مقدمة:
لطالما كان الخبز حجر الزاوية في الأمن الغذائي في سوريا. وباعتباره أحد المواد الغذائية الأساسية في النظام الغذائي السوري، فإن توافر الخبز أمر بالغ الأهمية لملايين السوريين. وإدراكاً من الحكومة لأهمية الخبز، فقد فرضت لوائح محددة لتوزيع دقيق القمح، وقدمت الدعم والإشراف على المخابز التي تديرها الدولة والمخابز الخاصة.
تاريخياً، واجه السوريون تحديات كبيرة في الحصول على الخبز في أوقات الأزمات الاقتصادية، خاصة بعد سيطرة النظام البعثي على السلطة عام 1963، وبدء تطبيق سياساته الاقتصادية الاشتراكية. وسعت هذه السياسات إلى تحويل سوريا من اقتصاد السوق المفتوحة إلى اقتصاد اشتراكي. وبمرور الوقت، أدت هذه الإجراءات إلى العديد من أوجه القصور، لا سيما عدم قدرة الحكومة على ضمان توفير إمدادات كافية من الخبز. وربما ما لا تعرفه عن أزمة الخبز في سوريا وعلاقتها بالبراميل المتفجرة!
ظاهرة جديدة: الطوابير الطويلة على المخابز
قبل التحول نحو الاشتراكية، كانت المخابز في سوريا مملوكة للقطاع الخاص، وكان أصحاب المخابز يتنافسون على توفير أنواع مختلفة من الخبز، وغالباً ما كانوا يوصلونه مباشرة إلى منازل الزبائن. ولكن، بعد الانقلاب البعثي في مارس 1963، بدأ السوريون يواجهون عقبات كبيرة في الحصول على المواد الغذائية الأساسية، وخاصة الخبز.
في عام 1967، ومع تضخم عدد سكان سوريا بالنازحين من هضبة الجولان، أصبح فشل النظام في تلبية الطلب المتزايد على الخبز أكثر وضوحاً. وفرضت الحكومة البعثية قيوداً صارمةً على توزيع الدقيق، مما أجبر مادة الخبز على دخول السوق السوداء. كان هذا الأمر إشكالياً، يفتك بشكل خاص المدن الصغيرة والمناطق الريفية، حيث أصبح الحصول على الخبز صعباً بشكل متزايد.
كانت القرى النائية -لبعدها عن المدن الكبيرة- هي الأكثر تضرراً، حيث الطبقة المجتمعية الفقيرة تعاني من نقص حاد في الخبز. وقد أدى رفض الدولة السماح للقطاع الخاص بالمشاركة في بناء مخابز جديدة إلى تفاقم الوضع.
سياسة النظام ”التجويع مقابل الخضوع“
استخدمت الأنظمة الشمولية تاريخياً الجوع كسلاح، حيث اتبعت سياسة ”التجويع مقابل الخضوع“. تتضمن هذه الاستراتيجية حرمان المواطنين من الخبز وبعض أصناف المواد الغذائية لقمع رفضهم للنظام كأمر واقع، وبالتالي إجبارهم على الخضوع. هذه الطريقة ليست جديدة، فقد استخدمتها العديد من الأنظمة الديكتاتورية على مر التاريخ.
وقد أتقن النظام البعثي في سوريا هذا التكتيك، حيث استخدم الجوع للسيطرة على الشعب السوري والتلاعب به. تجلت هذه السياسة بعدة طرق:
- السيطرة والقمع: تم استخدام الجوع لسحق إرادة الشعب ومنعهم من التعبير عن معارضتهم أو المطالبة بحقوقهم.
- العقاب الجماعي: استُخدم التجويع كعقاب جماعي رداً على أعمال التحدي أو التمرد.
- فرض سياسات محددة: غالباً ما كان النظام يستخدم الحرمان من الطعام لفرض سياسات مثل الهجرة القسرية أو الاستيعاب الثقافي كخيار بلا اختيار.
التجويع المستدام يقوّي التدمير بالبراميل المتفجرة:
كان الاستخدام المنهجي للبراميل المتفجرة ضد السكان المدنيين من أكثر النتائج المرعبة لحملة الأسد القمعية القاسية ضد الناشطين الذين طالبوا إما بالإصلاح أو تنحيه. ولكن لم تكن القنابل وحدها هي التي تسببت في المعاناة. فقد نفذ الأسد أيضاً سياسة متعمدة للتجويع والحصار، ومعاقبة المجتمعات النازحة داخل سوريا وحتى استهداف عائلات الفارين إلى الخارج.
وكثيراً ما أشار الأسد في خطاباته -متباهياً- إلى تطبيق العقاب الجماعي، مما يدل على نيته كسر إرادة الشعب السوري من خلال التجويع الجماعي. وباتباعه هذه السياسة، بدا الأسد وكأنه يقتدي بالفظائع التي ارتكبها ديكتاتوريون مثل هتلر وستالين، إلا أنه تجاوزهم في استخدامه الوحشي للجوع كأداة للإخضاع.
من الأمثلة الرئيسية على ذلك تكتيكات الحصار والتجويع التي استخدمها في مناطق مثل حمص القديمة والغوطة الشرقية والغربية وجنوب دمشق ومعظم المناطق الأخرى. وفي حين ألحقت الغارات الجوية والبراميل المتفجرة دماراً هائلاً، إلا أن سياسات الحصار والتجويع الممنهج والمستدام هي التي أجبرت هذه المناطق في نهاية المطاف على الخضوع.
ليس بفقدان الخبز فقط يموت الإنسان: استراتيجية الحصار الشتوي
في كل عام، مع اقتراب فصل الشتاء، يفرض نظام الأسد حصاراً جديداً في جميع أنحاء سوريا، ويقطع الوصول إلى الإمدادات الأساسية مثل المحروقات -خاصة المازوت- والغاز المستعمل للتدفئة والطهي. ويمارس هذا الحصار ضغطاً أكبر على النازحين السوريين الذين يعيشون في المخيمات أو المنازل المدمرة جزئياً. ويؤثر نقص التدفئة خلال فصل الشتاء القاسي بشكل كبير على الصحة العامة، حيث يعتبر كبار السن والأطفال الأكثر عرضة للخطر.
يؤثر نقص المازوت على إنتاج الخبز، حيث تكافح المخابز لمواكبة الطلب في ظل ارتفاع الأسعار ومحدودية الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، تصبح مضخات المياه التي تزود السكان المدنيين بالمياه غير صالحة للاستخدام، وتواجه المستشفيات نقصاً حاداً، مما يزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية. كما ترتفع تكاليف نقل البضائع بشكل كبير، مما يزيد من العبء العام على الأسر السورية.
الخاتمة
أدت سياسات التجويع التي ينتهجها نظام الأسد، إلى جانب حملات البراميل المتفجرة، إلى معاناة عميقة للسكان السوريين. ولا تُستخدم هذه الاستراتيجيات الوحشية كأداة للقمع فحسب، بل أيضاً كوسيلة لإعادة تشكيل المجتمع السوري وفقاً لطموح الأسد البقاء في الرئاسة ما دام حياً.
ولكنَّ استمرار الثورة أربع عشرة عاماً ضد نظام الأسد ما زالت تقض مضجع الأسد وتزيد في تغوله ضد شعب لا يستحق الموت جوعاً أو بالبراميل المتفجرة.