في قلب الصراع: نظرة متأنية
عندما يظهر دونالد ترامب في الساحة السياسية، سواء عبر تصريحاته المثيرة للجدل أو ظهوره على منصات التواصل الاجتماعي، يتولد انطباع بأنه شخصية قوية وغير تقليدية. وسائل الإعلام والمحاورون غالباً ما يصورونه كرجل لا يخشى المواجهة ومستعد لاتخاذ قرارات حاسمة، حتى وإن كانت مثيرة للانقسام. ولكن عند التدقيق في تحركاته وتصريحاته، خاصة في هذه المرحلة الحرجة من حملته الانتخابية، قد يتبين أن الصورة الحقيقية أكثر تعقيداً.
الزعيم الجريء أم التاجر المتردد؟
للوهلة الأولى، يبدو أن ترامب يرسم نفسه كرجل قوي، ويستفيد من هذه الصورة لاستقطاب قاعدته الانتخابية. في خطابه السياسي، دائماً ما يتحدث عن “استعادة العظمة” ويعد الناخبين بإجراءات قاسية ضد المهاجرين، وانتقاداته اللاذعة للمؤسسات الإعلامية والسياسية التقليدية. بل إنه تعهد في حملته الأخيرة باتخاذ موقف صارم تجاه منافسي الولايات المتحدة مثل الصين، وتفاخر بأنه سيكون أكثر قوة من أي رئيس أمريكي سابق. لكن هل هذه القوة الحقيقية أم مجرد استعراض؟
عندما ننظر إلى تحالفات الولايات المتحدة التقليدية، مثل كوريا الجنوبية واليابان وأوكرانيا ودول الخليج، نجد أن الإدارات السابقة لم تدخر جهداً في تقديم الدعم الدبلوماسي والعسكري لهذه الدول، حتى وإن كانت التحديات تواجهها من دول عظمى مثل روسيا وكوريا الشمالية. وبالنسبة لدول الخليج، مثلاً، فهي تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة للحصول على الأسلحة والدعم العسكري في مواجهة تهديدات إقليمية مثل إيران.
ومع ذلك، خلال فترة حكم ترامب، ظهرت مؤشرات على ضعف استراتيجيته، حيث اتجه إلى طلب “الإتاوات” من بعض الحلفاء التقليديين مثل السعودية واليابان مقابل “حمايتهم”. هذا النوع من السياسات يذكرنا بأفلام الفتوات في السينما المصرية، حيث كانت الشخصيات القوية تفرض إتاوات على الضعفاء مقابل الحماية. فهل هذا هو النموذج الذي يريده ترامب للولايات المتحدة في المستقبل؟
تصريحات ترامب وعلاقاته بالمستبدين
أحد النقاط البارزة التي تثير التساؤلات حول مدى قوة ترامب الحقيقية هي إعجابه المعلن بزعماء مستبدين مثل فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون. على سبيل المثال، في مناسبات عديدة أشاد ترامب ببوتين، مشيراً إلى أنه “قائد قوي”، وهو تصريح أثار استياء العديد من المحللين السياسيين، الذين يرون أن روسيا تعتبر تهديداً للنفوذ الأمريكي في أوروبا والشرق الأوسط. بل إن ترامب في حملته الانتخابية كان قد اقترح علناً إمكانية تخفيف العقوبات المفروضة على روسيا، مما يثير تساؤلات حول مدى استقلاليته في اتخاذ قرارات تتعلق بأمن الولايات المتحدة وحلفائها.
لا يمكن إنكار أن ترامب، كرجل أعمال ناجح، يرى العالم بمنظور براغماتي بحت. لكن هذا التفكير التجاري قد يجعله عرضة للتهور في القرارات الاستراتيجية. فعلى الرغم من إعلانه المتكرر بأن الولايات المتحدة يجب أن تبقى قوية، فإن موقفه تجاه المستبدين والزعماء الطغاة يظهر عكس ذلك. فهو يفضل التعامل معهم والاعتراف بنفوذهم بدلاً من مواجهتهم أو اتخاذ إجراءات صارمة ضدهم.
اقتباسات من دونالد ترامب حول الجولان المحتل:
في مارس 2019، أعلن ترامب عبر تغريدة على حسابه في تويتر:
“بعد 52 عاماً، حان الوقت للولايات المتحدة أن تعترف تماماً بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان، التي تتميز بأهمية استراتيجية وأمنية حاسمة بالنسبة لدولة إسرائيل واستقرار المنطقة.”
(“After 52 years it is time for the United States to fully recognize Israel’s Sovereignty over the Golan Heights, which is of critical strategic and security importance to the State of Israel and Regional Stability.”)
خلال مراسم التوقيع على الإعلان الرئاسي، قال ترامب في البيت الأبيض في 25 مارس 2019:
“لقد كانت هذه المنطقة جزءاً من إسرائيل منذ عقود، وهي جزء أساسي من استراتيجيتها الدفاعية. اليوم، تقوم الولايات المتحدة بالاعتراف الكامل بهذا الحق.”
(“This was a long time in the making. It should have been done decades ago. Today, the United States recognizes Israel’s absolute right to defend itself.”)
كامالا هاريس أم ترامب: من الأقوى؟
إذا أردنا مقارنة ترامب بشخصية سياسية أخرى مثل كامالا هاريس، فإن الفرق يظهر بشكل جلي. هاريس، بصفتها نائبة الرئيس في إدارة بايدن وأحد الشخصيات البارزة في الحزب الديمقراطي، تعتبر نفسها صوتاً قوياً للعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. في مناظراتها مع ترامب، غالبًا ما تسلط الضوء على التزامها بالتحدي والمواجهة في القضايا العالمية، وخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان ودعم الديمقراطية. فهي تؤكد على أهمية الوقوف ضد الأنظمة القمعية، وهو موقف يتعارض بشكل مباشر مع توجهات ترامب نحو التعايش مع المستبدين.
كما أن كامالا هاريس، وخلال العديد من المناظرات، لم تتردد في انتقاد نهج ترامب تجاه حلفاء الولايات المتحدة، مثل قراراته بالانسحاب من الاتفاقات الدولية أو تهديداته بفرض رسوم جمركية على حلفاء استراتيجيين مثل الاتحاد الأوروبي وكندا. بالنسبة لها، القوة لا تكمن في فرض الإتاوات أو تقديم التنازلات للأنظمة القمعية، بل في بناء تحالفات قوية ترتكز على المبادئ.
التعامل مع المهاجرين: قضية الداخل الأمريكي
من ناحية أخرى، تعد قضية المهاجرين في الولايات المتحدة أحد المجالات التي أظهر فيها ترامب موقفاً متشدداً. فقد أعلن في حملته الانتخابية عن خطط لترحيل ملايين المهاجرين غير الشرعيين، وهو موقف أثار قلق العديد من الأمريكيين، خاصة أولئك الذين يعتبرون أن المهاجرين يمثلون جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلاد. على العكس، غالباً ما تدافع كامالا هاريس عن حقوق المهاجرين، مشددة على ضرورة إيجاد حلول إنسانية لقضايا الهجرة بدلاً من السياسات القاسية التي تزيد من الانقسامات.
هذا التباين بين ترامب وهاريس يظهر بوضوح في سياساتهم تجاه قضايا الداخل والخارج. بينما يركز ترامب على استعراض القوة بشكل قد يبدو سطحياً، تحاول هاريس إظهار القوة من خلال التزامها بمبادئ العدالة والمساواة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي.
هل يتغير ترامب بعد دخوله البيت الأبيض مجدداً؟
مع تصاعد حملته الانتخابية وزيادة التوترات العالمية، يبقى السؤال حول ما إذا كان ترامب سيظل على نفس النهج في حال فوزه بالانتخابات المقبلة. قد تكون تصريحاته وتصرفاته الحالية مجرد أدوات لجذب الانتباه وكسب دعم قاعدته الانتخابية، لكن الأمر سيتطلب منه اتخاذ قرارات أكثر حكمة عندما يصبح في البيت الأبيض مجدداً.
أما السيدة كامالا هاريس، فإنها تمثل الجانب الذي يؤكد على الاستقرار الدولي، بناء التحالفات، واحترام القوانين الدولية، وهو ما يجعل مناظراتها مع ترامب مسرحاً للصراع بين قوتين مختلفتين، واحدة قائمة على البراغماتية والصفقات، والأخرى مبنية على المبادئ والقيم.
اقتباسات من كامالا هاريس حول رؤيتها للشرق الأوسط:
بدت كامالا هاريس -ظاهرياً- أكثر عقلانية من منافسها ترامب عندما أعربت عن مواقف داعمة لحلول عادلة في المنطقة. ومن الواضح أن هاريس تُركز على شراكة أعمق مع إسرائيل وحل دبلوماسي للقضايا الإقليمية، بينما ترامب قام بخطوة فعلية لتغيير الواقع على الأرض عبر اعترافه بسيادة إسرائيل على الجولان.
في مقابلة مع موقع Jewish News Syndicate في أغسطس 2020، أكدت هاريس دعمها لحل الدولتين قائلة:
“نحن بحاجة إلى دفع كلا الطرفين نحو حل الدولتين. يجب أن يتمتع الفلسطينيون بحقوقهم في الحرية والكرامة، ويجب أن تعيش إسرائيل بأمان.”
(“We need to help the parties move toward a two-state solution. The Palestinian people are entitled to self-determination and dignity, and Israel is entitled to live in peace and security.”)
في لقاء عام 2019 أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، قالت هاريس:
“أمن إسرائيل غير قابل للتفاوض، وأمريكا وإسرائيل ستستمران في شراكتهما الأمنية العميقة.”
(“Israel’s security is non-negotiable, and America’s commitment to Israel’s security will never change.”)
في نهاية المطاف، يبقى الحكم على ترامب مسألة مفتوحة. هل هو قوي بما يكفي لمواجهة التحديات العالمية الكبرى أم أن قوته تكمن فقط في استعراضات داخلية تفتقر إلى العمق الاستراتيجي؟ الأيام القادمة ستكشف الكثير، ولكن الواضح أن النهج الذي يتبعه في حملته الحالية يحمل في طياته العديد من المؤشرات المثيرة للتساؤلات.
وفي الختام
يبقى أنْ نجيب على السؤال: ما هي مآلات ما يجري في واشنطن على مستقبل سوريا؟
في خضم التنافس السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين، يبقى السؤال الذي يثيره العديد من المحللين ومنظمات السوريين الأمريكيين هو: هل تغير أي شيء جذرياً فيما يخص الأزمة السورية؟ يعتقد الكثيرون أن السياسات الأمريكية، سواء أكانت تحت إدارة الجمهوريين أو الديمقراطيين، لا تهدف سوى إلى الحفاظ على استمرار حالة الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية. هذه الفوضى التي تعمل على تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، حيث يتم تمكين إسرائيل من السيطرة والهيمنة على المنطقة بقيادة صهيو-أمريكية محكمة.
بناءً على هذا التصور، فإن قرارات واشنطن لم تُبنَ على أساس تحقيق استقرار حقيقي في سوريا، بل جاءت لإدارة الأزمة بما يخدم مصالح استراتيجية طويلة الأمد، بعيداً عن أي حلول جذرية. ويعبر المثل العربي “لكل زمان رجال” عن هذا الأمر ببلاغة؛ ففي كل عصر تتغير الظروف، وتظهر قيادات تناسب تلك الظروف وتخدم مصالح القوى المسيطرة في ذلك الزمان. واليوم، يبدو أن تلك القيادة قد آلت إلى مشروع الهيمنة الإسرائيلية بغطاء أمريكي، تحت ذريعة نشر الديمقراطية والإصلاح، فيما يُترك الشرق الأوسط ضحية لسياسات القوى العظمى.