترة التي تلاها في الفترة ما بين 1915 و 1923. خلال هذه الفترة، قامت الحكومة العثمانية العثمانية بسياسة إبادة جماعية ضد الشعب الأرمني الذي يعيش في الإمبراطورية العثمانية.
تضمنت هذه الجرائم العديد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل الجماعي للمدنيين الأرمن، والتعذيب، والاغتصاب، والتهجير القسري للسكان الأرمن. تقدر حصيلة الضحايا بمئات الآلاف إلى مليوني شخص (الإحصائيات متضاربة بسبب تأخر زمن البحث فيها)، وتعتبر هذه الأحداث إحدى أكبر المجازر في تاريخ القرن الذي مضى.
تعتبر مجازر الأرمن حالة نموذجيَّة للإبادة الجماعيَّة، حيث كانت تستهدف بشكل مباشر الهوية العرقية والدينية والثقافية للشعب الأرمني. ورغم مرور العقود على هذه الأحداث، إلا أن الإعتراف الدولي بها كإبادة جماعيَّة ما زال يثير جدلاً كبيرًا، خاصةً بين تركيا والدول التي تعترف بهذا الوصف.
يعتبر الاعتراف بمجازر الأرمن وتقديم العدالة للضحايا وأسرهم ومجتمعهم من الخطوات الهامة نحو تحقيق المصالحة وتعزيز حقوق الإنسان والعدالة العالمية.
مجازر الأسد في سوريَّة
تشكل سلسلة الأحداث المأساوية التي بدأت في عام 2011 في إطار الثورة السورية، علامة فارقة في تاريخ الاستبداد والطغيان الذي حاق بالشعب السوري إبان حكم آل الأسد منذ عام 1970. ويمكن القول أنَّ المجزرتين متشابهتان في العديد من الجوانب، بما في ذلك عدد الضحايا والمهجرين، ولكن تختلف في أسبابها وظروفها.
في الحقيقة، رغم أننا نعاصر زمن الإعلام المفتح، ما زال يصعب تحديد عدد شهداء سوريَّة بدقة حتى الآن، وذلك بسبب استمرار الصراع الدائر في البلاد وتناقص مصادر المعلومات الموثوقة.
وإليك مثالاً عن إحصائية عن عام 2023، وهو العام الذي يعتبر من أقلِّ الأعوام التي شهدت إجرام النظام وحلفائه:
أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان في 31 ديسمبر 2023، بأن أكثر من 4360 شخصًا قد قتلوا في سوريَّة خلال عام 2023. يشمل هذا الرقم 1889 مدنيًا، و 898 من قوات النظام، و 600 مقاتل من المجموعات الموالية للنظام، والباقي من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية والفصائل المعارضة وقوات سوريَّة الديمقراطية. ويعتبر هذا العدد أعلى حصيلة سنوية للقتلى منذ عام 2022، عندما سجل المرصد 3800 قتيل.
الأمم المتحدة: لم تصدر الأمم المتحدة أي تحديثات محددة لعدد القتلى في سوريَّة منذ عام 2022، عندما قدرت ممثلة الأمم المتحدة الخاصة في سوريَّة، "Pramila Batten"، عدد القتلى بأكثر من 500 ألف شخص.
ملاحظة:
- من المهم التأكيد على أن هذه الأرقام تقريبية وقد تختلف من مصدر لآخر.
- كما أن هذه الأرقام لا تشمل أعداد وفاة المعتقلين في أقبية النظام، وكذلك حالات الوفاة بسبب الجوع أو الأمراض أو نقص الرعاية الطبية، والتي قد تكون كبيرة أيضاً.
المجزرتان وجهان متناظران للاستبداد
تتشابه هاتان الحالتان في العديد من الجوانب، بما في ذلك عدد الضحايا والمهجرين، ولكن تختلف في أسبابها وظروفها.
بدايةً، يمكن التشابه بين مجزرة الأرمن ومجازر الأسد من خلال عدد الضحايا والمهجرين. في كلتا الحالتين، تعرض الأبرياء لمذابح جماعية، ونتج عنها مقتل مئات الآلاف وتهجير الملايين. وفقًا للإحصائيات، تشير التقديرات إلى أن ما بين 1.5 إلى 2 مليون أرمني قتلوا في مجزرة الأرمن، بينما يفوق عدد القتلى في الحرب السورية تجاوز 500 ألف شخص (حسب احصائيات مختلفة)، وتقدر الأمم المتحدة عدد المهجرين السوريين بأكثر من 6 ملايين شخص.
الاختلاف في الأسباب فقط
تختلف أسباب كل من هذين الحدثين بشكل كبير. في حالة مجزرة الأرمن، كانت الأسباب متعلقة بالعنصرية والسياسات القومية التي اعتمدتها الإمبراطورية العثمانية، مما أدى إلى محاولة إبادة الأرمن كمجموعة عرقية.
أما فيما يتعلق بمجازر الأسد في سوريَّة، فإن الأسباب تتعلق بالصراع السياسي والانتفاضة الشعبية ضد نظام الحكم القمعي والفساد، مما أدى إلى حرب بين النظام والشعب المسحوق ظلماً.
- التشابه في الطابع الإنساني للمعاناة: يمكن التطرق إلى التشابه في الآثار النفسية والاجتماعية للمجازر على الأفراد والمجتمعات في كلا الحالتين، بما في ذلك الآثار العاطفية الدائمة والتداعيات الاقتصادية على الأسر المتضررة.
- التأثير على الثقافة والهوية الوطنية: يمكن التطرق إلى كيفية تأثير هذه المجازر على الهوية الوطنية للشعبين، وكيف أن المعاناة والتشرد يمكن أن تؤثر بشكل كبير على العلاقة بين الأجيال وعلى الإرث الثقافي والتاريخي للشعب.
- المحاولات لإنكار المجازر ونفيها: يمكن التطرق إلى الجهود التي بذلتها الحكومات المعنية لإنكار المجازر وتشويه الحقائق، وكذلك دور النفي والتضليل في تجاهل الجرائم الواقعة.
- المحاكمات الدولية والعدالة الانتقامية: يمكن التحدث عن الجهود الدولية لتحقيق العدالة، بما في ذلك المحاكمات الدولية ومحاولات تقديم المسؤولين عن الجرائم للعدالة، وكذلك توثيق الجرائم والأدلة للتأكد من عدم تكرارها في المستقبل.
- الدروس المستفادة والتأثير على السياسات العالمية: يمكن التطرق إلى كيفية تأثير هذه المجازر على سياسات الحفاظ على السلام العالمي وحقوق الإنسان، وكذلك دور الذاكرة التاريخية في تشكيل سياسات الدول والمجتمعات في المستقبل.
ردود فعل دول العالم
علاوة على ما ذُكر، تتباين الاستجابة الدولية لهاتين الأزمتين. في حالة مجزرة الأرمن، لم تكن هناك استجابة دولية فعالة لوقف المذابح، بينما فيما يتعلق بمجازر الأسد في سوريَّة، هناك تدخل دولي محدود ولكن مؤثر، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية والدعم للمجموعات المعارضة.
ردود الفعل العالمية تجاه الأحداث تباينت أيضاً. في حالة مجزرة الأرمن، استنكرت بعض الدول الغربية الأحداث، لكنها لم تتخذ إجراءات فعَّالة لمنعها. أما في حالة مجازر الأسد في سوريَّة، فقد أثارت القضية ردود فعل متباينة، مع تضارب في الدعم الدولي للمعارضة وتأثير القرارات الدولية على الأرض. بالنهاية، تجسَِد مجازر الأرمن ومجازر الأسد في سوريَّة فظاعة الحروب والتمييز العنصري، وتذكير بأهمية الحفاظ على حقوق الإنسان وضرورة العمل الدولي المشترك لمنع وقوع المزيد من المأساة والدمار في المناطق المتضررة.
وأختم ، أنَّه في خضم الألم والمعاناة، تظهر الروح الإنسانية بكامل قوتها، تنير الظلام بضوء الأمل، وتنشر الحب في قلوب الناس. من خلال مشاركتي لقصتي ككاتبة تحمل في داخلها جذورًا أرمنية وتربت على أرض سورية، كنت أسعى إلى إبراز التشابه والتباين بين مجازر الأرمن ومجازر الأسد في سوريَّة، وإلقاء الضوء على العواقب الإنسانية العميقة لتلك الكوارث.
إننا بحاجة إلى الاستماع إلى آراء الناس وفهم تجاربهم، لأنها تعزز التضامن والتفاهم بين الشعوب. وبالرغم من المحن والمصاعب التي يمر بها الناس، فإن روح الإرادة والأمل تظل قوية، والتعاطف والتضامن يظلان مفاتيح البقاء والتغلب على الصعاب.
فلنعمل معًا، بغض النظر عن أصولنا الإثنية والدينية و جنسياتنا، على بناء عالم يسوده السلام والعدل، حيث يحظى كل إنسان بالكرامة والحرية التي يستحقها. ولنحافظ على الذاكرة ونستخلص الدروس من التاريخ، لكي لا يتكرر الظلام مرة أخرى، ولكي نبني مستقبل أفضل للأجيال القادمة.
فلنتحد جميعاً من أجل السلام والعدالة والمحبة، ونبذل جهودنا لتحقيق أماني الشعوب في عالم ينبض بالحياة والأمل.
لنبقى متحدين، منكم وإليكم، بكل حب وتضامن.
وتكريماً لجذوري الأرمنية أختم بترجمة الأسطر في ذيل المقال إلى اللغة الأرمنية:
“Սաղմոսականություն համարներին՝ մը բոլորովին միասին մեզի համար խաղաղության, արդապատության և սերը՝ ու մեր համար գործարքները անցնելու համար, հավատարմագրության ամբողջական աշխարհում, որ կաշկերայի կենարարությունը ու հուրահավատությունը։
Մնացենք միավորված, ուղղակի մեր միջոցներով, սենց մեզնից և ձեզից, ամբողջ սիրով և համագործավառությամբ։”